icon
التغطية الحية

"سورية الأخرى".. كيف ضبط النظام الفن المعارض واستفاد منه؟

2021.01.23 | 04:03 دمشق

lbatt.jpg
دوزجة - إياد السمعو
+A
حجم الخط
-A

تحاول الكاتبة الأمريكية وليام كوك أن تكشف للمجتمع الأمريكي والغربي عن سوريا أخرى يجهلونها وتكشف الهوة بين قوة الدولة وقوة الثقافة وتسلط الضوء على نهج السطة وآلياتها في ضبط المجتمع وعن دور الثقافة والفن من خلال مقابلات قامت بإجرائها مع عدد من الكتاب كمحمد الماغوط ومحمد ملص ونادية الغزلي وغيرهم وكذلك أبرز كتاب أدب السجون الذين تعرضوا للسجن في تلك الفترة كغسان جباعي وإبراهيم صموئيل.

وتسعى كوك لمحاربة المفهوم السائد الذي يقول: إن الشعب لا يختلف عن حكومته وحاكمه، فهنالك الكثير من الفنانين والمثقفين حاولوا مواجهة النظام رغم النهاية المتوقعة بالاعتقال والسجن.

"كتاب سوريا الأخرى.. صناعة الفن المعارض" يأتي ضمن سلسة مراجعات لفترة سوريا ما بعد الاستقلال، ويعد استكمالاً لكتاب ليزا وادين "السيطرة الغامضة" والتي تقول: إن المجتمع السوري رغم القمع كان يقاوم ولم يأنس للطاعة وواجه السلطة، وتغيرت أشكال المقاومة في كل فترة، ففي الثمانينيات كانت مسلحة وفي التسعينيات كانت المقاومة محدودة جداً وبأسلوب ناعم.

 

حالة الحذر الدائم

توضح كوك حال المثقفين السوريين الذين بقوا بحالة حذر دائم في الأعوام الثلاثة والعشرين التي تلت الاستقلال في عام 1946 بسبب سلسلة الانقلابات الشهيرة في تلك الفترة، وتقول كوليت الخوري: إن عام 1989 كان عاماً مفصلياً في تاريخ الدولة السورية إذ دفع انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية في تلك الفترة، الدولة السورية إلى إرخاء القبضة السياسية بصورة رمزية، خوفاً من موجة الثورات الأوربية الملهمة آنذاك.

وكما هو معروف أن السلطة السورية انتهكت حرية النقابات واستقلاليتها بدءاً من عام 1981 وحولتها في طيلة هذه العقود إلى تمجيد السلطة والترويج الإعلامي لخطابها ومواقفها، وكانت تراقب وتتابع سلوك أعضائها. ترى كوك "أن الأكثر إثارة للاهتمام هم الآخرون الذين اختاروا البقاء وحاولوا صنع شيء، لم يحظوا بالشهرة وظلوا مجهولين".

ونستطيع أن نلخص الوضع السياسي في بداية التسعينيات بما رواه أحد المحامين الذي "شهد محاكمات تكون فيها الجريمة الوحيدة هي قراءة صحيفة أحد الأحزاب السياسية المعارضة، وكانت العقوبة السجن لخمسة عشر عاما". وكما تقول كوك: في سوريا لا بد من مخابرات تراقب المخابرات ومن طالب يراقب الطلاب ومن كاتب يراقب الكتَّاب.

 

الترويج للسلطة

الفن والثقافة لا يتقبلان العمل إلا بجو من الحرية ليتسما بجوهرهما الحر، وإن عملهما ضمن الأيديولوجية التي يرسمها نظام ما يحولانهما إلى أدوات يستغلها الاستبداد لتشكيل الرأي العام وإضفاء صبغة شرعية على سلطته، وهذا ما عمل عليه النظام في سوريا خلال سنوات حكمه. تقول كوك: "من اهتمامات الاستبداد وأهدافه الضرورية السيطرة على الفن والعملية الفنية، وتحكّمه الكامل في المسارح والسينما والتلفزيون واتحادات الكتاب ونقابات الفنانين".

