icon
التغطية الحية

سردية الهويات في رواية "قناع بلون السماء" الحائزة على البوكر

2024.05.06 | 15:23 دمشق

65856868768
+A
حجم الخط
-A

اشتغل الكاتب الفلسطيني سامر خندقجي في روايته "قناع بلون السماء" الحائزة على جائزة "البوكر" العربية لعام 2024 على الخط الزمني التاريخي من خلال البحث في سيرة مريم المجدلية؛ الشخصية النسائية الأكثر جدلاً في العالم، إذ تقدِّم الرواية قراءات تمَّت من زوايا مختلفة، اعتماداً على الوثائق والأسفار والأناجيل بنسخها المتعددة، وعلى رأسها قراءة دان بروان في روايته الشهيرة (شيفرة دافنشي)، تقدِّم هذه القراءات العديد من الرؤى الدينية والثقافية والتاريخية والفلسفية -الغنوصية على وجه التحديد- لسيرة المجدلية، فتقترب من الحقيقة حيناً، وتبتعد عن الحقيقة إلى حدِّ التزوير حيناً آخر، وكأنَّ الكاتب يعطي القارئ بذلك نموذجاً عمَّا تمَّ عبر التاريخ من تلاعب ممنهج ومقصود بالتاريخ، فيسقطه على واقع الهوية الفلسطينية التي تعرَّضت لعملية "اغتصاب تاريخي"[1] من قِبَل الصهاينة محترفي التزوير. ثم إنَّ تقديم الكاتب لبطل روائي فلسطيني (نور مهدي الشَهْدي) يختصُّ بدراسة الآثار، وينخرط بالعمل مع بعثة أثرية ترعاها سلطة الآثار الصهيونية، يمكن أن يعكس في تأويله السعي لمواجهة محاولات الصهاينة الحثيثة في خلق تاريخ لهم مقابل الحقيقة التي تنطق بها الأرض، مؤكِّدة غربتهم عنها، وتنكُّرها لهم.

يسعى الكاتب في حديثه عن المخيم إلى تقييد الحيز المكاني بما أوتي من خيال، فالمخيم بأزقته الضيقة، وبيوته الإسمنتية المتلاصقة، وحديده وصدئه، يرسم ملامح هوية غير حقيقية للفلسطينيين الذين عاشوا فيه، بل هي ملامح  يسعى الآخر الصهيوني إلى تكوينها على أتمِّ ما يكون من التَّشوه والخذلان، ولم يقتصر الكاتب على تقييد المكان الذي انفتقت عنه هذه الهوية، بل كان الزمان داخل المخيم يعتصر دقائقه في فراغ وجودي واسع، لينتج هذا المخيم شخوصاً روائية مغتربة عن ذاتها ومغتربة عن واقعها بكلِّ ما فيه من قهر وظلم واستلاب، تجترُّ الماضي وتعيش على أطلاله، فتتحوَّل هذه الهوية إلى "ثقب أسود يبتلع صاحبه"[2] كما حدث مع مهدي والد نور الذي تحوَّل بعد خروجه من السجن إلى رجل صامت لا تصدر عنه سوى همهمات غير واضحة، تشبه هذه الهوية العبثية المنفصلة عن أصحابها.

تبرز في سردية الخندقجي الروائية هويتان رئيستان من خلال الاعتماد على ثنائية الذات والآخر، لكن هذه الهويات تتشظَّى إلى مجموعة من الهويات المتصارعة على الوجود والشرعية

ولا يكتفي الكاتب بالحديث عن الهوية التي تجسدها المخيمات بوصفها أمكنة تضم الفلسطينيين الذين تمَّ تشريدهم، بل يتحدث عن المكان الذي تمخَّضت عنه هوية الصهاينة أنفسهم، فقد عاش اليهود أنفسهم حياة المخيمات في أوروبا من خلال (الغيتو) الذي كان يعد مكاناً يفصلهم عنصرياً عن غيرهم من الأوروبيين، ولكنهم استطاعوا أسطرة مأساتهم بعد الهولوكوست، استطاعوا ذلك بكلِّ الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، ليتبادلوا الأدوار مع شعب انتزعوا منه أرضه وتسببوا في شتاته، الفرق يكمن بالقدرة، هذه القدرة ذاتها هي التي ستدفع نور للمجازفة بارتداء القناع الصهيوني والانغماس في عالمهم الخاص لـ "يلد هويته"[3] من رحم المخيم الذي لفظه من جوفه باحثاً عن ذاته، ومن رحم الأرض المغتصبة التي بنى عليها الصهاينة مستوطناتهم.

وإذا كانت هوية المخيمات الفلسطينية هوية طارئة ومؤقتة ومشوهة، فإنَّ المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يعيشون حالة من فقدان الذات، فقد تمَّ إلغاء هويتهم من قبل عدوهم الذي اغتصب أرضهم، وانتزعت منهم الهوية قسراً، كما انتزعت عنهم الإنسانية، ليتحولوا إلى مجرد أرقام بلا ملامح، كلُّ سجين يحمل عدداً يدلُّ عليه، ويمعن في تشييئه.

