سوريا ثورة من فوق

2020.09.23 | 00:03 دمشق

syria-revolution-from-above.jpg
+A
حجم الخط
-A

في كتابه "سوريا ثورة من فوق" الصادر عن دار رياض الريس عام 2011، قدم الباحث الأسكتلندي رايموند هينبوش قراءة سوسيو ـ سياسية لتطور نظام الحكم في سوريا والتغيرات التي أصابت التضاريس السياسية ـ الاجتماعية بعد ثورة البعث، لينتهي المطاف بشبه دولة ذات نظام حكم شبه لينيني يضم جمهورا من الناخبين الريفيين.

نشر الكتاب باللغة الإنكليزية عام 2000، لكن أهميته ما تزال قائمة لأنه يشرح بنية النظام التي أرساها الأسد الأب وما تزال مستمرة إلى الآن.

يعتبر هينبوش أن نظام الأسد عبارة عن تزاوج أو تعايش حزب ـ جيش، وليس مجرد حكم عسكري، والطائفة العلوية التي تمثل الأقلية وتسيطر على النظام، لا تعني أن النظام هو نظام أقلية، فقد كان يشتمل على تحالف عابر للطوائف، تقع ديكتاتورية الأسد الشخصية في قلب هذا النظام.

لكن قوة هذا النظام تستند إلى مؤسسات معقدة، وقد تم وصفه كنظام لبرجوازية الدولة، لكنه يخرج عن ذلك بضمه لقاعدة قروية لا يستهان بها، لذلك، فإن أياً من التفسيرات النمطية للنظام (الجيش، الطائفة، الطبقة)، لا يمكنه بمفرده أن يقبض بشكل كاف على الطبعة المعقدة والمتعددة الوجوه لهذا النظام.

غير أن الثورة السورية كشفت خطأ تحليل هينبوش، فليست البرجوازية سوى شكل أو وجاهة لتجميل النظام، فهي ليست برجوازية حقيقية تمتلك قدرة على التصرف والضغط، والغريب أنه كتب في الصفحة 39 أن سوريا في ظل حكم البعث لم تعد تمتلك برجوازيات صناعية.

كما لم يدرك هينبوش أن التحالف العابر للطوائف هو تحالف وهمي، لأن أساس وجوهر السلطة هو علوي، ولم تكن مصادفة أن معظم المناصب العسكرية والأمنية القادرة على إحداث الفرق هي بأيدي العلويين.

يتابع المؤلف بالقول إن حكم البعث استخدم الإكراه لتأسيس السلطة ضد مقاومة الغالبية في الطبقة السياسية، وقد حاول أن يجعل من العسكر أداة للحزب الحاكم من خلال التحويل الأيديولوجي البعثي على النموذج اللينيني.

يتساءل هينبوش، هل القوة وحدها كافية لتثبيت السلطة؟ يجيب بأن الإكراه يمكنه أن يركز القوة لكن لا يمكنه أن يوسعها، وعملية توسيع السلطة جرت بفعل أيديولوجيا حزب البعث عبر عملية الإدماج الجماهيري.

هنا، يرتكب هينبوش خطأ آخر، فعملية التأثر الجماهيري بأيديولوجية البعث لم تستمر سوى سنوات قليلة قبل أن تتكشف للجماهير طبيعة النظام الديكتاتورية، ولذلك لجأ النظام بسرعة إلى استخدام أقسى أنواع العنف لإخماد الحركات الاحتجاجية.

ما قام به هينبوش، هو أنه حول حالة جزئية إلى حالة عامة، عبر تعميم المفاهيم ومنحها حالة معطاة ثابتة لوضع إمبريقي متغير.

 

تشكل سوريا الحديثة

 

كانت سوريا عبر معظم تاريخها ميدانا لتعاقب الإمبراطوريات العسكرية، لذا فإنها لم تطور طبقة حاكمة مستقلة، ولم تنشأ طبقة أرستقراطية تمتلك الأرض بحيث تستغل الفلاحين وتراقب الحاكم، وبالتالي لم تتطور مؤسسات تمثيلية لتجسد مجتمعا مدنيا مستقلا.

وفي ظل غياب طبقات أرستقراطية ومدن حرة وطبقة دينية مستقلة، لم يكن ثمة تقليد تعددي ليعبد الطريق أمام ديمقراطية لاحقة.

كانت أولى المهمات المنوطة بنخب ما بعد الاستقلال هي توطيد الدولة ضد الانفصالية القبلية والطائفية من الداخل (جبال العلويين، الدروز)، وضد مطامح الهاشميين في العراق والأردن، وفيما عدا ذلك، كانت السياسات ترتكز على التنافس بين تحالف الأعيان على المناصب والغنائم، ولهذا السبب لم تؤدِ الانتخابات في تلك المرحلة إلى تغيير في النخبة السياسية.

