شعوب سوريا في فرنسا

2023.08.04 | 07:28 دمشق

شعوب سوريا في فرنسا
+A
حجم الخط
-A

حضرتُ الشهر الماضي جلسة نقاشٍ نظمتها جمعيةٌ سورية في إحدى المدن الفرنسية. كان موجوداً في الجلسة عددٌ من السوريين ممن يقطنون في تلك المدينة، وقد التفّوا حول أحدهم ممن توسّموا فيه النباهة والذكاء كي يجيب عن أسئلتهم وبواعث قلقهم بخصوص موضوع "الهوية الوطنية السورية". وهكذا راح الحضور يطرحون أسئلةً وجدتُها سطحيةً وبعيدة عن الواقع على ذلك الرجل المسكين الذي تورّط بتصدّر الجلسة، إلى أن سأل أحد الحاضرين: "ما دور المسلسلات التلفزيونية مثل (بقعة ضوء) و(مرايا) في تعزيز الهوية الوطنية السورية؟" ثم استفسر آخر: "لماذا نستخدم كلمة القطر في الحديث عن سوريا؟ أنا لا أحبّ أن أقول: القطر العربي السوري!"

لم أنتظر إجابات الرجل الذي انهمرت عليه الأسئلة، حيث نهضت وأسرعت بالخروج مدركاً أنني واقعٌ في فخّ، فقد كنت في حضرة حشدٍ من المؤيدين للنظام في غالبيتهم المطلقة، أو على الأقل بين زمرةٍ من البلهاء عديمي الإحساس والشعور بما نُكِب به أهلنا وبلدنا عبر السنوات القليلة الماضية. واستنتجت أن الحضور في معظمهم ليسوا لاجئين سياسيين، بل مهاجرين غادروا مناطق سيطرة النظام لأسبابٍ اقتصادية. فبعد أن تشرد نصف سكان سوريا ومات نصف مليون من السوريين وجدتهم يطرحون أسئلةً توحي بأن الذي حصل لم يمرّ عليهم قطّ، ولم يغير في حياتهم شيئاً، والأسوأ أنه لم يحرك فيهم أية مشاعر إنسانية - حيث لم نصل بعد للمشاعر الوطنية - كي ينظروا للهوية السورية من زاويةٍ غير زاوية المسلسلات التلفزيونية والحلقات الحزبية، وكي يسألوا الأسئلة المصيرية الكبرى التي يسألها معظم السوريين لأنفسهم بكل مكانٍ اليوم، داخل سوريا وخارجها.

السوريون في أوروبا - وعلى الأخصّ في فرنسا - ليسوا أمةً واحدة على ما يبدو حتى ليخيّل إليّ أحياناً أن من أطلق على السوريين اسم "شعوب سوريا" لم يكن مخطئاً تماماً، فنحن السوريين في فرنسا بالفعل شعوب، لكن ليس على أساسٍ عرقي، بل أخلاقي

بعض الأشخاص في المنفى ما إن نقترب منهم حتى نمتلئ خيبةً بهم، وأكبر الخيبات غالباً ما تأتي من بعض السوريين. فالسوريون في أوروبا - وعلى الأخصّ في فرنسا - ليسوا أمةً واحدة على ما يبدو حتى ليخيّل إليّ أحياناً أن من أطلق على السوريين اسم "شعوب سوريا" لم يكن مخطئاً تماماً، فنحن السوريين في فرنسا بالفعل شعوباً، لكن ليس على أساسٍ عرقي، بل أخلاقي. في فرنسا هناك الشبيح الصّرف، وهناك نصف الشبيح. هناك المؤيد الفعّال وهناك المؤيد الصامت. هناك الثائر البطل وهناك الإنسان العادي "غير الجاني" ممن ما يزال مشتّت التركيز من هوْل ما حصل. وهناك أشخاصٌ لا نظلمهم أبداً لو سميناهم "أيتام بشار الأسد،" وهؤلاء ليسوا بالقليلين.  

التقيت مرةً في باريس بسيدةٍ سورية من سكان دمشق أقسمت - وهي ألفُ كاذبة - أنها سمعت بأذنها مئات المتظاهرين من شرفة منزلها في دمشق يهتفون: "العلوية عالتابوت والمسيحية عبيروت". والتقيت برجلٍ من حمص رفض التفوّه بكلمةٍ واحدة عندما انتقل الحديث إلى كارثة بلدنا وما حلّ بأهلنا، وقال لي معتذراً: "كما تعلم نحن المسيحيون محايدون" فبهتَني ولم أعرف بماذا أجيب. وغير هذا وتلك هناك الكثير من النماذج البشرية البائسة التي تجعلك تُحجم عن الاحتفاء بالشخص عندما تعلم أنه سوري، إذ عليك أن تتريث أولاً وتتبين حتى لا ينكسر خاطرك لاحقاً.

لا عجب أبداً أن النشاطات التي يقيمها هؤلاء ويدعوننا نحن الكومبارس المساكين من المنفيين قسراً لحضورها تفوح منها عفونة البعث، ونتانة النظام

وما هو محبطٌ أكثر أن غالبية التكتلات والجمعيات السورية التي أسست في فرنسا كمجالس للجالية السورية هنا، أسسها أشخاصٌ من تلك الزمر من المذبذبين، فولدت مريضة وحاملةً لجرثوماتٍ أسدية وطائفية ومناطقية وعائلية، وإن بقيت تتستّر ظاهراً على الأقل بصفة "سورية" وتتغطّى بدثارٍ كاذبٍ من المعارضة كي تحصل على تمويلٍ من الحكومة الفرنسية. وقد لاحظت أن كثيراً من الجمعيات أصحابها خريجو دراسات عليا ممن وصلوا فرنسا لإكمال دراستهم مبتعثين من قبل نظام بشار الأسد، وبتزكيةٍ من مخابرات النظام، كما هو معلوم من حال المنح الدراسية في سوريا الأسد. ولذلك فلا عجب أبداً أن النشاطات التي يقيمها هؤلاء ويدعوننا نحن الكومبارس المساكين من المنفيين قسراً لحضورها تفوح منها عفونة البعث، ونتانة النظام.

أذكر في إحدى الأمسيات التي أقامتها جمعيةٌ "سورية" في مدينة نانسي أني تكلمت بشيءٍ عن دور فرنسا التاريخي في ولادة جيشٍ مريضٍ بالطائفية في سوريا وكان بين الحضور مثقفون فرنسيون لم يزعجهم أبداً ما ذكرت، لكن مدير تلك الجمعية قاطعني بفجاجة ليقول إن الكلام غير دقيق وأنه لا يتفق معي.. الخ! ولما دهشتني ردة فعله فتّشت في أحوال جمعيته فاكتشفت أنها أسست على أيدي مُبتعثين من قبل النظام، بعد النزوح السوري الكبير إلى أوروبا، باسم السوريين وتحت غطاءٍ من المعارضة كاذب، حيث بقيت الجمعية تحت إدارة وإشراف وعضوية ورؤية عائلةٍ واحدة من مدينةٍ واحدة ومن طائفةٍ واحدة. فما أشبه تلك الجمعية وأخواتها بسوريا الأسد التي هربنا منها.