icon
التغطية الحية

شعر الفكاهة والتحامق.. صفحة من تراثنا الأدبي الخصب

2022.08.22 | 08:09 دمشق

نادر
+A
حجم الخط
-A

صارت التسليةُ عنواناً عريضاً من عناوين الحياة في عصر العباسيين وما تلاه من عصور انحدار، وعلى بساط الفكاهة والسَّمر جلس الوزراءُ والأمراء يستمعون إلى أصحاب الظرف والنوادر، البسماتُ صغيرةٌ وكبيرةٌ فوق الشفاه، والضحكُ ينافس الموسيقا في أنغامه.

حتى العامةُ والغارقون في سواد العيش طاب لهم أن يُغيِّبوا همومَهم وراءَ ستارة من التسلية والفرفشة، واستطاعت الفكاهةُ بسحرها أن تحلَّ بعضَ العُقَد، وتُقرِّبَ القلوبَ بعضَها من بعض.

في ظل هذا المزاج الراغب في المسرَّة والمرح بدأت الفكاهةُ تأخذ طريقَها إلى نصوص الشعراء، فنظمَ بعضهم بين حين وآخر قصائدَ مطبوعةً بالفكاهة.. قصائدَ أكثرها من الحجم الصغير، ثم إذا بهم مع مرور الوقت يُكثرون من ذلك. لم تكن غايتهم منافسةَ الشِّعر الجاد بشعرهم الفكه أو عرضَ هذه البضاعة الشعرية على الملأ في المحافل العامة، لكنَّ شاغلَهم الأول- فيما يبدو- صُنْعُ المداعبات والنقدُ الضاحك العابر لهذا النقيصة أو تلك.

استجابةً لهذه الحالة تخفف هؤلاء من المتطلبات الفنية للشِّعر الجيد، ونزلوا  بقرائحهم نحو موضوعات عادية أو هابطة كوصف الأطعمة، والتعزية بوفاة قط أو حمار، والتندر بثوب قديم يُصرُّ صاحبه على ارتدائه!

وها هو الحمار العاشق يدخل دنيا الشِّعر، مُسجِّلاً فتحاً بحضوره على يد بشار بن برد، فالشاعر مات له حمار، فاخترع لموته حكايةً مضحكة، خلاصتها أن الحمار لم يمت موتاً عادياً، وإنما كان قتيلَ غرام، ومَنْ هي المحبوبة؟ وما صفاتها الجمالية التي فتكتْ به؟ يخبره الحمار عن كلِّ ذلك حين رآه في النوم، والشاعر ينقل الخبر في هذه الأبيات، وهي بلسان حماره(1):

"سيدي خذ لي أماناً/ من أتانِ الأصفهاني

تيَّمتني حين رحنا/ بثناياها الحِسانِ

وبغنجٍ ودلالٍ/ سلَّ جسمي، وبراني

ولها خدٌّ أسيلٌ/ مثلُ خد الشَّنْفُرانِ

فبها متُّ، ولو عشـ/... ـتُ إذاً طالَ هواني"

نلاحظ في الجانب الفني لهذا النص أن الشاعر يصنع الدعابة من نقل الحب بما فيه من رهافة إلى عالم الحمير المعروفة بالبلادة، ومن الإتيان ببعض الألفاظ الغريبة على الناس والمعجم أيضاً كلفظة: (الشَّنْفُران)، وقد سأله رجل عنها، فقال باسماً: هي من غريب الحمار، فإن لقيتَ حماراً فاسأله.

والشاعر جَحْظة يُسجِّل فتحاً آخر حينما يأتي بالقطايف إلى عالم الشعر، ومراده أن يهجو- بطريقة فكهة- رجلاً بخيلاً قدَّمَ له الحلوى مُكرهاً، واغتاظ حين رآه يأكل القطايفَ بالأسلوب الذي يصفه العامة بقولهم: (يا هالك.. يا مالك)، قال جحظة(2):

"دعاني صديـقٌ لي لأكلِ القطايفِ/ فأقبلتُ فيها آمناً غيرَ خــائفِ

فقـال وقد أوجعتُ بالأكل قلبَــهُ/ رويدكَ مهلاً، فهي إحدى المتالفِ

فقلتُ له: ما إنْ سمعنــا بهالكٍ/ يُنادَى عليه: يا قتيلَ القطــايفِ"

هنا يَبرز السردُ حاملاً أسلوبياً، وهو سرد حكائي خفيف الظل، يتضمن خبراً طريفاً، واقعياً على ما يبدو، حوَّله الشاعر إلى دنيا الشعر، والسرد- كما يتضح لنا- يُفسح مجالاً للحوار، فنجده خفيفَ الظل أيضاً ومحتدماً، متصاعداً بين النَّهِم محبِّ  القطايف، وبين البخيل صاحبِها.

