سياسة الخطوط الحمراء

2024.06.14 | 06:09 دمشق

54444444444444444
+A
حجم الخط
-A

لا أعرف متى وُجد أول خط أحمر سياسي في العالم وفي أي زمن، لكن ما أنا متأكد منه، أنّ حافظ الأسد ومنذ سيطرته على كرسي الرئاسة في سوريا، كان في رأسه خطاً أحمر أولياً استراتيجياً ألا وهو: "ممنوع الاقتراب من الكرسي".

وحين جهّز وأنجز الأسد الأب طريق التوريث لابنه، مات مطمئناً إلى أن بشار يجلس على الكرسي، وما زال الأسد الأب يحكمنا من قبره في القرداحة.

مع أني لا أفقه في الرسم ولا في الألوان وتركيباتها، لكني كسوري يخاف من هويته، تذكرتُ اللون الأحمر ودلالاته، وربما أنتم أيضاً تذكرون الخط الأحمر الذي أعلنه مرة الرئيس الأميركي السابق، أوباما، على أن استخدام السلاح الكيماوي خط أحمر.

وحين ارتكب النظام مجزرة الكيماوي في آب 2013 ، توقعنا يومها أنه ستتمّ محاسبته عسكرياً، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وحدث سيناريو آخر ألا وهو تسليم مخزون الكيماوي الذي كان قد هيأه لمحاربتنا، واستمر الولد في الحكم حتى تاريخه.

لاتقربوا من موقع الرئاسة حتى لو بالتورية

منذ تشرين الأول عام 1970 يولد السوري وهو منتسب لطلائع البعث، والخط الأحمر الذي عليه تعلمه أن الرئيس وموقع الرئاسة خط أحمر. وينمو الطفل والخط معاً، لا بل يكبر الأحمر ليصبح خطوطاً حمراء متشابكة، بعضها اجتماعي وثقافي وسياسي، فهذا ممنوع، وهذا لا تقترب منه، وهناك منطقة عسكرية ممنوع التصوير والاقتراب منها وهكذا.

حين عملتُ في إعلام النظام كان علينا تعلّم درس الممنوعات الأول، وهو: عدم الاقتراب نقدياً من موقع الرئاسة ومعه وزارة الدفاع والمخابرات. ولاحقاً اكتشفتُ أن ممنوعاتنا السورية أكثر من ذلك بكثير.

فآل مخلوف وعلى رأسهم رامي كان ممنوعاً الاقتراب منهم ولو عبر التورية، ومعهم آل شاليش وكل عائلة الأسد وأقاربه وأنسبائه، المنشغلين بتطوير علوم الرياضيات والتهريب والتشبيح والسهر لإنجاز رسائل الدكتوراه في تأسيس سرايا الدفاع ومشتقاته.

أذكر أن صحفياً محترماً مشاغباً كان يعمل معنا في تشرين كان بارعاً في سرد سير هؤلاء العلماء من آل الأسد ولكن عبر السخرية والتورية، وجرى تأسيس ملحق ساخر في تشرين لعدة أشهر.. تناول فيها صديقنا ساخراً كبار علماء التشبيح والتجارة الأسدية، صبروا عليه فترة قصيرة ومن ثم تمّ القضاء على الملحق الساخر الرضيع.

كان العمل السياسي محصوراً بالانتماء لحزب البعث الحاكم حتى تاريخه، أو أحد أحزاب الجبهة، وكل حزب آخر ممنوع وخط أحمر بالنسبة للمخابرات.

أنواع الخطوط الحمراء وتشابك الفساد

كان ممنوعاً علينا الاقتراب من الخطوط الحمراء، لكن الخطوط الحمراء ليست فقط تلك التي ذكرتها في بداية المقال، فإذا كان رئيس التحرير صديقاً لمدير مؤسسة السينما، فهذا يعني ضمناً ممنوع نقد مهرجان السينما، وإذا كان أمين التحرير يقبض من نقابة الفنانين، فهذا يعني عدم الاقتراب من نقيب الفنانين.

وذات يوم مضى اكتشفنا وبالوثائق أن رئيس قسم تحقيقات في الصحيفة كان مرتشياً، وكان يقبض مبالغ شهرية من رؤساء بلديات دمشق وريفها، ملوحاً لهم كلما تأخروا بالدفع بما لديه من شكاوى ضدهم.

ولكثرة الفساد والفاسدين أفقياً وعمودياً، ضاعت الطاسة ولم يعد يعرف أحد أين يقع الخط الأحمر من الأخضر.

