شكري القوتلي.. القيادة في زمن الأزمة

2020.01.14 | 16:26 دمشق

al-qwatly.jpg
+A
حجم الخط
-A

كتب كثير عن حياة أول رئيس لسوريا شكري القوتلي، لكن لم يكتب ما يستحق الاهتمام عبر التركيز على دوره القيادي في بناء أمة بعد سنوات طويلة من عقود الاستعمار، لم يكن احتلالا كولونيالياً فقط بل كان اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا واجتماعيا، وأعني بذلك أنه ركز على تفتيت مقومات الأمة السورية الناشئة حينها، حيث قسمها على أسس طائفية كدولتي العلويين والدروز، وهو ما حطم الملاط الجامع بين المواطنين بوصفهم سوريين أولا وأخيراً.

كل الكتابات اليسارية التي طغت على التاريخ السوري كانت تستسهل نقد القوتلي بوصفه بورجوازياً وتركز على خلفيته المدينية حيث اعتمد بشكل رئيسي على إبقاء النخبة الدمشقية في مناصبه الحكومية كخالد العظم وغيره وكان يرفض أي نوع من النقد الشخصي له والأهم خطيئته في تعديل الدستور من أجل دورة دستورية ثانية له، أما الكتابات القومية البعثية فكانت تركز على موقفه من الوحدة العربية وخلافاته الدائمة مع الوحدة العراقية أو الأردنية أي الهاشمية لأنه كان يعلي دوما من فكرة الجمهورية البرلمانية على حساب الوحدة السورية مع دول عربية أخرى وكان يعتبر أن جامعة الدول العربية هي المكان المناسب لتعزيز التطلعات القومية.

كلا النوعين من الكتابات لم يركز على المواقف القيادية الفريدة التي ميزت القوتلي وشخصيته وجعلته ربما قريبا من مانديلا في إدارته لجنوب إفريقيا بعد انتخابات 1994 والتخلص من نظام التفرقة والتمييز العنصري، وسأكتفي هنا بموقف واحد فقط أركز من خلاله على دوره القيادي الرائد للأمة السورية، فعقب تطبيق المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936 اعترفت فرنسا وللمرة الأولى بوحدة الأراضي السورية وتخلت عن التقسيم الإداري والطائفي وهو ما شكل اعتراضا للدروز والعلويين بشكل أكبر الذين كانوا في أغلبيتهم يؤيدون بقاء دولتهم المستقلة تحت الحماية الفرنسية وأرسلوا عرائض للمفوض الفرنسي بذلك أشهرها تلك التي وقعها أكثر من 60 شخصية من وجهاء العلويين منهم جد حافظ الأسد إلى المفوض الفرنسي يطالبونه بالحفاظ على دولة العلويين المستقلة، كان القوتلي كزعيم للكتلة الوطنية يدرك كل هذه النقاشات داخل المحيط العلوي ولذلك أراد أن يظهر للعلويين أن مصلحتهم إنما تكمن في سوريا الموحدة المستقلة وأن الفرنسيين لن يقوموا بحمايتهم، وهنا أتت فكرة صناعة وتظهير وتمجيدُ الشيخ صالح العلي كبطلٍ سوريٍ وطنيٍ في عام 1945. ففي عام  1945، وَبينما كان مستقبل استقلال العلويين متأرجحاً وَغير واضح المعالم، فما إن وصل النزاع بين الفرنسيين وَالسوريين ذروته سنة 1945، حتى اقترح عبد اللطيف اليونس العلوي القومي والمؤيد للقوتلي فكرة الاعتماد على بطلٍ علمانيٍ: شخصيةٍ يمكن إقحامها داخل هيكل المجاهدين الوطنيين، وَيمكن نسج أسطورةٍ وطنيةٍ جديدةٍ حولها ليعتنقها العلويون.

وَمن بين جميع الزعماء العلويين لم يكن ثمة من هو أنسب للعب هذا الدور من ’المجاهد الكبير‘ الشيخ صالح العلي. وَقد أوضح عبد اللطيف اليونس على أفضل وجهٍ الأسباب التي أدت إلى اختياره كما يذكر في مذكراته:

"قمتُ في مطلع عام 1945 بزيارة المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي قائد الثورة التي حملت اسمه، وَالتي استمرت على مدار ثلاث سنواتٍ وَنصف في الفترة ما بين عامي 1918 وَ1922. حيث قمت بزيارته في مقره الشتوي في بلدة الرستن التي تقع على مقربةٍ من بلدة الشيخ بدر، مقر الثورة.