وعلى الرغم من أن هيمنة المصالح الكبرى على الحكومة والانقسامات

بسبب الافتقار إلى التقليد العسكري في صفوف الطبقة المالكة للأرض، كان الجيش عرضة لتسييس والتعبئة الراديكالية، وسرعان ما دخل الحلبة السياسية عبر الانقلابات العسكرية

الطبقية الكبيرة أدت إلى جعل الدولة كيانا هشا، إلا أن هينبوش يعتقد أن نظام الحكم ما بعد الاستقلال كان سيقود بالضرورة إلى خلق طبقة وسطى مثقفة وقوية بفعل استثمار الدولة لمواردها في تطوير التعليم الابتدائي والثانوي.

وهذه الطبقة ستقود في النهاية عملية تغيير نظام الحكم نحو مأسسة الديمقراطية، لكن الذي جرى هو أن الانقلاب البعثي أوقف سيرورة العملية التاريخية.

 أدى تشكل الطبقات بتوليده لقوى اجتماعية جديدة ومفاقمته للامساواة ونشره للوعي السياسي، إلى نهوض معارضة راديكالية للنخب:

ـ الجيش: بسبب الافتقار إلى التقليد العسكري في صفوف الطبقة المالكة للأرض، كان الجيش عرضة لتسييس والتعبئة الراديكالية، وسرعان ما دخل الحلبة السياسية عبر الانقلابات العسكرية.

مطلع الخمسينيات، تمكن جيل جديد من الضباط الأكثر تسيسا وراديكالية من الوصول إلى مواقع قيادية في الجيش، فانضوى جزء من الضباط الدروز تحت عباءة الحزب السوري القومي الاجتماعي، في حين انضوى جزء من ضباط السنة تحت حماية أكرم الحوراني، أما المستوى الثالث من الضباط، فكانوا من الضباط الريفيين العلويين والإسماعيليين وبعض الدروز ممن دعموا حزب البعث. 

ـ الأحزاب الراديكالية: ظهرت أحزاب عديدة من الطبقة الوسطى، لكن حزب البعث سرعان ما أصبح أقوى هذه الأحزاب.

طالب البرنامج الرسمي للحزب عام 1947 بدور رئيسي تؤديه الدولة في التنمية، وكان تشديده على دور الدولة في التنمية يعبر عن مصالح الطبقة الوسطى الصاعدة المعتمدة على الرواتب، في حين أن نداءه لحقوق العمل والإصلاح الزراعي جذب العمال والفلاحين، ومن خلال بحثه عن طريق ثالث بين الرأسمالية والشيوعية، راح البعث يدعم الملكيات الخاصة الصغيرة والمتوسطة.

عام 1954 أجرت سوريا أكثر انتخاباتها البرلمانية حرية، وكان فوز أعداد كبيرة من مرشحي الطبقة الوسطى الذين نالوا نحو 20 % من المقاعد، مؤشرا على تآكل نفوذ الطبقة السياسية الحاكمة.

وفي نهاية الخمسينيات بدأ الراديكاليون المشاركة في الحكومة التي كانت على حافة الانهيار، في وقت كان الجيش يفقد تماسكه بانقسامه بين عدة فصائل.

وجد حزب البعث في الوحدة مع مصر فرصة لاستغلال شعبية عبد الناصر للتغلب على منافسيه، فيما وجد الجيش في هذه الوحدة فرصة لإنهاء المنافسات داخله.

 

ثورة البعث من فوق

 

مع انقلاب عام 1963 قام نظام الحكم بتقوية دولة الحزب الواحد شبه اللينينية فأعطيت سيطرة كاملة لأجهزة الدولة، وأعطي دفع جديد أكثر راديكالية للتحول الاشتراكي، وقد عكس الصراع بين الفلاحين ومالكي الأرض في الريف قدرة لنظام الحكم على اختراق القرية، أما في المدن فقد فرض جو صارم من القمع السياسي، وبدأ الريفيون يتدفقون إلى دمشق في قافلات لتقديم طلباتهم من غنائم الثورة، فقاموا بترييف البيروقراطية والجيش والجامعات.

وشيئا فشيئا، ضيق نظام الحكم التعددية في توزيع السلطة داخل ميدان النخبة، فيما سعى إلى توسيع مقدار القوة المتوافرة لديه من خلال حشد فعاليات جديدة في القاعدة الاجتماعية.

