icon
التغطية الحية

سجال بين المفكر المغربي والمشرقي.. الجابري وطيب تيزيني نموذجا

2022.12.25 | 15:50 دمشق

الجابري
+A
حجم الخط
-A

أثار مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري سجالاتٍ فكرية كثيرة، فقد نشرت حوله الكتبُ والدراسات وعُقدت الندواتُ. وتأتي جهود المفكر السوري الراحل د. طيب تيزيني ضمن هذه الأعمال البارزة التي تتصدّى لمشروع الجابري الذي له مسوّغاتُ نقده والوقوف تجاهه منها ما يعلنه الجابري نفسه من أنّه يدشّن “عصر تدوينٍ جديد” للثقافة كذلك. 

وكما يقول طيب تيزيني في كتابه من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي: “فإن التحدث عن مسوّغاتٍ للبحث في كتابات الجابري أمرٌ واردٌ وضروري أيضاً من موقع أن الفكر العربي المعاصر يحتمل مثلَ هذه الكتابات بقدر ما يحتملُ كتابات أخرى بـ (مقالاتٍ) ومواقف وآراء ورؤياتٍ وأطروحات كثيرة ومتنوّعة على نحو ملفتٍ. مع الإشارة إلى أن مواقع هذه الكتابات الجابري وغيره من المصداقية المعرفية تختلفُ وتتباين خاصةً إذا كانت كتاباتُ الجابري كما يصفها التيزيني ليست محايدةً ولا فاترةً وصاحبها “يعلن أنها أتت إجابةً على معظم مشكلات الثقافة العربية”. 

يوحي عنوان الكتاب “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية” بالعلاقة الثنائية التناحرية فيما بين مشروع المفكر “المغربي” ومشروع “المشرقيّ” مع ملاحظة أن تيزيني يتصدّى للنَّزعة “المغربية” في ثنايا مشروع الجابري الذي يعتدّ بمغربَّيتِهِ ويعتبر أن المفكّر “المشرقيّ” مرتزقٌ بينما هو المغربي لا يأتي على تأليف ونشر كتاب إلاّ إذا كان حقّاً يعتقد أنه سيأتي بشيءٍ يستحقُّ أن يكون كتاباً ...(!) ونحنُ حقّاً نصاب بالدهشة إن كان الجابري حقّاً يقصدُ ما يعنيه ويعلنه تماماً! متذكّرين كتب كلّ من “حسين مروة – مهدي عامل – إلياس مرقص – صادق العظم – طيب تيزيني” ونتساءل هل هؤلاء “مرتزقون”؟

الجابريّ يفصلُ بين هويّةٍ اجتماعية وهويّةٍ ذاتيةٍ نظرية خصوصية وهذا فصلٌ هو من قبيل الالتباس كما يفعل ميشيل فوكو الذي هو من مراجع الجابري ومصادره الأساسية. ويرى تيزيني أن الفكريَّ والنَّظريَّ لا بدّ من أن يتوازى مع حامل اجتماعي والعلاقة بينهما علاقة واضحةٌ بحيث لا يذوب الاثنان ولا يستقلاّن عن بعضهما وإن حصل استقلالٌ فهو “نسبيٌّ” فحسب بينما يرى الجابري أن من المستحيل ربط القضايا الدينية والنظرية والمضمون الأيديولوجي للتراث بالواقع الاجتماعي والطبقي والفيزيائي وهذا ما يسميه تيزيني الدعوة إلى “الّلا أدلجة” القائمة على إلغاء النسيج الأيديولوجي الحاضر موضوعيّاً من قبل المعرفيّ ويكتشف يكتشف تيزيني أنّ ما يدعو إليه الجابري هنا نجد له نقيضاً في كتابات الجابري نفسها حين يتحدث عن إشكالية الأصالة والمعاصرة فيستخدم في حديثه في كتابه “المسألة الثقافية” التعابير التَّالية “إشكالية الأصالة والمعاصرة هي أساساً إشكالية أيديولوجية تعكس نوعاً من التّمزق في الوعي أساسُه هيمنة الماضي على الحاضر وتناقض المستقبل مع الماضي” الجابري في هذا يُصنَّفُ – بحسب تيزيني – في الموقع الفلسفي المثالي الذي لا يرى صاحبه علاقةً بين الفكر والتاريخ .

إن الوقفة النقدية التي ينشئها تيزيني في علاقته مع القراءة الجابرية وقفةٌ تستوفي شروط الكيفيّة المنهجيّة التي من المفترض توفّرها في مثل هذه الوقفات لذلك لا يترك تيزيني عنصراً من عناصر آليَّة عمل الجابري إلاَّ ويأتي عليها في المنطلقات المنهجية وفي الآراء والأفكار وفي الغايات جميعاً .

