icon
التغطية الحية

"ريدلي سكوت".. تحطيم الصورة النمطية لـ نابليون والثورة الفرنسية

2023.12.08 | 05:46 دمشق

يببب
( Apple TV)
+A
حجم الخط
-A

تفاوتت آراء مشاهدي ومتابعي فيلم نابليون (Napoleon) منذ الساعات الأولى التي تلت عرضه الأول في دور السينما العالمية (في الـ22 من تشرين الثاني الفائت)، لتثير جدلا واسعا لدى بعض النقّاد والمؤرخين الغربيين، لم يخلُ من التشكيك وتوجيه الاتهامات صوب صانع العمل، المخرج الإنكليزي الشهير ريدلي سكوت.

أما معظم منتقدي الفيلم من المشاهدين العرب، فكان احتجاجهم يتمحور حول ما وصفوه بـ تركيز المخرج على جوزفين وعلاقتها مع نابليون (أدى دوره النجم الأوسكاري خواكين فينكس) على حساب مشاهد المعارك و(الأكشن)! ولعل أولئك المحتجون غير ملمّين بحجم تأثير تلك العلاقة على رسم تفاصيل حياة نابليون العسكرية والسياسية، سواء في قيادة الجيوش الفرنسية والمعارك التي خاضها داخل القارة الأوروبية وخارجها، أو في تدرّجه السريع في المناصب السياسية وصولا إلى تسلّمه السلطة المطلقة بوصفه "إمبراطوراً" (القائد الأعلى للجيش والدولة بمستعمراتها)، في تناقض تام مع شعارات الثورة الفرنسية (1789- 1799) المطالبة بالانتقال من النظام الملكي (المستبد) إلى الجمهوري (الديمقراطي) القائم على مبدأ حرية الشعوب في المقام الأول.

ذلك التأثير تجلى تماما في الرسائل التي حرص نابليون على الاستمرار بكتابتها وإرسالها إلى جوزفين لإبقائها على اطلاع كامل بالمستجدات التي تطرأ على تحركاته ومعاركه الداخلية والخارجية أولا بأول، منذ بدء علاقته معها ثم زواجه منها، مروراً بتتويجها –على يده- كـ "إمبراطورة"، وصولاً إلى ما بعد طلاقهما وزواجه من أخرى.

الفيلم كان دقيقا برصد تلك العلاقة وانعكاساتها المباشرة ليس على مشاعر وأحاسيس نابليون الشخصية فحسب، بل على قراراته العسكرية والسياسية أيضا، مثال على ذلك قراره بعودته الفجائية والسرية من مصر إلى فرنسا بعد انتشار أنباء "خيانته" من قبل جوزفين مع أحد جنرالاته في باريس، تاركا خلفه قادة الحملة وجنودها الذين أجبروا بعد مدة قصيرة على مغادرة الأراضي المصرية واللحاق به، معلنين بذلك عن فشل أهم الحملات الفرنسية التي كادت أن تطيح بالمستعمرات البريطانية المنتشرة على طول سواحل جنوبي آسيا، وعلى رأسها الهند (جوهرة التاج البريطاني).

لم يُقصّر "سكوت" طيلة دقائق الفيلم التي تجاوزت الـ150 دقيقة، في إبراز إنجازات نابليون وانتصاراته، وحنكته العسكرية والسياسية... ولكنه كان حريصاً في نفس الوقت على إظهار عيوبه ونزواته وتقلباته، وشهوانيته الطاغية

منذ ذلك الحين إلى يوم عرض الفيلم (نحو قرنين من الزمن) وجميع المصادر المكتوبة والمروية -تقريبا- تتفق فيما بينها على تفاصيل العلاقة بين جوزفين ونابليون، وأثر تقلباتها على حياة الأخير، لدرجة أن الناس صاروا يرددون العديد من الأقوال المبنية على طبيعة علاقة الرجل بالمرأة ومدى فعاليتها على ذهنية وإنجازات الطرفين، وينسبونها إلى نابليون؛ من بينها -على سبيل المثال- عبارة: "وراء كل رجل عظيم امرأة"، للدلالة على أثر جوزفين الإيجابي في بناء شخصيته وتحقيق انتصاراته. ولعل هذه العبارة المنسوبة لنابليون، استندت إلى كلمات وجهتها إليه جوزفين نفسها –ووردت في الفيلم- حين قالت له: "أتريد أن تكون عظيما؟ أنت لا شيء بدوني وبدون أمك".

عبارة أخرى نُسبت إلى نابليون جاء فيها: "جميع نساء العالم عاهرات وأستثني أمّي خجلاً"، زعم ناسبوها أنها قيلت تعليقا على خيانة جوزفين له.

وبصرف النظر عن صحة ونسبة تلك الأقوال من عدمها؛ لنسأل أنفسنا: لو لم تكن جوزفين، هل سيكون هناك نابليون؟

لا شك أن ريدلي سكوت تحرى الدقة والموضوعية في اختيار المصادر التاريخية المعاصرة لحقبة نابليون، والمراجع اللاحقة لها، قبل مباشرته بصناعة الفيلم، نظرا لحساسية المعلومات المرتبطة بقائد عسكري وسياسي يكاد يكون النسخة الأخيرة لشخصيات أوروبية خلّدها التاريخ القديم والعصور الوسطى، كالإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر وأغسطس وشارلمان، بالإضافة إلى حداثة الفترة المعاصرة لنابليون مقارنة ببقية الشخصيات السالفة، والدقة الأكبر لمصادرها المتنوعة، بما في ذلك المكاتيب المرسلة لجوزفين، وعشرات اللوحات الفنية التي وثّقت معارك نابليون وإنجازاته ومشاهد تنصيبه، ووضعيات جسده وملامح وجهه؛ بل ولحظة موته على السرير في نفيه الثاني والأخير بجزيرة "سانتا هيلين" جنوبي المحيط الأطلسي.