وتضيف كوك: "النظام سعى لخلق تمثيلية مركبة معدة مسبقاً غايتها إنتاج فنانين وأدباء ببغاوات، وجمهور مكون من مسوخ بشرية لا تفكر ولا تنتقد، وبذلك تنعدم العلاقة التبادلية والحوار الغني بين الفن وجمهوره. وإن النظام كرَّس الفن والإبداع قسراً لخدمة السلطة الاستبدادية والفرد الحاكم ويمارس الدعاية الأيديولوجية لحزب السلطة ومقولاته وشعاراته، وإن تأثير الفن يبقى محدوداً في البلدان التي يسود فيها الطغيان ويسيطر فيها الرأي الواحد واللون الواحد، ويمنع فيها صدور أي صوت، وإن صدر فمصيره السجن أو النفي أو القتل، والأنظمة الديكتاتورية تخاف من الكتاب لأنهم شاهدون وشهادتهم يجب أن تختفي"، فمن لم يشارك فيما سمته عالمة السياسة "ليزا ودين" تقديس الأسد فهو مشتبه به، فالثقافة في سوريا مرتبطة بتقديس الرئيس.

 

"التنفيس" المؤقت

كانت سياسة النظام خبيثة ومدروسة جداً، ففي موجات الاستياء الشعبي والأزمات والاختناقات السياسية والاقتصادية كان يسمح ببعض التنفيسات والانتقادات المؤقتة والمضبوطة بدقة عالية ليمتصَّ بها موجات الغضب.

وللتنفيس خطر مضاعف كما نبّه سعد الله ونوس في السبعينيات "لأنه يدعو المشاهدين إلى ترك همومهم على المقاعد قبل مغادرة المسرح، فمثل هذا التنفيس يجعل ما لا يطاق ضمن قدرة التحمل محتملاً. وهذا النوع من الانتقاد ساعد النظام على إبراز صورة براقة مزيفة للحرية والديمقراطية والمجتمع المدني، بينما كان يحاول أن يجعل المثقفين أدوات طيعة".

تعرف كوك الانتقاد المكلف بأنه: عملية آلية ضبطية تتحكم الدولة من خلالها في الساحات من خلال الحفاظ على شروط الإنتاج الثقافي في حالةٍ من الشك وعدم التناسق، وإبقائه دائماً مرتبطاً بالحكومة، وتسمح بالانتقاد المكلف ثم تحاول السلطة احتواء معارضتهم وانتقادهم. وإن الانتقادات المسموح بها كانت تساعد السلطة على إحصاء المتمردين لإقصائهم.

كان السوريون يشاهدون عدة أعمال ذات جرأة كبيرة تنتقد السلطة بطريقة هزلية وكانت متنفساً للمواطن كبقعة ضوء ومرايا والدغري ومسرحيات همام حوت ومسرحيات دريد لحام الشهيرة التي كان ينتقد بها السلطة، لكن كل هذه الأعمال كانت تحت عباءة النظام وإشرافه، وكانت الانتقادات مؤطرة وضمن حدود ضيقة تشرف عليها شركات الإنتاج والمؤسسات التي تمول الأعمال الفنية والتي تكون بمجملها تابعة للنظام.

 

مقبرة الثقافة والأفلام والسينمائيين

في "سوريا الأسد" تنشر وزارة الثقافة ما تشاء وتمنع أي شيء يشعر المواطن أن الدولة قصرت أو أخطأت بشيء، فالدولة ممثلة بالرئيس قداستها مطلقة، وقامت الوزارة بتوزيع كتب اجتماعية وثقافية مثل كتاب غسان الجباعي أصابع الموز، وإرسال هذه الكتب إلى مراكز ثقافية وإقليمية؛ من أجل تلميع صورتها الزائفة وللترويج بأن سوريا تعيش بحرية وديمقراطية. وبهذا الصدد تقول كوك: تحتفظ وزارة الإعلام بقائمة تحتوي على أسماء الكتب الممنوعة وتقوم بجرد دوري لمحال بيع الكتب لتتأكد من عدم عرض أي كتاب ممنوع بيعه، وتحتكر الوزارة بالكامل الإنتاج الفني وملكية الأفلام، والدولة هي من يقرر متى وأين وما إذا كانت ستعرض الفيلم أم لا، وتشرف الوزارة على الإنتاج في كل مراحله، ابتداءً بالفكرة الرئيسة، مروراً بإعداد النص والتحضير وانتهاءً بالتمثيل. وطبعاً كذبة النظام المعهودة عندما لا يريد عرض أي فلم يشعر أنه خطر عليه يتحجج أن هنالك مشكلة في الشريط، وسنعرضه عندما نجد من يصلحه وربما يستغرق الإصلاح أعواماً، وربما الشريط تالف ولا يمكن استصلاحه ولن يسمح باستصلاحه أصلاً.