 في الفصل الثَّالث من كتابه يتناول تيزيني موضوع “شبهة المنهج” ويستقرئ تجلياتها لدى الجابري وتتوضَّحُ الشُّبهةُ المعنيّةُ من خلال ضَبْطِ تيزيني للفكر العربي متلبَّساً باستسلامه المريع للتيارات “الفكرية والنظرية والمنهجية المتحدّرة من الغرب الأميركي والأوروبي”  –ص55- إنَّ هذا الفكر “مستباحٌ” بتعبيره وفيما يخصّ منهجية الجابري يشير تيزيني إلى أن الجابري في الوقت الذي يرفض فيه اعتماد المناهج الجاهزة يعود ليعتمد المناهج المتعدّدة على أساس أنّ “كلّ المناهج مفيدة ومهمّة” حسب الجابري لكن هذا الموقف حسب تيزيني هو “خطوة باتّجاه المفارقة المنهجية المنطقيّة”.

ومن هذه المفارقات الجابريّة الدَّعوة إلى قراءة الحدث أو الّظاهرة قراءةً من الدَّاخل كما كان يفعل ابن رشد الذي بحسب الجابري “دعا إلى فهم الدين داخل الدين وبواسطة معطياته وفهم الفلسفة داخل الفلسفة وبواسطة مقدّماتها ومقاصدها” وأراد هو نشر هذا المنهج “الرّشديّ” الأمر الذي يُعتبر لدى تيزيني مفارقةً “لا تجدُ حلاًّ لها إلاَّ بصيغة ابتلاعها من قبل جهاز مفاهيميّ جابريًّ يفتقدُ المفاهيم” فما يفعله الجابري يعني ضمن ما يعنيه ألاَّ ضرورة للمناهج المعاصرة وتغدو هذه “أمراً نافلاً” .

 أيضاً –وعلى صعيد المنهج– يزاوجُ الجابري بين المنهج البنيانيَّ –بتعبير تيزيني– والبنيويّ والمنهج التّاريخيّ ويتساءل تيزيني كيف يمكن تحقيق هذا التّزاوج الذي يعني أن نزاوج بين فهمٍ بنيويّ للبنية وفهمٍ تاريخيّ للتاريخ وكذلك يعني مزاوجةً بين فهم بنيانيّ للتّاريخ وفهم تاريخي للبنية؟ إنّ هذا الموقف كما يسميه تيزيني يفصح عن نزعةٍ تلفيقيّةٍ ويذكر أن الجابري نفسه اعترف بأن مثل هذه المزاوجة يؤدي إلى تنافر وشطط كما أن ذلك يعتبر – على حدّ زعم تيزيني – قصوراً معْرفيّاً منهجيّاً في فهم كلًّ من البنيانيّة والمنهج التاريخيَّ وهذا ينتجُ صورةً تجمَعُ بين طرفين على نحو تلفيقويّ ثم إن الجابري يُغيّبُ المنهجَ التاريخي عندما يقترب من المسألة التَّطبيقيّة مكتفياً باستحكام المنهج البنيوي به.

إن تيزيني يعتبرُ أنّ حديث الجابري عن ثقافة مشرقيّةٍ (صحراوية) وثقافية غربية (بحريّةٍ) حديثٌ يضمرُ نزوعاً أيديولوجيّاً غير نزيه وقبولُ هذا التّجزيء يعني في النهاية “فكّ الارتباط المزوَّر والمخادع بين العربيّة والمغربيّة”

ولكن لنا أن نذكر هنا أن تيزيني لا يأتي على ذكر ولو من باب الانتقاد – المنهج البنيويّ الذي يمكن أن يفسح مجالاً للتاريخ والمجتمع وذلك هو المنهج الذي اختلف عن بنيويّة “الشَّكلانيّين الرُّوس” من حيث تعامل مع البنية على أنها ليست مغلقةً كما يعتبر الشكلانيّون الذين أغرقوا في الشكلانيَّة وربّما كان استغراقهم هذا ردّ فعلٍ على استغراق الأيديولوجيّين في الواقع والمجتمع حتَّى جاء “لوسيان غولدمان” الذي ربط ما بين البنية والعالم من خلال رؤية العالم رؤيةً مختلفة وهذا ما اعتُبر منهجاً بنيويّاً تكوينيّاً. أي أن دعوة الجابري من حيث المبدأ ممكنةٌ أمّا عدم تطبيقها فهذا شأنٌ يبدو من اختصاص سجالات المفكرين وحدهم بالَّدرجة الأولى.