أخطاء مطبعية في اسم الرئيس

من جملة الخطوط الحمراء الأسدية، أنه ممنوع حدوث أي خطأ طباعي في اسم وأخبار الرئيس، وحدث مرة أن صدرت صحيفة الفداء في مدينة حماة وعلى صفحتها الأولى خبراً عن حافظ الأسد وبدل حرف الظاء كتبوا الضاد. فصار الاسم هكذا "السيد الرئيس حافض الأسد" وتمّ اكتشاف الخطأ بعد صدور العدد وتوزيعه، خلال ذلك النهار قامت المخابرات بمصادرة ما تبقى من العدد من كل محال بيع الصحف، وتمّ اعتقال عدد من الصحفيين والعاملين في الصحيفة.

عندما انهار سد زيزون في 4 حزيران عام 2002، أدى إلى حدوث فيضان غمر العديد من القرى شملت أكثر من 60 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية، ومقتل 27 شخصاً وتشريد 2000 وتضرر عشرات الآلاف من البشر. إعلامياً كان ممنوع نشر كلمة "كارثة" في المقالات والتحقيقات التي تناولت انهيار السدّ. في تلك الأيام كنت أعمل في مجلة تشرين الأسبوعية، التي تم قبرها لاحقاً، أذكر يومها أن أمينة التحرير خرجت من اجتماع مع رئيس التحرير وهي منزعجة وعندما سألناها عن السبب، قالت: لقد رفض أن تصدر المجلة وعنوانها الرئيسي "كارثة سدّ زيزون" وجرى محو العنوان الذي لا يتوافق وسياسة الرئيس الإعلامية.

عندما بدأ الغزو الاجتماعي الإيراني لسوريا في ثمانينيات القرن الماضي برعاية الأسد الأب، كان ممنوع نقد هذه الظاهرة، التي تحولت لاحقاً لاحتلال إيراني لسوريا.

أحزاب حمراء ممنوعة وأخرى مسموحة

سياسياً، كان العمل السياسي محصوراً بالانتماء لحزب البعث الحاكم حتى تاريخه، أو أحد أحزاب الجبهة، وكل حزب آخر ممنوع وخط أحمر بالنسبة للمخابرات، وكان مسموح في سوريا أن تفعل أي شيء ما عدا العمل السياسي المعارض للسلطة، كانت المخابرات تعرف كل شيء عن البشر. ليس هذا فحسب، حتى أن تحلم خلال منام بأن هناك انقلاباً وتغييراً في الحكم فهذا ممنوع، وحدثني مرة أحد سجناء الرأي، أنه التقى خلال فترة اعتقاله بسجين كان مساعداً أوّل في الجيش، كانت تهمته أنه رأى في المنام أنه يشتم الرئيس، وفي النهار حكى لرفاق السلاح ما شاهده، فكتب أحدهم به تقريراً. فنام في السجن عشر سنوات.

كان ممنوعاً أن تسبق الباسل في مباريات الفروسية وقصة الفارس "عدنان قصار" الذي أمضى 21 عاماً في السجن، وذنبه أنه تجرأ وسبق الباسل في أحد سباقات الفروسية.

كان السقف المتاح للإعلام الرسمي للنقد والانتقاد هو الحكومة وخاصة قطاع الخدمات، وكانت جملة "ممنوع التصوير" هي السائدة في العمل الإعلامي.

مراكز بحوث علمية كيماوية

عندما بدأ الغزو الاجتماعي الإيراني لسوريا في ثمانينيات القرن الماضي برعاية الأسد الأب، كان ممنوع نقد هذه الظاهرة، التي تحولت لاحقاً لاحتلال إيراني لسوريا، وكانت نشاطات المركز الثقافي الإيراني في دمشق تتم رعايتها من قبل القصر الجمهوري، وكانت تصلنا توجيهات وزارة الإعلام لتغطية كل نشاطات المركز الثقافي الإيراني.

عندما كان النظام ينتج السلاح الكيماوي منذ ثمانينيات القرن الماضي وذلك في عدة أماكن في محافظات، حماة وحلب وغيرها، أطلق عليها مراكز للبحث العلمي، كان ممنوع على أي عامل أن يذكر ما يحدث هناك، وكنا نتناول همساً تلك الموضوعات، واتضح لنا بالتجرية لاحقاً أنّ هذا السلاح كان مخصصاً لمحاربتنا نحن فقط.

ومن تاريخنا السياسي الساخر: (كان "تيمورلنك" أعرج، فلما انتصر على " بايزيد الأعور"، سلطان الأتراك، وأسره، مثل هذا بين يديه، فلما رآه " تيمور لنك" استولت عليه نوبة ضحك شديدة. فوبخه السلطان على إهانته، واستخفافه، فأجابه: إنني لا أهزأ بشقائك! ولكني لم أتمالك نفسي من الضحك، عندما فكرت كيف تكون أقدار البشر، فيُسلم زمام الممالك، إلى أعرج مثلي، وأعور مثلك!).

فماذا نقول نحن السوريين وقد بلانا الله بأبله!