icon
التغطية الحية

شعراء في ظل التراجيديا السورية.. قراءة في الشعر السوري وتحولاته

2020.10.26 | 08:22 دمشق

swsw.jpg
إسطنبول- أحمد طلب الناصر
+A
حجم الخط
-A

كتب محمود درويش قصيدته/ الملحمة "مديح الظل العالي" (1983)، في أحد أحلك ظروفٍ يمكن أن يمرّ بها إنسان/ شاعر تنطبق عليه مواصفات درويش؛ كفلسطيني لاجئ في لبنان، وسط حرب أهلية مستعرة، ومحسوب على أحد أطرافها، "منظمة التحرير الفلسطينية" التي أرغمت على مغادرة بيروت، المجتاحة والمحاصرة من قبل جيش إسرائيل، والتي ارتكِبت فيها مجزرتا "صبرا" و"شاتيلا" بحق الفلسطينيين العزّل.

بالرغم من كل هذا وذاك، خرج درويش ليقول:

"نَمْ يا حبيبي، ساعةً

لنمُرَّ من أحلامك الأولى إلى عطش البحار إلى البحارِ.

نَمْ ساعةً، نَمْ يا حبيبي ساعةً

حتى تتوب المجدلَّيةُ مرةً أخرى ويتَّضحَ انتحاري

نَمْ يا حبيبي ساعةً

حتى يعود الرومُ، حتى نطردَ الحرَّاسَ عن أَسوار قلعتنا،

وتنكسر الصواري.

نَمْ ساعةً. نم يا حبيبي

كي نصفِّق لاغتصاب نسائنا في شارع الشَّرف التِّجاري

نَمْ يا حبيبي ساعةً، حتى نموتْ

هيَ ساعةٌ لوضوحنا

هيَ ساعةٌ لغموضِ ميلادِ النهارِ"

****    ****

"نفتحُ علبةَ السردين، تقصفها المدافعُ

نحتمي بستارةِ الشباك، تهتز البناية. تقفزُ الأبوابُ"

****    ****

"ونمشي في الشوارعِ باحثين عن السلامة

من سيدفننا إذا متنا؟

عرايا نحن، لا أُفقٌ يُغَطينا ولا قبرٌ يوارينا".

 

كلمات وعبارات تصف حالةً هي أشبه ما تكون بحالة شاعر سوري، مُهجّر، عاش الحرب والدمار والمجازر، ومحسوب على طرف من أطرافها، برغبته أو رغماً عنه، ويتساءل عمّن يدفنه إذا مات حيث "لا أفق يغطيه ولا قبر يواريه".

الشعر، وخصوصيته السورية

كي تسجّل القصيدة، أي قصيدة، حضوراً جمالياً طاغياً وفق مقاييس ومعايير النقد، يجب على الشاعر تحمّل مشقّات جمّة خلال مراحل التكوين اللغوي للقصيدة، بحيث يتناسب هذا التكوين مع الصورة المراد عرضها، عبر آلية مزجٍ دقيقةٍ وحساسة ومسؤولة، لتخرج في النهاية على هيئة نصٍّ إبداعي رصين.

شاهد: كيف اعتقل النظام السوري عائلة الشاعر فرج بيرقدار؟

في الحالة السورية، ساهمت عوامل عديدة في إفراز شعراء ومبدعين من جهة ونتاجٍ شعري بمضامين جديدة ومختلفة واستثنائية من جهة أخرى. ومهما حاولنا تحييد عامل المأساة التي خلفها الدمار والموت والتهجير، في تكوين وإفراز نمط الشعر السوري الحالي وشخوصه؛ فسيكون تقييمنا منقوصاً بالتأكيد.

الكاتب والشاعر، علي سفر، يستبعد وجود علاقة "مباشرة" بين الحدث والشعر، يُمكن تمييزها بدقة. ويوضّح في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن الشعر "عندما يشكّل حالة استجابة للحدث بصورة مباشرة فسيكون شعراً آنياً ووقتياً، ويندرج بعضه ضمن خانة الشعر الخطابي والحماسي وهذا النمط له شعراؤه".

اقرأ أيضاً: الأدب النسوي السوري.. انكفاء الشعر وسيطرة الرواية الوثائقية

ولعلي سفر، خلال سنيّ الثورة، مجموعتان نثريتان، الأولى بعنوان "يوميات ميكانيكية ـ يوميات على هامش الحريق السوري" كتب نصوصها داخل مدينة دمشق خلال عامي 2012- 2013، دون أن ينشر شيئاً منها إلا بعد مغادرته البلاد في نهاية 2013، والثانية بعنوان "الفهرس السوري" صدرت بإسطنبول في منتصف 2018.