يناقش تيزيني ما يسمّيه “خرافة الاستقلال التّاريخيّ التَّامّ” وهذه الفكرة لدى الجابري بحدّ ذاتها مقولةٌ “غرامشيّةٌ” يتبناها هو كمفتاح لتحرير الفكر العربي الحديث والذّات العربية لكن الجابري “يقدّم إلينا هذه المقولة الغرامشية في مواضع متعدّدة من كتاباته دون أن يفكر لحظةً بتوثيقها أي بإحالتها إلى مظانَّها الأصليّة” كما يقول تيزيني. كما أن تحرير الذات عبر استقلالٍ تاريخيّ تامّ يُعتبر “هَوَساً أيديولوجيّاً فاقعاً” بتعبير تيزيني. والجابريّ يتلقَّفُ هذه الفكرة غير ملتفتٍ إلى أنها تصلحُ أو لا تصلح للتّشخّص الاجتماعي التَّاريخي عربيّاً.

كما يعتبرُ تيزيني أن انطلاق الجابري من مفهومات مثل “القطعية الأبيستيمولوجيّة” المعرفية يشوبه زيف من الناحية المنطقية والتاريخية لأنه يطيحُ بذلك بعددٍ من العلاقات المفترض قيامها بين الدَّاخل والخارج والجابريُّ يُعتَبَرُ لا تاريخيّاً ولا نقديّاً عندما يقدم نزعةً أبيستيمولوجيّة تتعالى على شروط التّاريخ ويتمّ هنا القَطعُ مع التراث مثلاً قطعاً كلّيّاً مطلقاً ممَّا يعني نَسْفاً وإلغاءً لكلَّ ما سبق “راجع الفصل السادس الخاصّ بموضوع الثقافة والفلسفة العربية بحامل اجتماعي تاريخي غير عربيّ – يونانيّ”

ينطلق تيزيني من مقولة الجابري “كلّ القراءات المعاصرة للتّراث العربي هي قراءات سلفيّة” وأنّ قراءتَهُ هو وحدها البديل. في حين أن تيزيني ينقدُ هذه المقولة فيرى أنَّ التراث لدى الجابري يدخل في حقل المسلّمات النَّاجزة ويعتبر نقده للقراءة السلفية للتراث قراءةً تلفيقيّةً وأنه – أي الجابري - يقف أحد موقفين إمَّا اعتبار هذه القراءة مشروعة مقبولة أو مرفوضة باعتبار لا تاريخية “غير مشروعة” ويؤكد تيزيني أن القراءة المشروعة قد تكون قراءةً “ظاهرةً سلبيةً” ولكن يمكن لها أن توجد دون أن يعني وجودها أنها الأحقّ.

كما لا يخلو نَقدُ الجابري للقراءة الأورباويّة من اضطراب منهجيّ كذلك يبحث فيه تيزيني ويشير إلى المتناقضات التي ينطوي عليها هذا النقد لا سيّما النّسغ الاستراقيّ الذي يتغذّى عليه نقدُ الجابري الذي لم يكن نقده في النهاية للقراءة الأورباوية إلاّ “رؤية أيديولوجيّة ميكانيكيّة تجهل التاريخ والديالكتيك كليهما”.

أما النقد الجابري للقراءة اليسارية فيلتقط تيزيني فيه الفكرة المحورية التّالية إن ما يعتبره الجابري “يساراً عربيّاً” يتبنَّى في موقفه من التراث (المنهجَ الجدليّ) هو اعتبار ساذج لا يفرّق بين المنهج الجدليّ الذي “لا ينتمي من حيث هو إلى الماركسية وإن انتمى إلى الهيجليّة أو الفتشويّة أو بعض التّوجّهات الفلسفية الوجوديّة مثلاً إنَّ ما ينتمي إلى الماركسية هو المنهجُ الجدليُّ التّاريخيُّ والماديّ”.

 أمَّا القراءة الجابرية البديلةُ فواقعهٌ هي الأخرى في مجموعة من (لخبطات) كما يعبّر تيزيني تقريباً فهي قراءة قائمة على محددات معرفيةٍ غير صامدة أمام فعل النقد والتفكيك خاصّة منطلقاتُهُ من العقلية اليونانيّة في قراءة التّراث واعتماده القطيعة المعرفيّة الشاملة ثم إن تصوّر الجابري للتراث لا يرى في التَّطوّر الفكريّ في التاريخ العربيّ إلاَّ بُعداً أيديولوجيّاً “أمَّا البعد المعرفيّ فغريبٌ عنه وعليه”.

