سوريا.. أرض الله الصغيرة

2020.09.19 | 00:00 دمشق

mn-mwskw-aly-washntn-han-alwqt-lmughadrt-shrq-alfrat.jpg
+A
حجم الخط
-A

في رواية أرض الله الصغيرة، للكاتب الأميركي الشهير "أرسكين كالدويل" (1903 ـ 1987)، يروي لنا كالدويل بعض سيرة حياة أحد مُلاك الأراضي المدعو "آدم". أرسكين كالدويل علم من أعلام الأدب في الجنوب الأميركي. وقد اشتهر بين الناس برواياته الجميلة التي ذاع صيتُها، مثل (بيت في المرتفعات) و (طريق التبغ) و (أرض الله الصغيرة).

الملّاك آدم، وكما يصفه الكاتب، إنسان مستقيم ومتديّن، ويحب فعل الخير للناس. وتبدأ الرواية من فكرة خطرت ببال آدم، وحسم أمره في شأن تنفيذها ـ رغم أنه استشار كل معارفه وجيرانه وآل بيته فيها ـ وهي أن يتبرع لله بقطعة أرض صغيرة، يجعلها موقوفة على مصاريف الخير، ولكي تتزود الكنيسة، بيت الله، ببعض حاجاتها من ريع هذه الأرض، التي باتت تُعرف لدى الجميع ـ بعد قرار آدم هذا ـ باسم: أرض الله الصغيرة.

كانت نية الملّاك آدم هي الخير والثواب، ومن جانب آخر كان آدم يطمع في أن يساعده الله بعد منحه أرضاً صغيرة من أملاكه وأراضيه، في شيوع البركة وزيادة إنتاج الأرض، فوق كسب الثواب في الآخرة. لكن الذي حدث أن الفلاح آدم قد تفاجأ بمشكلة جديدة، وهي مشكلة العناية بأرض الله الصغيرة إلى جانب اهتمامه وعنايته بأرضه، والإنفاق على أرض الله الصغيرة فوق إنفاقه على أرضه. من سيفلح أرض الله الصغيرة؟ من سيدفع أجور الجرارات والعمال، وكلفة نقل الموسم إلى السوق؟ يبدو أن الكنيسة غير عابئة أو مهتمة بالأمر. وعليه، فقد وجد آدم نفسه في ورطة جديدة؛ هناك دفتر حسابات لأرضه ودفتر حسابات لأرض الله. ولقد اضطر في بعض المواسم، أن "يقرض الله من ماله" ـ حسب تعبيره ـ على أمل أن يُحصّل مبالغ ما أنفقه عليها في نهايات المواسم. كانت أرض الله الصغيرة بوراً، كثيرة الكلفة قليلة المحصول. وهي دائماً مدانة لمالكها السابق آدم. وكانت متأخرة دوماً في سداد دينها، فتراجع إنتاجها وتدهور.

نهاية الأمر، يقرر الملّاك آدم أن يبيع أملاكه جميعاً (بالطبع ماعدا أرض الله الصغيرة التي تنازل عنها فلم تعد له)، بسبب شدة ضائقته المالية. لكن المشتري الوحيد الذي تقدم لشراء أرضه ودفع ثمناً مجزياً مقابلها، اشترط عليه شرطاً قاسياً، أوقعه في ورطة جديدة. فقد رفض أن يشتري أرض آدم إلا وأرض الله الصغيرة جزءاً من كامل مساحة العقار. يتردد آدم بعض الوقت للتفكير. هذا "سطو على حق الله"، وهو حق لا يملكه بعد أن صارت أرض الله الصغيرة "جزءاً من أملاك الله". ويرفض أن يبيعه الأرض في البداية.

لكن الآخر يصر ولا يتراجع عن شرطه: إما شراء كامل الأرض، وإما لا بيع ولا شراء لأي جزء منها. وبعد محنة ومعاناة من جانب آدم، وبعد مراجعة للموقف يقرر آدم "أن الله ليس بحاجة لهذه الأرض المديونة دائماً والفاشلة"، وغير المثمرة كما ينبغي. الله غني، وهو يملك السماوات والأرض والكون كله. ولن يضيره أن تُنتقص من أملاكه أرض الله الصغيرة هذه. فيضمُّها آدم للمالك الجديد، وينتهي مآلُها لأن تكون جزءاً من عقد البيع وشرطه.