نتيجة تحقيق نظام البعث استقلالا ذاتيا عن الطبقات المهيمنة بكسر احتكارها على وسائل الإنتاج وتعبئة العمال والفلاحين، نجح حافظ الأسد بعد انقلابه العسكري بتحقيق استقلال ذاتي عن كل المجموعات في قاعدة سلطته من طريق خلق توازن بين بعضهم، حيث استخدم بداية قاعدته العسكرية ليحرر نفسه من قيود الحزب الأيديولوجية، ثم عزز جماعة من العلويين الخاصّين لتعيينهم في مناصب أمنية وعسكرية، الأمر الذي أعطاه استقلالا أكبر عن الجيش.

وبسبب تلهفه لإرضاء سنة دمشق، قام بكسبب عدد منهم واختيارهم لمناصب مدنية لا وزن لها.

 

تركيب النخبة: حكم العلويين

 

إذا كان البعثيون العلويون قد أدوا في البداية دور البروليتارية البديلة في جعل البعث راديكاليا، فإنه بحلول السبعينيات، تحول البارونات البعثيون حول الأسد إلى نخبة صاحبة امتيازات، ومن أجل منح القيادة جوهرا وطنيا، تم تعزيز الهوية والتماسك لدى العلويين، وغالبا ما تبع العلويون في السلطة قواعد مجتمع القرابة في تفضيل أقربائهم في التوظيف، والأكثر أهمية الدخول في سلك الجيش.

ولتخفيف من شكل الهيمنة العلوية على مؤسسات الدولة، لجأ الأسد إلى التحالف مع ضباط وسياسيين سنة، وقد تحمل هذا الألم كي لا يُعرف كقائد للكتلة العلوية.

ومن المؤكد أنه في أوقات الصراعات الطائفية، قد تتقارب مصالح النخبة العلوية الحديثة والتقليدية للدفاع عن الجماعة ككل، وعادة ما تتقاطع شبكات الزبائن مع الخطوط الطائفية، حيث الوسطاء العلويون المنافسون كل لديه حلفاء من السنة.

تمايزت القوات المسلحة إلى ثلاث مجموعات متداخلة: بارونات الأمن العلويون في الدائرة الداخلية للأسد، الضباط البعثيون، الضباط المهنيون.

وبينما أعطت جماعة الأسد من البارونات / الأقطاب قاعدة سلطوية شخصية للأسد، كانوا وللمفارقة يشكلون التهديد الرئيسي المحتمل له، ولكونهم مقسمين ويفتقرون للشرعية العامة، لم يكونوا مؤهلين بشكل فردي لتهديده.

وعلى الرغم من أن البارونات / الأقطاب كانوا الفاعلين الرئيسيين، إلا أن الأعضاء العسكريين الآخرين في حزب البعث استمروا في إرسال مندوبيهم لمؤتمرات الحزب، والأقدم منهم احتلوا مقاعدهم في اللجنة المركزية والقيادة القطرية.

إن فيالق الضباط المحترفين التي مثلت طويلا في الدائرة الداخلية للأسد الأب كانت مجموعة ذات مصالح مشتركة وقوية وذات نفوذ كبير.

 

علاقات المجتمع ـ الدولة في ظل الأسد

 

أصبحت النخبة السياسية برجوازية عن طريق التلاعب الفاسد في تبادلات السوق الرسمية، إضافة إلى الاختلاس الصريح، والعمولات والرشاوى وعمليات التهريب الواسعة.

وبما أن النخبة السياسية والعسكرية استخدمت سلطتها لإثراء نفسها، بينما تسعى البرجوازية وراء فرص لترجمة ثروتها إلى تأثير سياسي، فقد تشكلت التحالفات وبدأ دمج معين بين الدولة والبرجوازية الخاصة، فأعطيت شخصيات دمشقية ممن يملكون الثروة مناصب عليا دون أن يكون لها أي تأثير في موازين القوى داخل السلطة.

وفي الوقت نفسه، استخدمت برجوازية الدولة الثروة المستخلصة من القطاع العام للدخول في قطاع الأعمال.

إن جوهر هذه الطبقة الجديدة كان نمو الارتباط العلوي ـ الدمشقي، الذي هو نوع من المركب العسكري التجاري.

حافظ النظام على استقلاله الذاتي في القطاعات المختلفة من المجتمع وتوقفت النخبة العليا ـ الرئيس ومساعدوه المقربون ـ عن الوقوف إلى جانب المعدمين.

ورغم ارتفاع مستوى الفقر والتفاوت بين الطبقات، بقيت مؤسسات النظام متماسكة، ويرجع هينبوش ذلك إلى الشبكة العلوية المسيطرة على هذه المؤسسات، وجذورها في القرية التي كانت تستغل من نفس القوات المدينية التي مثلت الثورة الإسلامية عام 1982، وقد أدى التركيب الحزبي الطائفي للنظام الذي اخترق البيروقراطية التي يهيمن عليها السنة، إلى جعلهم غير متاحين للتعبئة ضد النظام إلى حد كبير.