وإن وجد مثل هذا البعد فيعتبرهُ وافداً من اليونان وأوربا الحديثة ويفنّد تيزيني زعم الجابري، مذكّراً بأمثلة عربية مشهورة تثبت وجود بعد معرفيّ في تطور الفكر العربي مثل الحوارات الفلسفية ما بين الغزالي والفلاسفة وابن رشد ....إلخ

إنّ معظم الاضطراب المنهجيّ الجابري مردُّه إلى أنَّهُ مشبَعٌ بخطاب الهيمنة المركزوية الأوربية حيث يصرّ هذا الخطاب على ثنائية الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان وهذه الثنائية تضطهد العقل العربي بمقارنته مع العقل الغربيّ لصالح هذا الأخير الذي – في منظور هذا الخطاب – يحلّلُ ويركّب ويخترع بينما الأوّل العربيُّ مشغولٌ بالشَّطح والانفعال والتّأمّل وإنّه عقلٌ تكوّن مرةً واحدةً في الجاهلية حتى الأبد .

ومن المركزوية الأوروبية إلى المركزوية المغربيّة (الاستغراب المغربي) ينتقَّل الجابري ليفصل –كما يرى تيزيني– بين مدرسة فلسفية شرقية ومدرسة فلسفية غربيّة أندلسية وهذه واقعة مسهورةٌ من وقائع الخطاب الجابري التي يفككها تيزيني في كل مناسبة وينقضّ عليها مهشّماً رافضاً لها داعياً إلى وحدة الفلسفة العربية يقول عن الجابري عندما يفصل بين مدارس هذه الفلسفة “إنّه قارئ غير مدقّق لتاريخ الفلسفة في المغرب العربي” وفي سياق نقده وجولانِهِ الفكري حول هذه المسألة يستنتج تيزيني أن المشروع الثقافي الاستثنائي المغربيّ الأندلسّي ما هو إلاّ تلفيق من الجابري وهو مشروع “يفقد مصداقيّتَهُ باعتبارين اثنين واحد قوميّ وآخر معرفيّ”  لأنّ الجابري يجزّئ بنيان الوحدة الثقافية العربية بين المشرق والمغرب إضافةً إلى أنَّ تناوله – معرفيّاً – لتراث المشرق “الغنوصي العرفاني” هو تناولٌ مضطربٌ بل هو تشهيرٌ لاعقلانيّ مغرض.

إن تيزيني يعتبرُ أنّ حديث الجابري عن ثقافة مشرقيّةٍ (صحراوية) وثقافية غربية (بحريّةٍ) حديثٌ يضمرُ نزوعاً أيديولوجيّاً غير نزيه - وقبولُ هذا التّجزيء يعني في النهاية “فكّ الارتباط المزوَّر والمخادع بين العربيّة والمغربيّة”– وهذه رؤيةٌ استشراقية تدعو للفصل بين هويّتين حضاريتين واحدة عربية إسلامية غير عقلية وأخرى هوية يونانية أوروبية عقلية...

في الفصل التّاسع يناقش تيزيني موقف الجابريّ من المسألة الاجتماعية وموقعها من الفكر العربي وهو موقفٌ متناقضٌ يفصح عنه دعوة الجابري لنقدٍ عقلانيّ ونقدّ تاريخيّ ودعوة من باب آخر إلى استقلال الفكر النظري عن المجتمع ويذهب تيزيني في هذا الفصل لتبيان الدور البارز للواقع الاجتماعي في تكوين الفكر وبالتالي قيام هذا الفكر بإعادة صياغة الواقع من جديد وهذه اللعبةُ الجدلية يرى وضمن هذه الرؤية الجابرية “يغدو التاريخ هو التّاريخ اليوناني الأوروبي (الغربي) كما يغدو اللاتاريخ الوعاء الحقيقي لـ “العقلية العربيَّة الأصلية”.

الجابري في نظر تيزيني يأتي بالثنائيات الميتافيزيقية من دون أن ينشغل بها عميقاً بل يأتي بها هكذا جزافاً وهو مُماثلٌ “لمن يغطي وجهه في الرمال رغبةً منه في اتّقاء الحقيقة الواقعيّة” وذلك في تناوله لمسألة الديمقراطية حيث يطرحها مغفلاً دور القبيلة والعشيرة وما تفرزان من علاقات وأنماط تفكير في المجتمع العربي الأمر الذي يجعل الحديث عن الديمقراطية أمراً حذراً فهي بحاجةٍ إلى ظروف تنميَّتها وشروط تؤسس لها وهذا ما يغفله الجابري الذي يميل إلى “تعميم غير مشروط” إضافةً إلى ما ينتاب أداءه الفكري من عدم انسجام وعدم تماثل في معاني الصّيغ التي يعبّر بها عن فكرةٍ ما وقد تتناقض الصّيغ فيما بينها.