سراب السلام والعدالة المهدورة

2023.02.03 | 07:33 دمشق

سراب السلام والعدالة المهدورة
+A
حجم الخط
-A

تعد كلمة السلام من الكلمات التي تثير قدرا من التوجس وعدم الارتياح في الذاكرة السياسية للسوري، وذلك لسببين: الأول هو تردد هذه الكلمة آلاف المرات، في مبادرات ومعاهدات ومؤتمرات سعت إلى إيجاد حل للقضية الفلسطينية منذ أكثر من نصف قرن، دون أي جدوى (ولا سيما معاهدتي كامب ديفيد واتفاقية أوسلو، والمبادرة العربية حول الأرض مقابل السلام). أما السبب الثاني فهو حديث نسبيا، ويتعلق بسماعهم هذه الكلمة في غالبية المناسبات التي يتم التطرق فيها إلى حلول للوضع في سوريا، ولكن أيضا دون أي جدوى تذكر. 

طبعا سبب خيبة أمل السوريين، وقبلهم الفلسطينيين، من مفهوم السلام أن الراعين الدوليين للسلام يريدون السلام، ولكنهم غير مهتمين بالعدالة وإنصاف شعوب المنطقة، في حين أن السوريين والفلسطينيين يريدون السلام الذي يعتقدون أنه يحقق لهم العدالة، ولا معنى للسلام عندهم من دون عدالة. والدول النافذة في المنطقة تريد السلام لأنها تعتقد أن لها مصالح يمكن أن تهتم بها عندما يعم السلام. ولعل هذا هو السبب في تحول النظرية السياسية العالمية اليوم للاهتمام بالسلام، وتراجع اهتماماتها بالعدالة في العقود القليلة الماضية.

غالبية من يريد التطبيع مع نظام الأسد يكثر من مصطلحات السلام والاستقرار، ولا يأتي إلى أي جملة تتحدث عن العدالة والإنصاف وحقوق السوريين

وعلى ذلك فإن السوري لا يجد أي جدوى مما يسمعه حول مفاوضات ستجري بين روسيا وتركيا وإيران لإيجاد "سلام في سوريا". لا سميا وأنه تابع عدة مبادرات سابقة تكاد تذهب أدراج النسيان. ويعود قلق السوري إلى أن غالبية من يريد التطبيع مع نظام الأسد يكثر من مصطلحات السلام والاستقرار، ولا يأتي إلى أي جملة تتحدث عن العدالة والإنصاف وحقوق السوريين.

والسلام بلغة أكثر واقعية يعني "الاستقرار الدولي". وغني عن البيان أن الأطراف الأقوى دائما تبحث عن الاستقرار لأنه يساعد في بقائها بوصفها الأقوى. أما الأطراف الخاسرة فتريد تحقيق العدالة لأن العدالة هي من ينصفها وليس السلام. والمشكلة أن السلام المراد في هذه الحالات هو أقرب إلى التسليم أو الاستسلام، أو إعادة الوضع إلى المربع الأول.

كما أن الاهتمام العالمي بالسلام يرتفع ويتراجع من حين إلى آخر. ويرتفع غالبا بعد الحروب وما تخلفه من دمار. ويعود تراجع اهتمام السياسة العالمية بالعدالة وتقدم الاهتمام نحو السلام، خلال العقود الأخيرة، إلى تزايد حضور الواقعية السياسية في السياسة الدولية. دون أن ننسى جهود كانط وعدد من فلاسفة التنوير في إرساء فلسفة تؤسس لسلام عالمي.  

أما العدالة التي تتضمن الإنصاف (بحسب جون رولز) فمهمة لشعوب المنطقة، وإن كانت ليست مهمة بالنسبة للدول الفاعلة، ولعل هذا هو السب المباشر مثلا في تراجع أوباما عن خطه الأحمر المشهور، حتى قبل أن يعرف من الطرف الذي استخدم الأسلحة الكيماوية. بل تراجع الاهتمام العالمي عموما لإيجاد حل للأوضاع في سوريا مبني على العدالة والإنصاف.  

لا يمكن بناء السلام على جثة العدالة. وكل محاولات السلام التي جرت، وستجري، في المنطقة لم، ولن، تفضي إلى شيء إن لم تأخذ مسألة العدالة في حساباتها. وفي الحقيقة لا سلام حقيقياً من دون عدالة وإنصاف. وإذا كانت الواقعية السياسية تؤكد على حضور الواقع والمصالح وتقلل من شأن العواطف والإيديولوجيا فإن مسألة العدالة ليست كذلك. العدالة مسألة واقعية وهي التي فجرت الثورة في سوريا، ومن دونها سيبقى السلام مجرد سراب.

ولا بد من ملاحظة أن دعوات تحقيق "السلام في سوريا" ليست حقيقية بالمعنى السياسي للكلمة؛ أي ليست مستندة إلى خيارات استراتيجية واقعية بعيدة المدى قدر استنادها إلى ظروف أنظمة المنطقة وحسابات في انتخاباتها وتوجيه رسائل سياسية، إن لم نقل إنها جزء من مساومات والحصول على مكاسب. الملاحظة الثانية أن الدول التي تسعى إلى السلام في سوريا (بمن فيها دول عربية: الإمارات، الجزائر) دول غير قادرة على ضمان السلام الذي تسعى إلى إقامته إلا جزئيا على أكثر تقدير. فهي دول ليست صاحبة قرار نهائي في المنطقة، وهي تلعب في هامش تركته لها أميركا وأوروبا. حتى أن بعض هذه الدول يعاني من أزمات حقيقية، مثلما أخذت سيادة بعض تلك الدول على أرضه تتآكل في الفترة الأخيرة، خصوصا أننا بدأنا نسمع عن قصف أجنبي لمواقع في مدينة أصفهان الإيرانية.

في العلاقات الدولية، لا يجوز أن نحصر انتباهنا السياسي على الدول بوصفها أنظمة حكم، بل كشعوب أيضا؛ أي النظر للعالم بصفته "مجتمعا واحدا"

ينتقد عدد كبير من منظري الفلسفة السياسية اليوم نظرية العدالة الدولية (المساواة السيادية بين الدول، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر، احترام القانون الدولي) لأنها نظرية أخذت مصالح الأنظمة الحاكمة بحسبانها ولم تهتم بمصالح الشعوب، خاصة الشعوب التي ترزح تحت أنظمة تسلطية. ويطالبون بالعدالة العالمية (تسمى أحيانا العدالة الاجتماعية) وهي نظرية تقول بأنه، في العلاقات الدولية، لا يجوز أن نحصر انتباهنا السياسي على الدول بوصفها أنظمة حكم، بل كشعوب أيضا؛ أي النظر للعالم بصفته "مجتمعا واحدا"، كما يقول كريس براون.

وتعود المفارقة إلى أن نظرية العدالة الدولية تريد تحقيق السلام عبر قوننة العلاقات بين الدول، على الرغم من أن أنظمة الدول التسلطية غير عادلة مع شعوبها، وبالتالي تظهر هذه الأنظمة على الساحة الدولية بوصفها عاملاً لا يساعد على السلام. وبالنسبة للحالة السورية فإن ما يحقق السلام هو وجود نظام سياسي عادل مع السوريين، وإلا ستبقى أسباب غياب السلام قائمة بالنسبة للسوريين، وحتى بالنسبة للمنطقة عموما. إنه سراب السلام.