icon
التغطية الحية

سوريون يلجؤون للآثار والتاريخ هرباً من الواقع والقصف |صور

2021.04.20 | 15:24 دمشق

00syria-ruins-dispatch-superjumbo.jpg
أطفال يلعبون وسط الآثار في موقع الكفير الأثري بشمال غرب سوريا
نيويورك تايمز- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

عند غروب الشمس، يسوق أطفال يرتدون ملابس رثة وأحذية ممزقة أغنامهم بين الجدران الحجرية التي تشرف على مدينة بيزنطية مهجورة منذ أكثر من ألف عام، تفضي إلى كهف قديم قريب حيث يمكن لمواشيهم أن تمضي الليل هناك.

ثمة غسيل قد نشر بالقرب من جدار نصف دائري ينتمي لكنيسة أثرية بنيت قبل قرون طويلة، كما زرعت الخضراوات بين بقايا مدخلين مستطيلي الشكل مزينين بتشكيلات زخرفية من أوراق شجر منقوشة. وتنتشر في الجوار أحجار عملاقة هي آخر ما تبقى مما كان يوماً مدينة كبيرة مترامية الأطراف.

هنا في موقع الكفير الأثري بسوريا، لجأ أبو رمضان مع أسرته بحثاً عن مأوى قبل عام ونيف، بعد نزوحهم هرباً من الهجوم الذي شنه النظام، فصارت تلك الأسرة تعيش في ذلك الموقع الأثري منذ ذلك الحين.

ويحكي لنا أبو رمضان، البالغ من العمر 38 عاماً، بأنه لا يهتم كثيراً بتاريخ هذا الموقع الذي كان مركزاً للتجارة والزراعة، لكنه يقدر صلابة الجدران التي تقف شامخة في وجه الرياح وكثرة الحجارة المقطوعة التي يمكن لهذه الأسرة التي خسرت كل شيء أن تعتمد عليها في إقامة حياة جديدة لها هناك.

ويعلق أبو رمضان وهو يشير إلى قن للدجاج ومدفأة للحطب قائلاً: "لقد بنينا كل هذا من تلك الآثار، ما يعني أننا أصبحنا أيضاً جزءاً من الآثار".

 

00syria-ruins-dispatch-02-superJumbo.jpg
علي مرعي يراقب قطيعه في أنقاض الكفير، حيث يعيش الآن هو وعدة مئات من النازحين السوريين الآخرين

 

وبما أن الحرب السورية التي امتدت لعشر سنوات قد تسببت بنزوح الملايين من الناس، لذا فقد هربت العائلات، مثل عائلة أبي رمضان من لظى الحرب في عصرنا هذا، لتختبئ خلف جدران عشرات من القرى الأثرية المنتشرة في المرتفعات الواقعة شمال غربي البلاد، إذ ما تزال تلك المنطقة خارج سيطرة نظام بشار الأسد.

ومنذ أن هجرها أصحابها الأصليون خلال الفترة الواقعة ما بين القرنين الثامن والعاشر الميلادي، بقيت تلك الآثار في حالة جيدة للغاية طيلة مدة تجاوزت ألف عام ونيف، كما تعاقب على أبنيتها الحجرية كثير من الإمبراطوريات وتحملت كثيرا من الرياح العاتية والأمطار الغزيرة.

غير أن النزاع السوري الحالي قد عرض هذه المواقع الأثرية لأخطار جديدة شملت كنائسها ذات الأعمدة المرصوفة، وبيوتها ذات الطوابق المتعددة، وحماماتها الأنيقة والفخمة. خاصة بعدما اخترق الرصاص واجهات تلك الأبنية، وتفرقت أعمدتها بسبب القصف الجوي، وأصبحت جدرانها المبنية من الحجر الجيري بحاجة للحماية من هجمات الجند والثوار والجهاديين الذين يحارب كل منهم ليرسم مستقبل هذا البلد.

خلّف البشر الذين استوطنوا سوريا على مدار آلاف السنين كثيرا من المواقع الأثرية التي تعود للعصر الهيلينيستي والروماني والبيزنطي والعثماني، ولهذا صنفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ستة مواقع في سوريا على أنها مواقع تراث عالمي، وتشمل تلك المواقع الآثار الموجودة في شمال غربي البلاد والتي تعرف باسم القرى الأثرية في الشمال السوري، والتي تم تصنيفها ضمن مواقع التراث العالمي في عام 2011.

 

00syria-ruins-dispatch-03-superJumbo.jpg
آثار دير عمان التي تمثل قرية بيزنطية أصبحت تؤوي اليوم نازحين بسبب الحرب السورية

 

كما أن استخدام تلك المواقع كمخيمات نزوح غير رسمية، يمثل خطراً على مستقبلها بحسب رأي علماء الآثار الذين تخوفوا من تلك الممارسات، وذلك لأن العائلات تقوم ببناء جدران جديدة، ناهيك عن أعمدة الخيام التي تنصب في تلك المواقع والعبث الذي يطال الأحجار الموجودة في الموقع الأثري.