ولعل مما يرفع درجةَ الدهشة أن نشير إلى تلك الأجواء الغريبة التي نُظِمَ فيها عددٌ من أشعار الفكاهة، فهي لم تتنزل على صاحبها في بستان أو خلوة، وإنما في ضجيج السوق.. كان الشاعر نصر بن أحمد رجلاً أُمِّياً، عملُه فرَّان.. نعم فرَّان يخبز خُبزَ الأرز في دكانه بمربد البصرة، ولأجل ذلك لُقِّبَ بـ(الخبز أرزي). خلال قيامه بصنع الأرغفة كان يترنم بأبيات طازجة تجود بها قريحته، والأغرب أنه قَصرَ شعرَه الفكاهي على الغزل. من مأثوراته(3):

"قد كان لي فيمـا مضى خاتمٌ/ واليومَ لو شئتُ تمنطقتُ بهْ

وذبتُ حتى صرتُ لو زُجَّ بي/ في مقــلةِ النائم لم ينتبهْ"

وقد نندهش أكثر إذا التفتنا إلى أشعار المتحامقين، وهم جماعة من الشعراء استعذبوا حالةً من التحامق أسبغوها على أنفسهم، ومعنى التحامق: افتعال الحمق والخفة والسفاهة. وقد مارس هؤلاء تحامقَهم في قول الشعر وخارج الشعر أحياناً، وكأنهم مهرّجون أو أنصافُ مجانين! ومن الأخبار الطريفة في ذلك أن الشاعر أبا دلامة المعروف بصنع المرح والدعابات في مجالس السادة وجد نفسَه ذات يوم في حالة بالغةِ الحرج، ففي مكان عامرٍ بعلية القوم أمرَهُ أحدهم أن يهجو شخصاً من الموجودين، وإلا فسيلقى ما لا يسره، بلع أبو دلامة ريقه، تلفَّتَ ولم يجد مخرجاً إلا في هجاء شخصه، فقال(4):

"ألا أبلــغْ لديك أبا دلامـهْ/ فليس من الكرام ولا كرامهْ

إذا لبسَ العمامـةَ كان قرداً/ وخنزيراً إذا نَزَعَ العمامـهْ

جمعتَ دمامةً، وجمعتَ لؤماً/ كذاك اللـؤمُ تتبعه الدَّمامهْ

فإن تكُ قد أصبتَ نعيمَ دنيا/ فلا تفرحْ فقـد دنتِ القيامهْ"

ولعل أبا العِبَر يفوق أبا دلامة في تحامقه، فقد جعل من نفسه- عن سابق عمد وإصرار- أضحوكةً في مجلس الخليفة العباسي المتوكل، ومما يُروَى من أخباره أنه كان يقوم بدور السمكة.. فيُقذَفُ به في الماء، ثم تُرمَى فوقه الشِّباك ليُصاد، وفي ذلك يقول:

 ويأمر بي ذا المَـلَكْ/ فيطـرحني في البِرَكْ

ويصطـادني بالشبَكْ/ كـأنيَ بعضُ السـمكْ    

وُيعَدُّ أبو العِبَر من الشعراء الشعبيين، وقد يعمد إلى التلاعب بالكلام هازئاً بالنحو والفصاحة والوزن، رغبةً منه في إضحاك السامعين كقوله(5):

أنا أنا أنت أنــا/ أيا أبــو العِبَرنَّهْ

أنا الفتى الحمقوقو/ أنا أبــو المجنَّهْ

أنا أحـرر شِعري/ وقــد يجي بَردنَّهْ"

لم يكن ذلك التحامق مجانياً لمجرد الإضحاك، فأصحابه استفادوا منه مكاسبَ كثيرة، وهم لا يخفون ذلك، بل يتباهون به، قال أبو العِجْل(6):

"أيا عاذلي في الحمقِ دعني من العَذْلِ/ فإني رخيُّ البـالِ من كثرةِ الشُّغلِ

ومرني بمــا أحببتَ آتِ خلافَــهُ/ فإنْ جئتَني بالجِــد جئتُكَ بالهزلِ

فأصبحتُ في الحمقى أميـراً مُؤمَّراً/ وما أحـدٌ في الناس يمكنه عزلي

وصيَّـرَ لي حمقي بغـالاً وغُلمـةً/ وكنتُ زمانَ العقل ممتطياً رِجْلي!"

في هذه الأبيات نجد أنفسنا أمام فخامة أسلوبية تأتي من البحر الطويل، ومن أسلوب النداء: أيا عاذلي، ومن بعض الصيغ ذات الجزالة مثل: أميراً مؤمَّراً، هذه الفخامة جديرة بنص في الحرب أو الحكمة، لكنَّ استعمالها في مدح الحمق يصنع مفارقةً مرحة تُعزز نواتجَ المرح القادمة من جهة المضمون.

أقول أخيراً: إننا لا يجوز أن ننخدع، فنظن أن المتحامقين الذين أضحكوا سواهم، وظفروا ببعض النعيم كانوا يضحكون هم ملءَ قلوبهم. إن حالتهم النفسية تستحق التفكُّرَ والمساءلة، فهل كان هؤلاء ألعوبةً في يد مجتمعهم؟ أم ألعوبةً في يد أنفسهم؟ أم أن صدورهم ضاقتْ بما لا يقال في زمانهم، ففروا من ذلك الضيق إلى التهريج؟ 


  1. إبراهيم عبد القادر المازني- أعلام الإسلام – ص 73 + 74 – عن دائرة المعارف الإسلامية بمصر 1944
  2.  شوقي ضيف- العصر العباسي الثاني- ص 507- دار المعارف بمصر 1975
  3. المصدر السابق- ص 511  
  4. عبد القادر حمود-هكذا يسخر الشعراء- ص 137    
  5. شوقي ضيف- العصر العباسي الثاني- ص 502
  6. المصدر السابق أيضاً- ص 503