شبكات إيران في المنطقة: النشأة والمخاطر

2024.04.16 | 06:22 دمشق

757888888857857857
+A
حجم الخط
-A

انطلقت هذه الشبكات في المنطقة منذ أربعة عقود، وتحديداً عام 1982، في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، حيث أثمرت الجهود المبكرة للجمهورية الإسلامية في طرحها المركزي حول تصدير الثورة عن تأسيس أول ميليشيا خارج أراضيها، وهي حزب الله اللبناني، وذلك بالتنسيق الكامل مع الحرس الثوري الإيراني وتحت قيادته مباشرة.

وبالطبع، كان التأسيس قائماً على الروابط الطائفية، رغم الادعاءات في المقاومة والتحرير، هذا الحزب الميليشياوي الذي تحوّل لاحقاً إلى نموذج إيراني في تفتيت البلدان الأخرى، وخاصة العراق بعد الاحتلال الأميركي (2003)، وسوريا بعد ثورة عام 2011، حيث لعب دوراً محورياً في دعم نظام الأسد واستجلاب ميليشيات طائفية أخرى، سواء من العراق أو باكستان أو أفغانستان.

يتركز معظم نشاط هذه الشبكات في المنطقة العربية، ابتداءً من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن، وحتى فلسطين، ويُثبت هذا النشاط أنهم جزء لا يتجزأ من أمن طهران، وأداة لتحقيق مصالحها في المنطقة والعالم، ناهيك عن تفكيك النسيج الاجتماعي والسياسي وإعادة تشكيله وفق الرؤى الاستراتيجية لطهران بما يحقق استمرار نفوذها، وبالتالي توفير عمق استراتيجي ونفوذ إقليمي واسع لإيران، وفي الوقت نفسه إبعاد الأخطار المباشرة عن القيادة الإيرانية نتيجة ممارساتها، وتوفير نافذة لها تمكّنها من التهرّب والإنكار عن مخاطر أفعالها، باختصار، غدت هذه الشبكات قوة لإيران في المنطقة لتنفيذ مشاريعها بأبسط التكاليف، ومكّنتها من ممارسة نفوذ كبير وزرع عدم الاستقرار في جميع أرجاء المنطقة.

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كانت إيران تسيطر بشكلٍ ما على القرار في عاصمتين عربيتين: بيروت وبغداد.

شكل الغزو الأميركي للعراق (2003) وتحطيم أجهزة الدولة العراقية، والتعاون الوثيق بين الولايات المتحدة والميليشيات العراقية الشيعية المقيمة في طهران، الركيزة الثانية لتعميم تجربة حزب الله اللبناني في العراق. فبعد القضاء على العراق كدولة وجيش، التي كانت تشكل الواجهة الأولى ضد المشروع الإيراني، وسعي الولايات المتحدة لإعادة بناء أجهزة الدولة الوليدة وفق أسس المحاصصة الطائفية والإثنية؛ غدا من السهل انتشار إيران وزرع ميليشياتها الطائفية، حتى تمكّنت في النهاية من الاستحواذ على القرار العراقي، وخاصة في فترة الأعوام العشرة الماضية، حيث استغلت ظهور تنظيم داعش لتضفي في النهاية الطابع الرسمي على الميليشيات الطائفية، وتدخّلهم في العملية السياسية من خلال المشاركة في البرلمان، وبالتالي تقرّر مصير العراقيين بشكل "رسمي"، من خلال الصيغ السياسية القائمة، مع غضّ الطرف الأميركي عن تلك الممارسات.

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كانت إيران تسيطر بشكلٍ ما على القرار في عاصمتين عربيتين: بيروت وبغداد، من خلال الميليشيات العسكرية وتعبيراتها السياسية. ونظراً لما تشكّله سوريا وفق الرؤية الإيرانية من عمق استراتيجي أولاً، وممرّ ضروري لإبقاء الشريان مفتوحاً لإيصال الدعم بكل صنوفه إلى حزب الله، كونه يشكل النموذج والجوهرة لسياسة إيران ومطامعها، كان قرارها من البداية الوقوف بقوة إلى جانب نظام الأسد ومواجهة الجموع التي انطلقت تطالب بحياة كريمة وحرة، مهما كانت كلفة تلك المواجهة، فأوعزت إلى حزب الله بالتدخل المباشر والمشترك مع الحرس الثوري إلى جانب نظام الأسد، ولاحقاً، ونتيجة الاستنزاف الكبير في القوى البشرية في صفوفهم، عمدت إلى تأسيس الميليشيات الطائفية من شتى الأماكن تحت قيادة حزب الله والحرس الثوري.