لقد شن الشيخ ثورته ضد الفرنسيين منذ لحظة دخولهم البلاد. بل إن الشيخ قد سبق له أن تزعم ثورةً ضد الأتراك كانت على صلةٍ بالثورة العربية الكبرى التي قادها الملك حسين (الجد) في أرض الحجاز.

لقد كانت ثورة الشيخ صالح العلي أولى الثورات في سوريا، حيث إنها قد بدأت منذ لحظة دخول الفرنسيين في عام 1918 - كما أن الثورات التي اندلعت لاحقا كانت مستوحاةً منها وَمرتبطةً بها.

وَإني إذ أقول هذا لا أنتقص من عظمة الثورة السورية الكبرى التي قادها المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش ما بين عامي (1925-1927).  فثورته التي نفتخر وَنُشيدُ بها، ممجدةُ في تاريخنا الوطني، وَكذلك ثورة الدنادشة في تل كلخ، ثورة هنانو في حلب، إضافةً إلى الثورات الأخرى هنا وَهناك. فجميعها مدعاةٌ لأن نفخر بها، وَنمجدها وَنشيد بها.

غير أننا الآن بصدد الحديث عن الثورة السباقة التي قادها الشيخ صالح العلي، وَالتي كانت فعلاً سباقة كونها قد بدأت قبل انطلاق جميع الثورات الأخرى وَفاقتهم على صعيدي النطاق وَالامتداد الزمني".

إلا أنه قد تأكدَ لاحقاً أن مهمة تمجيد الشيخ صالح العلي لم تكن مهمةً يسيرةً على الإطلاق. فقد تعين على يونس قهر المعارضة الشديدة التي لم تقتصر فحسب على الزعماء العلويين، بل شملت العديد من المجاهدين السوريين الذين قاتلوا مع الملك فيصل أو في الثورة السورية الكبرى. غيرَ أن القوميين السوريين السنة لم يعتبروا الشيخ صالح العلي من بين صفوة الشخصيات الوطنية السورية التي يشار إليها بالبنان. فهم لم يكونوا ليرحبوا بضمه إلى مرتبتهم وَمن المؤكد أنهم لم يكونوا مستعدين للإشادة به بوصفه ’رائد‘ المقاومة الوطنية السورية ضد الفرنسيين.

فحتى حلول اليوم الذي جاء فيه يونس بفكرة نقل مكانة الشيخ صالح العلي من بطلٍ شعبيٍ إلى رمزٍ من الرموز الوطنية السورية، كان الشيخ يعيش شبه منسيٍ وسط ظروفٍ قاسيةٍ في قريته الجبلية الصغيرة الرستن. حيث يظهر في أحد الصور القديمة متقلداً سيفه المقوس المعلق بحزامه وَمرتدياً درعاً صدرياً من المعدن المثخن بالضربات مثبتاً فوق عباءته حسب تعبير باتريك سيل. أما بالنسبة لكونه أمياً فإن الأمر لم يكن ذي أهميةٍ تذكر، حيث قام يونس بكتابة وَإلقاء جميع خطاباته. فبالنسبة ليونس، كان الشيخ صالح العلي المرشح الأمثل للعب دور البطل الجديد وَالرمز المثالي لرسالته الوطنية: فقد تخلى عن الحياة السياسية عقب قمع ثورته سنة 1922ـ، كما كان معروفاً بتنسكه وَإغراقه في الصوفية، وَعلى عكس ما يوحي به مظهره من قسوة، فقد كان دمث الأخلاق سهل المعشر. وَحسب ما ذكره يونس لمحافظ اللاذقية وَللرئيس السوري، فإن من شأن تكريم الشيخ أن ’ يخدم أهداف جمع حشدٍ وطنيٍ كبير خلال هذه المرحلة التي نشب فيها النزاع بين الحكومة الوطنية وَالفرنسيين... أضف إلى ذلك أن المجاهد الشيخ صالح العلي أهلٌ لكل تشريف.‘

وَنظراً لما تمتعت به خطة يونس من أهميةٍ سياسيةٍ، فقد قام كلٌ من محافظ اللاذقية، رئيس الجمهورية، وَرئيس الوزراء بإعطاء وعودهم ليونس بتقديم أي عونٍ يحتاجه.  