وعن ذلك يخبرنا عبد العزيز حسان، 45 عاماً، الذي يعيش مع أسرته في خيمة داخل آثار معبد زيوس بومبوس الذي بني قبل 1800 عام بالقرب من بلدة بابوتا، فيقول: "إن الجدران تحمينا من الريح والبرد وأي شيء آخر".

فقد تنقل السيد عبد العزيز الذي كان يعمل مزارعاً قبل الحرب بصحبة أسرته مرات عدة هرباً من تقدم النظام نحو مناطق الثوار، ثم استقر به المقام أخيراً وسط الآثار، إذ هنا لا يترتب عليه أي بدل إيجار كما حدث مع هؤلاء الذين نصبوا خيامهم في أراض ذات ملكية خاصة.

ويتابع حديثه بالقول: "هل ثمة مكان آخر بوسعنا أن نذهب إليه؟ أينما توجهت عليك أن تدفع".

هذا وتشرف آثار تعود لثلاثة معابد على خيمته، أما المنطقة الجبلية المحيطة بتلك الخيمة فتنتشر فيها الأعمدة التي تهاوت هنا وهناك بالإضافة إلى الحجارة الضخمة التي تحمل نقوشاً أثرية وكتابات إغريقية.

 

00syria-ruins-dispatch-04-superJumbo.jpg
طفلة سورية تجلس بين آثار دير عمان التي تحولت إلى موطن لمئات السوريين النازحين

 

لقد دمرت هذه الحرب مواقع أثرية أخرى في سوريا، فقلعة الحصن التي تعتبر من أهم الشواهد التي بقيت من القلاع الصليبية على مستوى العالم، أصبحت مرتعاً للقمامة التي انتشرت في كل بقعة فيها بعدما انتزعها النظام من أيدي الثوار في عام 2014.

وعقب سيطرة جهاديي تنظيم الدولة على الآثار المهيبة التي تعود لألفي عام خلت ضمن مدينة تدمر، أخذ هؤلاء ينفذون إعدامات في المسرح الروماني وسط تلك الآثار.

أما المواقع الأثرية الواقعة شمال غربي سوريا، بالقرب من الحدود مع تركيا، فقد كانت مهملة قبل الحرب، إذ على الرغم من كثرتها، بقيت بحاجة لكثير من التنمية والتطوير كغيرها من المواقع السياحية، ولهذا تبدو هذه المنطقة وكأنها متحف في الهواء الطلق، وعليه كان بوسع زائريها الجري حول ما تبقى من المعابد الوثنية وأوائل الكنائس المسيحية، لينزلوا بعد ذلك إلى حجرات حفرت في الصخر تحت الأرض، ولا بد أن يفتنهم منظر التصميمات الدقيقة التي تحيط بالنوافذ والصلبان المنقوشة فوق المداخل.

وهذا ما دفع حكومة النظام إلى تسميتها بالمدن المنسية رغبة منها باجتذاب السياح.

فقد بنيت تلك المدن خلال الفترة الواقعة ما بين القرنين الأول والسابع الميلادي لتكون شاهداً مميزاً على الحياة الريفية، خلال فترة الانتقال من الإمبراطورية الرومانية الوثنية إلى البيزنطية الميسيحية، بحسب ما أوردته اليونسكو.

 

00syria-ruins-dispatch-05-superJumbo.jpg
خيمة بنيت اليوم وسط آثار تعود لمعبد روماني

 

وهكذا ظلت تلك المدن والقرى الأثرية مهجورة طيلة قرون متعاقبة نظراً للتغيرات المناخية وتحويل طرق التجارة وتبعاً للسيطرة السياسية، أي أنها تعرضت لكل شيء باستثناء الحرب، وهذا هو السبب الرئيسي الذي ساهم في الحفاظ عليها بشكل جيد بحسب ما يراه السيد عمرو العظم وهو مسؤول سابق في مديرية الآثار السورية، أصبح اليوم أستاذاً جامعياً متخصصاً بتاريخ الشرق الأوسط يحاضر في جامعة بولاية أوهايو الأميركية.

فقد توقفت الجهود الساعية لحماية تلك المناطق الأثرية مع اندلاع الحرب في سوريا في عام 2011.

وفي عام 2016، تعرضت كنيسة مار سمعان للتدمير بسبب الغارات الجوية التي قصفت ما تبقى من الأعمدة الموجودة على سطح تلك الكنيسة حيث اعتاد سميُّها المتعبد أن يجلس، إذ عاش على ذلك المنوال طيلة 40 سنة قبل أن تخطفه يد الموت في عام 450 ميلادية.