كما تبرز في سردية الخندقجي الروائية هويتان رئيستان من خلال الاعتماد على ثنائية الذات والآخر، لكن هذه الهويات تتشظَّى إلى مجموعة من الهويات المتصارعة على الوجود والشرعية، فصحيح أنَّ نور-بطل رواية الخندقجي- حين يتقمَّص بملامحه (الإشكنازية) شخصية أور شابيرا يمتلك جواز سفرٍ وعبورٍ آمن، إلا أنَّ هذه الملامح تغدو هوية تستلب هويته الأصلية؛ لأنَّ "قيمة الملامح تستمد معانيها من العنصرية والأحقية الإلهية والتصورات والأحكام المسبقة"[4]، في عالم قائم في أصله على الثقافة الإقصائية والتمييز العنصري وسياسة الاستيطان، أور شابيرا يحتل المركز ونور الشهدي يقبع قسراً في الهامش، تقسيم مقيت خلقته هويتان متناقضتان هوية سالبة وهوية مستلبة، هوية تسعى بكلِّ ما أوتيت من احتيال وكذب على إثبات وجودها، وهوية تتمسَّك بوجودها الأصيل، وتقاوم الانتهاك الذي أصابها في مقتل، مع ملاحظة قصدية الكاتب لجعل لغة قناع شابيرا لغة تعلوها نبرة الوقاحة والاستفزاز والاستعلاء في المونولوج المتخيل بين شابيرا ونور. داخل التناقض القائم على عدم الشرعية والاستلاب في هوية الآخر المحتل يكمن تناقض آخر، هذا التناقض بين هوية اليهود الأوربيين (الأشكناز) وبين هوية يهود العرب، إذ تبرز مرة أخرى مشكلة المركز والهامش، الرئيسي والثانوي، فاليهود الشرقيون بهويتهم العربية عوملوا بدونية من قبل الأشكناز "سادة أرض إسرائيل"[5] وهذا يعني أنَّ العنصرية تمارس بين الصهاينة أنفسهم، وهناك مراتب للهوية الصهيونية نفسها، إنها هوية تأخذ ميزتها من مأساة الهولوكوست التي أصابت يهود أوروبا، هوية تنتقم لمأساتها بمأساة، حين حولتها إلى منظومة أخلاقية تشرِّع التطهير العرقي الذي مورس في نكبة 1948.

لم يهرب نور إلى جوانيته، كما لم يهرب إلى التاريخ عبثاً، بل راح يوظف هويته القائمة على الملامح لاسترجاع هويته واستعادتها، لذلك يقول نور لقناعه الصهيوني "أنا أريد أن أدركك كي لا أصير مثلك، أريد أن أستخدمك لكي أتحرر منك"[6]، وعندما ينتحل نور شخصية أور شابيرا أو "يرتكبها" على حد تعبر الخندقجي هو يمارس فعل الانتهاك الذي تمَّت ممارسته على شعبه. لذلك هو لا يريد أن ينسحب من هذا الانتهاك المضني، ولا يريد أن يتلاشى فيه، بل يريد أن يواجه هذا القناع وهذه الهوية محصناً بشرعية هويته وأحقيتها في البقاء على الرغم من غواية هذا القناع على الاتحاد به والإدمان عليه، فكان لابدَّ لنور من أن ينتفض "ويلد هويته ويستعيد ذاته ويحرق قناعه"[7]، ليمزق هذا القناع المسخ الذي شوَّه هويته الحقيقية.

قناع بلون السماء.. هو هوية هؤلاء الشباب الفلسطينيين المحصنين ضدَّ العدو الذي يسعى إلى إلغاء وجودهم ومحو هويتهم، هو هوية "نور مهدي الشهدي" المنتفض من رماده، هو هوية "سماء إسماعيل" الفتاة الفلسطينية المشاركة في البعثة الأثرية صاحبة الهوية الحقيقية البعيدة عن كل الأقنعة، هوية تستمد القوة والطمأنينة من الحقيقة التي يشهد عليها التاريخ، هوية تقابل الادعاء بالإثبات والحجة الدامغة، هوية ترفض البطاقة الإسرائيلية الزرقاء وتثور عليها، هوية تمثِّل "الحضور والجرأة والأمل والثبات"[8]وتمثِّل طهر المجدلية على الرغم من ادعاءات الحاقدين عليها.


[1] باسم خندقجي، قناع بلون السماء، بيروت: دار الآداب، ط1، 2023، ص26
[2] المصدر السباق، ص76.
[3] المصدر السابق، ص76.
[4] المصدر السابق، ص70.
[5] المصدر السابق، ص118
[6] المصدر السابق، ص133.
[7] انظر المصدر السابق، ص77.
[8] المصدر السابق، ص225.