جوزفين
مشهد تتويج نابليون لجوزفين في الفيلم (يمين) مع لوحة التتويج المعاصرة للحدث

"سكوت" وكراهية الأنظمة

في سابق الأعمال التاريخية -التي يبرع "سكوت" بصناعتها- كفيلم: المجالد (Gladiator) عام 2000، ومملكة السماء (Kingdom of Heaven) 2005، وروبن هود (Robin Hood) 2010؛ مارس المخرج مطلق حريته في صياغة بعض تفاصيل أحداثها، وشخوصها، مع الالتزام بالإطار "الزمكاني" والاجتماعي العام، المتوافق مع المصادر المحدودة لتلك الحقب التاريخية القديمة نسبيا مقارنة بفترة نابليون.

ثم أن الحبكة الرئيسة في تلك الأفلام وأدوار البطولة فيها، تمحورت حول شخصيات هي غالباً خيالية: الممثل "راسل كرو" بدوريّ (ماكسيموس) في فيلم المجالد وروبن هود في الفيلم الذي حمل اسمه، و"أورلاندو بلوم" بدور (الحدّاد باليان) في مملكة السماء.

ولا يختلف اثنان في أن "سكوت" المعروف بجرأته وصراحته الجارحة، كان واضحاً في تعرية استبداد وفساد (الأنظمة الحاكمة/ السلطة ورأسها) التي كانت تسود أوروبا، سواء في الحقبة الرومانية كما في فيلم المجالد (قبل نحو 18 قرناً)، أو في فترة الحروب الصليبية المعاصرة لفيلمي مملكة السماء وروبن هود (قبل نحو 8 قرون)، في بيت المقدس وإنكلترا.

في فيلمه الأخير، لم يغيّر "سكّوت" من نهجه تجاه تعرية النظام الحاكم ورأس السلطة، ولكنه هذه المرة لم يستخدم في بطولة الفيلم شخصيات متخيّلة يمرّر عبرها انتقاداته إلى السلطة الحاكمة، وإنما كان بطل العمل هو رأس السلطة؛ نابليون نفسه.

وهنا تخيّل منتظرو عرض الفيلم بأنهم سيشاهدون بطلاً على غرار (ماكسيموس) و(باليان) و(روبن هود). فجاءت مفاجأة ريدلي سكوت لتبدّد تلك التكهنات، ولتعرض الحقائق كما هي؛ أو كما وردت في مصادر من عاصرها.

لم يقصّر "سكوت" طيلة دقائق الفيلم التي تجاوزت الـ150 دقيقة، في إبراز إنجازات نابليون وانتصاراته، وحنكته العسكرية والسياسية و... ولكنه كان حريصاً في نفس الوقت على إظهار عيوبه ونزواته وتقلباته، وشهوانيته الطاغية، بالإضافة إلى حجم التناقضات التي اعترت ما أطلق عليها "الثورة الفرنسية"، ليس من خلال نابليون الذي كلّفت حروبه في أوروبا وخارجها نحو 3 ملايين قتيل (من الجنود فقط)، بل من خلال رموز تلك الثورة وممثليها وقادتها و"حَمَلة شعلتها" الذين ما فتئوا يعودون لتنصيب الملوك و"الأباطرة" على عرش فرنسا (الجمهورية) كلما دعت الحاجة والمصلحة.

/هامش: نابليون الثالث (شارل لويس نابليون بونابارت) حكم فرنسا بصفة إمبراطوراً بين عامي 1852- 1870، إثر انقلاب على نظام الحكم. أي بعد الثورة الفرنسية بنحو 8 عقود!/.

الفرنسيون يهاجمون و"سكوت" يرد

بعد عرض الفيلم، سخرت صحيفة "لوفيغارو" بالقول إنه يمكن إعادة تسميته بـ "باربي وكين تحت الإمبراطورية"، في حين قالت مجلة "جيه كو" الفرنسية إن هناك شيء "مربك للغاية وغير طبيعي ومضحك عن غير قصد" في رؤية الجنود الفرنسيين عام 1793 وهم يهتفون "تحيا فرنسا" بلهجة أميركية.

كما انتقد كاتب سيرة نابليون، باتريس غينيفي، في مجلة "لوبوان" الفيلم واعتبره إعادة كتابة للتاريخ بطريقة "مناهضة للغاية لفرنسا وداعمة للغاية لبريطانيا".

بالمقابل، رد سكوت على الانتقاد الأخير قائلاً: "الفرنسيون لا يحبون حتى أنفسهم. ولكن الجمهور الذي عرضت عليه الفيلم في باريس، أحبه".

وطرح سكوت سؤالاً على النقاد الذين يقولون بأن الفيلم ليس دقيقاً من الناحية التاريخية: "هل عاصرتم الفترة؟ أوووه، لم تعاصروها. إذن كيف عرفتم؟". وتابع: "لقد جرى تأليف 10400 كتاب عن نابليون، بمعدل كتاب كل أسبوع منذ وفاته"!