 

_37657_alig.jpg

 

على مجموعتيه، يعلّق سفر بالقول: "لم أكتب نصوصهما لغاية الشعر فقط، وإنما شعرت بحاجة لكتابة يوميات توثّق وتوصّف الحدث باللغة التي نملكها". ومن نصوص "يومياته الميكانيكية" التي وثّقها على إيقاعٍ يقارب إيقاع شعر (الهايكو) الياباني، نختار هذه النصوص:

 

"بأيد متورمة لا يتصافح الموتى

ويكتفون بعيون تتلاقى

بدلًا من العناقات والقبل

 ويحدث أن يرغب ميت بتقبيل ميتة

فلا يستطيعان

فالعواطف تتورم أيضًا.."

****    ****

" نافذة ثم شرفة ثم طاقة صغيرة

باب ثم بوابة ثم مدخل كبير

طائرة.. طائر.. عصفور

بحر/ نهر، ساقية

إلخ..إلخ..إلخ..

هي ذي أحلام السجناء

في القبو

مكتوبة بطريقة ميكانيكية".

****    ****

"هل تنتهي سنة؟

أم سنتان؟

بلاد ستبقى

رغم جور العابرين"

 

أثرٌ مباشر على النصّ

وربما كان للمنطقة التي ينحدر منها الشاعر "رشيد جمال" دورٌ في حدّية ومباشَرة لغته في التوصيف، إذ يطلق جمال، ابن مدينة "عين العرب/ كوباني"، نصوص مجموعته "موج شاحب" (2020)، بلا رموز أو ألقاب، وبلا استعارات لغوية تخفّف من وقع الصراخ والألم المسيطرَين على كل مقطع فيها، ليظهر أثر المأساة السورية جلياً على قصائده:

 

82937434_747065192732353_2123993659755991675_n.jpg

 

"امرأةٌ في سوق النخاسَة.

ميلادُ طفلٍ على شاطئ الموت.

وطنٌ مشرّدٌ

بينَ مغازلاتِ الرصاص.

حاضرٌ يتجرّدُ من ماضيه،

وزمانٌ ما زالَ يلاحقُ لعنةَ المكانِ

القابعِ في مخيّلته.

إنها لغةُ العابرين نحو الوجودِ

المثقَلِ بالضياع.

إنها لغةُ الحربِ

ولا شيءَ آخر".

****    ****

"عبيرُ تلك الأنثى

ملطّخٌ بنيبال (روسيّ)

وطفلُها ما زالَ يشمُّ

نسيمَ الخَرْدلِ

في رحمها.

القاطنون في حديقة القصرِ

يتفنّنون بقطف الأملِ،

وهندسةِ المقابرِ الجماعية.

إنهم في وليمة للموت

كلُّ المدعوِين من قصائدَ

لوحاتٍ

معزوفاتٍ موسيقيةٍ،

وقصصٍ قصيرةٍ

وطويلةٍ".


اقرأ أيضاً: هل لعبت الرواية السورية دوراً في الثورة؟

تغيير في النمط

وبمعزل عن مدى أثر المأساة وتفاوت حضورها في نصوص الشعراء السوريين، يرى الشاعر "عبد الله الحريري"، في أثناء حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن المرحلة المعاصرة للثورة خلّصت جيله "من نمطية معتَنقة كانت تحيط بالشعراء وبالمبدعين منهم، بل وبطرق حياتهم أيضاً".

 

d657fa8d-5251-4e75-b610-9bd762ce794f.jpg

 

ويؤكّد على أنها "كشفت عن دواخل مأزومة وقضايا متهالكة، ومنحتنا تجاربنا الخاصة بذات الوقت" متسائلاً "وما هي قيمة الكاتب، شاعراً كان أم غير شاعر، بلا تجربة؟".

من جانب آخر، يؤيد الحريري ما تطرق إليه "سفر" من حيث أن الأدب السوري الحالي "لم يَخلُص في معظمه إلا إلى انفعالات عاطفية متفاوتة وتوصيف توثيقي أكثر منه اعتناقي" وربط ذلك بما وصفه بـ "تشوّش الهوية الثورية الوطنية، نتيجة التداخلات والتعقيدات السياسية التي باتت تؤثّر على ذهنية الأديب/ الشاعر".