لا يختلف الأمر في اليمن عما جرى في العواصم السابقة، ففي النهاية، تمكنت إيران من تشكيل "جيش الظل"، وذلك من خلال قيادة موحدة للحرس الثوري بالاشتراك والتشاور مع حزب الله اللبناني، يمكنه أن يزعزع الاستقرار في أيّ بلد وقتما يريد، وقد بينت الأحداث أنه صاحب القرار في لبنان والعراق، وأنه يسعى لأن يشغل المكانة ذاتها في اليمن وسوريا، رغم العراقيل الكثيرة المتمثلة بوجود روسيا، الداعم الأساسي لنظام الأسد من جهة، ووجود إسرائيل من جهة أخرى، التي تعتبر اقتراب إيران من حدودها خطراً لا يمكن التساهل معه، وهو ما حول سوريا إلى ساحة للصراع بينهما، وفي اليمن نتيجة جواره لدول الخليج وإشرافه على الممرات البحرية التي تعد أحد شرايين التجارة العالمية.

وعلى المستوى المجتمعي، وخاصة في سوريا، نتيجة للوضع الكارثي على كل المستويات في مناطق سيطرة النظام، تسعى إيران مستغلة تلك الظروف إلى نشر التشيع بين الفئات الفقيرة من الناس، وهم النسبة الكبيرة، مقابل تقديم الفتات، سواء مالياً أو عبر مساعدات غذائية وغيرها، ناهيك عن الدعم المعنوي الذي تغري به فئات الشباب للانخراط في ميليشياتها، وإرسال بعضهم في بعثات دراسية لإيران، فضلاً عن استقطاب شخصيات عشائرية، خاصة في دير الزور وحلب إلى صفها. أما دورها في تصنيع وتجارة المخدرات، وخاصة الكبتاغون، فقد غدا أحد الأخطار التي تهدد ليس سوريا فحسب، بل المنطقة، وما يشكله من قوة تدمير إضافية لجيل الشباب.

غدت إيران -بشكل مباشر أو غير مباشر- قوة فاعلة في المنطقة، حيث تغلغلت في مجالات عدة غير العسكرية والميليشاوية، فكانت لها المشاريع الاقتصادية والتعليمية والثقافية وغيرها.

انتقلت إيران من رؤية الخميني في تصدير الثورة التي لخّصها بمقولته: "ما لم نتوسع خارج إيران، ونبقى في هذه البيئة المغلقة، سنواجه الهزيمة بالتأكيد"، والتي ترجمت عملياً بالتدخل أولاً والتدمير ثانياً وأخيراً الاستحواذ على القرار في أكثر من عاصمة، وخلق نفوذ فعلي فيهم إلى رؤية قاسم سليماني المتلخصة في أن "الأزمات تولد الفرص"، التي تعني من جملة ما تعنيه دفع البلاد نحو مزيدٍ من الفوضى والتفكك، والسعي لاستثمار الحالة من أجل تعزيز مصالح إيران وتوسيع مجالها، بغية إبعاد التهديدات عن أراضيها وحصرها

في أماكن أخرى، وبالطبع هنا، في البلاد العربية التي غدت ساحة للتنافس على اقتسام النفوذ فيها بين القوى الإقليمية والدولية، وما الضربات الإسرائيلية والردود الإيرانية إلا إحدى تعبيرات ذلك الصراع.

غدت إيران -بشكل مباشر أو غير مباشر- قوة فاعلة في المنطقة، حيث تغلغلت في مجالات عدة غير العسكرية والميليشاوية، فكانت لها المشاريع الاقتصادية والتعليمية والثقافية وغيرها، وبالتالي صار من الصعب الخلاص منها عسكرياً فقط، إن لم يكن استخدام القوة بشكلها الحالي ضدّها، وخاصة من إسرائيل وأميركا، قد يكون له نتائج عكسية. وهذا يعني أنه من الضروري معالجة التحديات والمشكلات التي تخلقها أو تستغلها إيران، وخاصة ممارسات إسرائيل تجاه القضية الفلسطينية، والأمر الآخر، انتهاج سياسة بعيدة عن قناعة أوباما التي تتلخص بإمكانية إقناع إيران بقبول تسويات، تلك القناعة التي دفع ثمنها غالياً السوريون بعد ضربة الكيمياوي عام 2013، التي انتهت بترتيب ما يغضّ الطرف عن وحشية نظام الأسد، ما دام قد "تخلص" من أسلحته الكيمياوية، وطمعاً في توقيع الاتفاق النووي مع إيران الذي وقع لاحقاً (2015).

لقد غدت الأخطار الإيرانية متشعبة في مجالات عدة، ليس أخطرها الوجود العسكري، وإن كان يشكل الضمان المرئي لترسيخ التغلغل في المجالات الأخرى، التي تنخر وتفتت بنية المجتمع وتعزز خضوعه الأبدي، وبالتالي، لا بد من تفكير جديد بالتعامل معها يعالج المشكلات جميعها، وإلا فستزداد ترسخاً وثباتاً، ويغدو إخراجها من المنطقة مرادفاً لتدميرها الكلي.