كما أن الضغط على تلك المواقع الأثرية قد زاد إلى حد كبير خلال السنة الماضية، عندما تسبب هجوم النظام بنزوح حوالي مليون نسمة إلى شمال غربي سوريا حيث المناطق التي يسيطر عليها الثوار. فأصبح حوالي 2.7 مليون نازح من مناطق أخرى من سوريا من أصل 4.2 ملايين نسمة يعيشون اليوم في هذه المنطقة التي يسيطر عليها الثوار، وهي منطقة صغيرة ومكتظة بالسكان، بعدما تم احتجاز هؤلاء الناس خلف جدار بني على طول الحدود مع تركيا من جهة الشمال، وذلك لمنعهم من الهرب، ناهيك عن قوات النظام المعادية التي تتربص بهم من الجنوب. وفي الوقت الذي يهرع فيه من يصل حديثاً لإيجاد مأوى له ضمن الأبنية المدمرة، وبساتين الزيتون، والمخيمات التي أخذت تمتد وتتوسع أكثر فأكثر، يستقر البعض منهم ضمن المواقع الأثرية الموجودة في هذه المنطقة.

كما أن العائلات التي تربي الدواجن تعجبها السكنى في هذه المواقع، نظراً لتوفر مساحة أكبر فيها مقارنة بمخيمات النازحين المكتظة بالناس. إلى جانب وجود الحجارة الصلبة التي تم قطعها وتشكيلها بالأصل، حيث صار كثيرون يعتمدون عليها في بناء حظائر لمواشيهم، أو لتدعيم خيمهم.

طبق استقطاب الأقمار الصناعية وألواح الطاقة الشمسية التي ركبت فوق بيت جديد بني وسط آثار الكفير.

 

ولدى بعض تلك المواقع كهوف تحت الأرض، حيث يمكن للعائلات أن تحتفظ بمتعلقاتها وأشيائها وأن تختبئ من الغارات الجوية بمجرد أن يسمعوا صوت طائرة حربية تحلق فوقهم.

ويحدثنا أيمن نابو وهو مسؤول لدى إدارة الآثار يعمل لدى الإدارة المحلية في محافظة إدلب، بأن القصف والغارات الجوية قد دمرت كثيرا من المواقع الأثرية، كما شجع الفقر والفوضى اللذين خلفتهما الحرب على قيام عمليات تنقيب غير قانونية نفذها أعوان تجار الآثار.

إلا أن أكبر خطر يهدد سلامة وبقاء تلك المواقع حسب زعمه هو التشكيلات التي يبنيها الناس بفضل الحجارة الموجودة في الموقع، أو عندما يقومون بتكسير الحجارة هناك لبناء تشكيلات وبيوت جديدة، حيث قال: "في حال استمر الوضع على هذا المنوال، فلا بد أن يختفي الموقع الأثري بأكمله".

إلا أن الإدارة المحلية تفتقر إلى الموارد التي تساعدها على حماية المواقع الأثرية، غير أن السيد أيمن يتمنى لها السلامة والنجاة من كل هذا العبث، لتبقى خالدة من أجل أجيال المستقبل، وكذلك من أجل من احتجزوا اليوم ضمن ما سمّاه: "السجن الكبير"، نظراً لسيطرة قوات النظام على الطرق المؤدية إلى ساحل المتوسط وباقي أنحاء سوريا.

ويتابع السيد أيمن وصفه للوضع بالقول: "لم يعد لدينا بحر ولا نهر ولا غابة بوسع الأطفال أن يزوروها"، كما أن كثيرا من الناس يلجؤون لتلك المواقع الأثرية لتكون متنفساً لهم.

بيد أن هذه المواقع تؤوي اليوم عائلات منكوبة بوصفها الملاذ الأخير المتبقي لهم.

وحول ذلك الوضع تحكي لنا سيحان جاسم، وهي شابة في السادسة والعشرين من العمر، نزحت عائلتها ثلاث مرات منذ أن هربوا من قريتهم الأم، ثم انتهى بهم المطاف في خيمة تعيسة أقيمت من البطانيات والأقمشة ونصبت وسط آثار دير عمان التي تعود لتلك المدينة البيزنطية، فتقول: "إننا نغرق بالماء كلما هطل المطر. ثم إن الأطفال يعلبون فوق الآثار ولهذا يقلقنا احتمال سقوط تلك الصخور فوق رؤوسنا".

أما شقيقتها التي فقدت زوجها في الحرب، فتعيش في خيمة مجاورة برفقة خمسة أطفال.

هنا، تسطع الشمس بأشعتها فوق الأزهار البرية الندية، وتتجول الأغنام بين الأحجار، وترعى بالقرب من جدار أثري كتبت فوقه عبارة رومانسية منذ مدة قريبة، تقول: "حبك دوا"، غير أن سيحان لا تحس بأي شيء يشبه الرومانسية في هذه البيئة المحيطة، ولهذا تقول: "نتمنى لو أننا بقينا في بيوتنا دون أن نرى هذه الآثار".

المصدر: نيويورك تايمز