وبالنسبة للنص الشعري عند الحريري، نجده حريصاً على تحدّي قسوة الحدث وتفاصيله المأساوية، إذ ينتقي صوراً وجدانية ويوظفها بدقّة عند كل نوبة غضب أو نزعة كراهية أو شعورٍ بالتوحّش، وكأنه يسعى للحفاظ على شيء، ولو بسيط، من الاتزان، وسط كل هذا الخراب:

 

"بارد هذا الزناد

وعيني التي من زجاج

لا تحكني

سبابتي زئبق هذا الحي

الذي لا حي فيه

رأس الشارع

رأس صنبور الماء

رأس قط

رأس شاهدة قبر

رأس دمية

لكل هدف رأس

وكل رأس هدفْ

وأنا سيد هذا الهدوء/ الخراب

أضع الرصاصة دائماً في المنتصفْ

 

لا حياة للعدو الذي هناك

باسم كل الأصدقاء من خلفي

أطاردهم بفجأة في القلب أو في الرأس

أرقصهم بعضات النحاس

أشرب ذكرياتهم الباردة

وإذا انتهوا

أدلك رؤوس أصابعي

أشتري دمية برأس

أمسح رأس ابني بكف نظيفة

أقبل رأس زوجتي

وحين أبدأ عدّ الثقوب التي في رأسي

أتجاهل الذي في المنتصف

ذلك ثقب الشرف

****   ****

العيد وجهك.. عندما لا أرض تشبه طيننا؛

نحن الذين بلا صدى

شهداؤنا.. فرح الأغاني يسقطون من المآذن وحدهم

(الله أكبر)

أيها الشادي على أرواحنا.. سقطت هزوجك في المنافي

كلها راحت سدى

العيد ما عدنا إليه.. مكبلين بخوفكم

كان اسمه الموتَ

استرحنا حين أسميناه عين الشمس أو قمر الغريب

يدلنا لمآلنا، ونعيره أسماءنا البيضاء

كي يبقى بها متجددا

الآن عبد الله يعرف قبره الوحشي".

ولعبد الله الحريري مجموعتان شعريتان هما: "الشهيق إلى الرئة الحرام" و"لا تنس قلبك حافياً".

 

العودة إلى الشعر

بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على صدور آخر مجموعاته الشعرية، وكانت الخامسة، أصدر الشاعر الفراتي "كمال جمال بك" مجموعته الشعرية السادسة (2019) التي حملت عنوان "جسر الضلوع وهذه قصيدتي".

 

kamal.jpg

 

ضمّت المجموعة بين دفتيها 41 قصيدة، جميعها على الإطلاق نبتت من رحم المأساة السورية، بكل تفاصيلها وعناصرها، بالرغم من التنوّع في قصائد المجموعة، وتنقّلها بين ذكريات العشق وتوصيف الحواري القديمة في دمشق، إلا أنه لم يستطع تجاهل رجفة الحرب والدمار والتهجير وفراق أحبته:

"أُسَابِقُ الْمَوْتَ مَحْمُوْمَاً، عَلَىْ أَمَلٍ/

أَنْ أَسْتَفِيْقَ غَدَاً حُرَّاً مِنَ الْجَسَدِ

لَاْ تَسْتَدِيْمُ حَيَاةُ الطَّيْرِ فِيْ قَفَص

أَضْلَاْعُهُ تَكْتُمُ الأَنْفَاسَ فِيْ الْكَبِدِ"

****    ****

صَبَاحُ الشَّهَامَةِ ..

آنَ كِتَابُ الكَرَامَةِ..

آنَ السُّطُوْرُ بُحُوْرٌ

وآنَ الكَلامُ عَناَقِيْدُ لَحْم وَدَمْ

وآنَ الهَوَاءُ بَخُوْرٌ

وَتَرْقُصُ فِيْهِ طُيُوْرُ الألَمْ

صَبَاحُ اليَمَامَهْ

وَشَادِنُهَا عِنْدَ جَامعِها الأمَوِيّ..

يُرَتّلُ في كُلَّ شَوْقٍ مَقَامَا 

يبدو أن عودة جمال بك لكتابة الشعر بعد عقدين من الانقطاع عنه؛ خير جواب عن تساؤلنا حول حضور المأساة السورية وتأثيرها المباشر، ليس في النص الشعري السوري بل في إرغام الشاعر على إعادة علاقته مع الشعر مجدداً.

وعلى أية حال، فإن "النصّ وعلاقته بما جرى ويجري في سوريا، يحتاج لرصد ولدراسة نقدية مقارَنة، بين رؤية ولغة الأجيال السابقة للثورة بعقدين وثلاثة والأجيال التي أنتجت نصوصها خلال سنوات الثورة، كي ندرك عند أي جانب شعري نحن نقف اليوم" يختم علي سفر.