يذكر جوشوا لانديز في كتابه عن الزعامة وسياسات القومية "أنه كان من الصعب على السوريين أن يستوعبوا قيام الشيخ صالح بالقتال في سبيل الحرية وَالاستقلال على غرار باقي المجاهدين؟ كما كان من الصعب جداً إقناع السوريين بأن العلويين قد لعبوا دوراً صميمياً في النضال القومي؟ فلم يكن بوسعهم إدراك عدم كون جميع العلويين نسخاً عن سليمان المرشد؟ لقد كانت هذه هي الأسئلة التي استحوذت على يونس أثناء كتابته عن كفاحه من أجل إدراج ثورة الشيخ صالح العلي بين صفحات التاريخ السوري الوطني. فعلى عكس رئيسه القوتلي، لم يكن هدف يونس الأول من خلال تكريم الشيخ، ذر الملح في جراح فرنسا لتزداد تفاقماً. فطموحه كان أبعدَ من ذلك بكثير، فقد أراد إعادة كتابة التاريخ السوري الوطني - وأن يحكم نسج حكاية الطائفة العلوية داخل النسيج الرئيسي لقصة النضال السوري في سبيل الاستقلال على نحوٍ لا يمكن فك خيوطه بعدها. فيونس لم يرغب بأن يستحضر السوريون صورة سليمان المرشد، قاطع الطريق المعادي للسوريين، أثناء تكوين تصورهم عن العلويين. فقد أرادهم أن يستحضروا المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي الوطني الرائد".

فتمجيد الشيخ صالح العلي قد قدم لسوريا بطلها العلوي الأول، وَكان المرة الأولى التي يتم فيها احتواء الطائفة العلوية ضمن الأسطورة الوطنية.

 يضيف لانديز "لقد مثلَ تمجيد الشيخ صالح العلي في اللاذقية مجرد بداية صعوده الصاروخي السرعة نحو مرتبة القداسة الوطنية. فقد أرسل الرئيس القوتلي دعوةً خاصةً إلى الشيخ صالح للقدوم إلى دمشق وَالمشاركة في الاحتفال الوطني بعيد الجلاء، في السابع عشر من نيسان عام 1946. وَتم الطلب من الشيخ التوجه بخطابه إلى الجموع خلال الاحتفالات الرسمية بوصفه أول قادة الثورة السورية، وَأول من وجه السلاح نحو الفرنسيين. فقام القوتلي بتلخيص ما قدمه من أعمالٍ بطوليةٍ للأمة موضحاً الأسباب التي جعلت من الشيخ علي أول مجاهدٍ وطنيٍ في سوريا، وَالمجاهد الذي قاتل الفرنسيين. وَما إن فرغ من خطابه، حتى اندفعت الجماهير المحتشدة تهتفُ على نحوٍ طويلٍ وَمكثفٍ بينما نهضَ الرئيس القوتلي وَقام بضم الشيخ وَتقبيله من الخدين. وَخاطب الرئيسُ الشيخَ بصوتٍ مرتفعٍ بما يكفي ليسمعه الجميع:

يا شيخ صالح إن اليوم هو يومك. فأنت من علمنا الوطنية، وَمن دفعنا إلى الجهاد، فأنت أول من أطلق رصاص سلاحه في وجه الفرنسيين. إن العيد لعيدك، وَالحفلة حفلتك. فإننا إذ نحتفلُ بالجلاء، نحتفلٌ بك وَبجهادك.

وَعلى الرغم من عدم تجاوز عدد العلويين الذين تمكنوا من حضور تمجيد الشيخ صالح في يوم الجلاء الستة أوالسبعة علويين، إلا أن رمزية هذا التمجيد كانت بالغة الأهمية. فبغية تعويض العلوية عن خسارتهم لاستقلالهم، قام الرئيس بمنحهم دوراً قيادياً في الأسطورة الوطنية.

صحيح أن محاولة القوتلي لخلقِ أسطورةٍ وطنيةٍ جديدةٍ لسورية في يوم احتفالات الجلاء قد ولدت له من الأعداء ما لا يقل عمن كسبهم كأصدقاء. فلم يكن من الممكن إزالة الانقسامات المريرة التي اجتاحت المجتمع السوري باللجوء إلى التلاعب بالتاريخ الوطني السوري وَرموزه. فعلى الرغم من السعادة التي شعر بها أغلب السوريين لدى نيلهم استقلالهم، إلا أن قلةً قليلةً منهم كانوا على استعدادٍ لنسيان عداواتهم وَأحقادهم القديمة أو الاعتقاد بأن تحقيق الوحدة سوف يكون أمراً يسير المنال.