ما أشبه سوريا اليوم بأرض الله الصغيرة..؟

إنها المنذورة لله اسماً، وللبيع والمتاجرة بها وللخراب فعلاً. كلُّ من تدخل ويتدخل في شؤونها منذ عشرة أعوام يتقرب إلى الله والإنسانية والحرية والعدالة ومصلحة السوريين ببيع قسط منها. وإقراضها مالاً أو الاقتراض باسمها. معظم مسلحي الأرض وفدوا إليها طلباً للأجر والثواب. (لا أحد يعلم لماذا لم يطلبوا الأجر والثواب في بلادهم أو جوارهم). ثم اضطروا أخيراً إلى بيعها جملة وتفصيلاً، هي وثوابها معها.

أصحاب المشاريع نذروها قرباناً لمشاريعهم! وكل طالب ثواب الجهاد، وكل طالب ثأر، وكل من قرر تصفية حساباته مع عدو، قرر أنَّ ثأره لن يُنال إلا في سوريا. سوريا المنذورة للثواب والثأر. وللابتلاع والقضم. سوريا الموقوفة لفعل خيرات الدول والأمم والشعوب، ولتطبيق السلام والعدالة فوق أرضها.. العرب والعجم، والكفار والمؤمنين، والسياسات والاستراتيجيات، والقوميات الحية والمنقرضة، والطوائف والأديان الحية والمنقرضة، وتجارب سوق السياسة وسوق النخاسة وسوق السلاح.

إنها الوطن الذي عايش الحضارة منذ خمسة آلاف عام وعايشته، وأنتجها وأنتجته، وأبدعها وأبدعته. ثم ـ وفي لحظة واحدة ـ جميع المشترين باعوا. وجميع الواهبين والكرماء والمانحين، تخلوا وتنازلوا، وفروا من دفتر دينها وأعبائها، كما فرّ "آدم"، بطل رواية كالدويل، فِراراً من أرض الله الصغيرة.

داعش قررت أن تقيم خلافة الإنسان لله على الأرض فيها. ونظام الأسد الذي تنازل عن ثلاثة أرباعها يريد ثمناً 100 دولار فقط، من مواطنيها لكي يعبروا إلى وطنهم وبيوتهم. وتنظيم PYD الذي ورث ثلثها في غمرة الفوضى، (بورقة "يانصيب" السياسة) يريد كفيلاً يكفل أي مواطن قد يفكر بالسفر من عين العرب إلى تل أبيض، ومن عامودا إلى الشدادي. لافروف قضم حصته الكبرى، ودفع ثمنها فقرات لجنة دستورية تنوي وتخطط لأن تجتمع وتكتب الدستور منذ ثلاث سنوات. والأمم المتحدة والمجتمع الدولي لا مصلحة له، لا في بيع ولا شراء. هو فقط يتمشى في سوق أرض الله الصغيرة، ويتفرج على البائعين والشارين. العرب يتثاءبون من الملل. ويتسلون أحياناً بالتغريد على تويتر، وأحياناً بدعم السيسي أو بإذكاء القتال بين السراج وحفتر، أو مصالحتهما.  

حينما ستحين لحظة الحقيقة، ويقرر طالبو الخيرات وأهل السياسات أن يرحلوا، أو يُصفّوا تركة الخراب، وبقية اليباب، وحين سيتنازل الجميع عن النصر والبيع والكراء والشراء، والأجر عند الله، عندئذٍ لا مناص من بيعها إلى معاليم ومجاهيل، لا فرق. ودمج مناطق خفض التصعيد مع مناطق رفع التصعيد. وإتمام صفقة البيع الاضطراري والتخلص من الحجر والبشر والأشلاء والدماء، وما علق في ضمائرهم من ديون وذنوب.

لأن شرط البيع موقوف على دمارها الكامل، وإسلامها إلى قدرها النهائي الأخير. ولأن الله الذي يطلبون ثوابه وأجره، ويسارعون إلى جنته لن يضيره، وهو مالك السماوات والأرض وهذا الكون الكبير، أن تُنتقص من ملكيته هذه الـ " سوريا " الصغيرة، والتي كانت جميلة ومرغوبة ومحل طمع ورغبة وثواب..

تماماً، مثل أرض الله الصغيرة.