وفي حين كانت تناقش الصحافة الأوربية والعربية الأفلام التي ينتجها الفنانون السوريون والتي كانت الحكومة تراقب إنتاجها ولا تسمح بعرضها لمواطنيها، كما فعلت بفلم الليل لمحمد ملص إذ يتحدث الفلم عن دمار مدينتي القنيطرة في عام 1967 وحماة في عام 1982 وسؤاله عن التواطؤ بين الإسرائيليين والجيش السوري في تدمير القنيطرة في الجولان. وكان ربطاً إبداعياً إذ إن الناعورة رمز حماة أصبحت علامة المجزرة. وتقول كوك: "ربما صمت كثيرون لكن ملص المخرج السينمائي لم يفعل، فبطريقة فنية ربط نواعير حماة بالقنيطرة... إذ دعمت إنتاج هذا الفلم ثم منعت عرضه بدعوى أنه يمثل هجوماً على المعنويات والروح القتالية بشكل عام، وعلى الجيش السوري بالتحديد"، وبعدها طالبت المؤسسة العامة للسينما سحب الفلم من أجل عدم عرضه في مهرجان إسطنبول آنذاك وقررت المحكمة تجميد ممتلكات ملص.

وأيضاً رفضت الوزارة نشر مسرحية الغول التي عُرضت في عام 1995 ذات اللغة الجريئة والتلميحات السياسية الواضحة، إذ تتحدث المسرحية عن كيفية صبغ حاكم مستبد مثل جمال باشا (أو حافظ الأسد) نفسه بهوية دينية.

يقول ممدوح عدوان متحدثاً لكوك: (لا يكفي أن نصِفَ زنزانة السجن، لا بدّ من أن نقدم عن كثب مشهد انكسار الروح ولا يكفي أن نَصِفَ آلة الطغيان، بل لا بد من أن نرفع الغطاء عن تقنية الطغيان كي نكتسب القدرة على مقاومتها ونحول إحباطنا إلى تفاؤل).

ويضيف قائلاً: إن سرديات السجون تعكس حياتنا اليومية. سوريا الممزوجة بسجون المزة وتدمر وصيدنايا.

 

لا حياد في الفن

"من يقف على الحياد إنما يعينُ الطاغي على طغيانه"، هكذا يجيب سعد الله ونوس عمن يطالب الفنانين والمثقفين بالوقوف على الحياد، ويقول الكاتب التلفزيوني تمام هنيدي الذي تعرض للاعتقال لوكالة فرانس برس رداً على سؤاله عن مشاركة الفنانين السوريين في بداية الثورة: "على الفنان السوري أن يحفظ جيداً جملة مارتن لوثر كينغ الخالدة: المكان الأكثر اتساعاً في جهنم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى".

وبعد اندلاع الثورة السورية لعبت وزارة الثقافة في حكومة النظام دوراً مهماً بمساعدة الأجهزة الأمنية في الملاحقة والتعذيب والسجن، وعمل النظام بقصفه المستمر على المدن السورية طيلة سنوات الثورة على تدمير المراكز الثقافية والفنية، وتمثلت المشاركة الأولى والبارزة للفنانين السوريين فيما يسمى بـ "بيان الحليب" وهو بيان إنساني بحت لم يُتطرق به إلى أي أمر سياسي، وقّع عليه عدد كبير من الفنانين بينهم منى واصف ويارا صبري وآخرون، للسماح بدخول الحليب والدواء إلى الأطفال في مدينة درعا المحاصرة آنذاك، لكن النظام هاجم جميع الموقعين، واضطر قسم منهم إلى الخروج والاعتذار بسبب الضغط الكبير الذي مارسه النظام والمؤسسات الفنية التابعة له، وآخرون قرروا الخروج من سوريا، فقام النظام بمصادرة أملاكهم بدعوى "الإساءة لرموز السيادة الوطنية والمشاركة في سفك دماء السوريين، عبر تأييد المعارضة المسلحة أو الدعوة للتدخل العسكري في سوريا".

وبصدد الموقف المخزي للفنانين السوريين الموالين لنظام الأسد من الثورة السورية يقول مترجم الكتاب حازم نهار: إن عدداً كبيراً من الفنانين العرب والعالميين قد زار (مخيم الزعتري) للاجئين السوريين في الأردن، في حين غاب الفنانون السوريون الموالون للسلطة جميعهم عن زيارة لاجئي بلادهم.

وأخيراً كانت الثورة فرصة لظهور شعراء وأدباء وفنانين جدد، وكسرت حاجز الخوف الذي كان يتيح الفن والثقافة للمقربين من السلطة وكما يُعرفون بـ "عظام الرقبة" والمتنفذين اقتصادياً، وقد تصدرت المشهد العربي والعالمي أفلام وروايات تحكي عن الثورة السورية ومجرياتها وتقصُّ بعض الحقائق والمعاناة التي مرَّ بها الشعب السوري وحصدت عدة جوائز بمحافل دولية كبيرة.