سوريا التي تشبه سحنة شادي حلوة

2021.07.03 | 06:10 دمشق

sfdu.jpg
+A
حجم الخط
-A

لطالما استوقفتني مشاعر بسطاء مصر وهي تهتف باسمها على أرصفة الفقر بابتسامات الأسنان المهترئة من التبغ والإهمال، أسنانهم التي تشي بحالهم لكنها كافية بالرغم من بؤسها لتصل إليك رسائل حب خالصة وصادقة، وأسأل بغصة الممنوع من البوح لماذا علينا أن نردد تلك العبارات المعلبة عن الوطن كما لو أنه درس قومية بائس.. وطن صغير على مقاس الرئيس العظيم.

من أجل هذا يموت الرعاع في بلدي اليوم دفاعاً عما يعتقدون أنه أكبر من وطنهم وأعظم من تاريخ تم اختزاله في عدة هزائم وانتصارات كاذبة، وحروب لم تتجاوز عتبة الحكايات وبيانات الإذاعات الذليلة وأما أكثرها دموية وقسوة فهي تلك التي دمرت آخر الآمال بإنسان سوري يقف على رصيف الفقر ليهتف باسم سوريا الخالصة من كل أكاذيب البعث.

بين وجه الرئيس ووجه شادي حلوة تكمن مأساة السوريين جميعاً حيث يتضاءل وطنهم ليصير فسحة في محطة وقود جافة

ما أثار هذا التداعي المرير كان بثاً مباشراً سريعاً عن أزمة الوقود في مدينة حلب حاول فيه شادي حلوة توجيه نداءات يائسة للوزير ومدير شركة سادكوب ينعى فيه حال الحلبيين المنتظرين في طابور طويل أمام آلة تعبئة واحدة، وفي خلفية الطابور صورة كبيرة للرئيس العظيم.

بين وجه الرئيس ووجه شادي حلوة تكمن مأساة السوريين جميعاً حيث يتضاءل وطنهم ليصير فسحة في محطة وقود جافة، وطابور بائس من المنتظرين رحمة ذاك المحنط على جدار البناء المقابل للمحطة كما لو أنه وثن عتيق يهب الخير لمن يبتهل بين فخذيه، ولكن في داخلي ثمة هاجس شامت مر للحظات: ألستم من أردتم لهذا الوثن أن يصير إلهكم؟؟.

لم تتجاوز رجاءات وسخط شادي حلوة حدود المسموح به في إعلام النظام، ولم تتجاوز تعليمات رقيب المخابرات الساكن في عقل وقلب شادي حلوة، ولم يجرؤ الفتى الوسيم- الذي طالما سخر من المعارضين وأحلامهم، وتقدم مع فرسان النصر في الجبهات، وتحمل صفعات وشتائم المهووس سهيل الحسن- على التلميح للأسباب الحقيقية وراء هذه الطوابير اليائسة، ولم يسمح لسيل الأسئلة المتداعي أن يأخذه بعيداً عن الهوى الوثني فثمة حصار وعقوبات وفاسدون فقط.

تضاءلت سوريا العظيمة لهذا الحد من البؤس والضعة كما لو أنها جمهورية طارئة ولدت لحظة إفراغ آخر الرصاصات بين جيشين أعلنا اتفاقية إذعان، وتركا لهذه القطعة البائسة أن تتشكل على هيئة زومبي يعيش فقط على نهش جثث الجنود القتلى على الأسلاك الشائكة أو في الخنادق التي حفرتها قذائف الطائرات على طرفي الحدود.. أليست جمهورية محايدة للموتى؟.

ليس مهيناً فقط ما ترى وتشاهد، ولكن صورة المحطة الخاوية من الحياة تشير إلى أن بشراً كانوا هنا وربما أصابهم الطاعون أو أكلتهم قطعان الزومبي في الليل، وأن الحياة التي كانت هنا رحلت حيث يمكن لقاطنيها أن يتكاثروا في الأقبية المظلمة لتنجب أطفالاً دون عيون وأفواهاً مغلقة بخيوط دموية.. أو ليست تلك حكاية غير مهينة لسكان محطة الوقود الجالسين في سياراتهم صامتين بانتظار انتهاء خطبة المتملق لسيده المنتصب على جدار البناء المقابل للمحطة.

أما الحالمون فهربوا خارج تلك الأسوار الجديدة حيث لا مكان لمن يحمل الماء والياسمين، أو لمحبي الصور الهانئة وصنّاع الأفلام

عشر سنوات من القيح والقبح أخرجت كل ما في هذه البقعة من أحقاد ونوازع قتل من كل الأطياف السورية، وأوصلت البندقية إلى كل متعطش للدم من أجل الدم، وأما الحالمون فهربوا خارج تلك الأسوار الجديدة حيث لا مكان لمن يحمل الماء والياسمين، أو لمحبي الصور الهانئة وصنّاع الأفلام، ولا صوت للمغني الشعبي وهو يحفّز الجمهور على الصراخ، ولا بيت لفقير يبتسم بأسنان صفراء محطمة من الطعام القاسي والإهمال، ولا وطن بسيط يمكن نطق اسمه دون لازمة اسم القائد وعائلته، وطن لا يعيش بين وجهي القاتل وظله المتملق.