روسيا والقُطْبية.. والمؤهِّلات الناقصة

2022.03.28 | 06:56 دمشق

000_323q7gq.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما تزال الصين تحتفظ بحكمةٍ أكبر من روسيا؛ لكونها تتجنَّب الشروع في مواجهةٍ واسعةٍ مع أميركا، والغرب، قبل أن تستكمل شروطَها. أو أنّ روسيا/ بوتين، رأت نفسها مضطرة إلى الانجرار إلى تلك المواجهة، في حربها على أوكرانيا؛ برغم نقص عُدَّتها، وعدم مغادرتها المرحلة الانتقالية.  

ولعل السبب أنّ روسيا لا تزال تحتفظ بقدر من الاستعلاء، في نظرتها إلى العالم، يجعلها تسيء تقدير قوّتها، ولوازم المزاحمة على عالم متعدّد الأقطاب، وكأنها ورثت شيئًا من ذلك عن الاتحاد السوفييتي الذي اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنَّ انهياره أكبرُ كارثة جيوسياسية، إذ حتى علاقتها بالصين، أيام الاتحاد السوفييتي، لم تخلُ من تلك النظرة الدونية، كما يوضِّحها كلامُ الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف الذي وجَّهه للزعيم الصيني ماو تسي تونغ، مؤسِّس جمهورية الصين الشعبية.

الروس لم ينجوا، وَفْق كارل ماركس، من إرث المغولية، والبربرية، إذ رأى أن روسيا مولودة في "الوحل الدموي للعبودية المغولية"؛ تلك الروح التي تجعلهم متعطِّشين، دومًا، إلى الغزو

جاء في مجلة ناشونال إنترست، نقلًا عن مترجمة صينيَّة كانت حاضرة في اجتماع للزعيمين، أنَّ ماو كان غاضبًا من الطريقة التي تحدَّث بها الزعيم السوفييتي، وغيره من الروس، حين قال: "نحن الأخ الأكبر. أنت أخ صغير. نحن قادة الشيوعية العالمية، آباء المؤسسة الماركسية اللينينية، وطليعة الشعب. سنستمع إليك، بالطبع، ونأخذ مخاوفك على محمل الجد، لكن عليك اتِّباع قراراتنا بمجرَّد اتخاذها. لا يمكن للشيوعية العالمية أن تحيا  من دون الوحدة في المعسكر. لا يجوز لك الخروج من المخيم. عليك أن تتبع وتطيع. لأننا نرى أبعد منك؛ لأننا نعرف أكثر منك".

 وإذا كانت روسيا، اليوم، ورثت عن الاتحاد السوفييتي تلك الاستعلائية المتضخِّمة، فإن الروس لم ينجوا، وَفْق كارل ماركس، من إرث المغولية، والبربرية، إذ رأى أن روسيا مولودة في "الوحل الدموي للعبودية المغولية"؛ تلك الروح التي تجعلهم متعطِّشين، دومًا، إلى الغزو.   

وفيما يُؤمَل بعالم ثُنائي القُطبية، أو متعدِّد الأقطاب، يشمل أميركا وروسيا، بالإضافة إلى الصين، يحقُّ التساؤل عن القطب الثاني؛ عن خطابه إلى العالم، أو رسالته، هذا إنْ ثبت أن له رسالة إلى العالم؛ رسالة يُفترَض أن تستند إلى مشترَكات إنسانية متجانسة، حتى لو كانت شعاراتية؛ بغية شرعنة قيادتها، وإضفاء جاذبية إنسانية على نموذجها الحضاري.

فهل تستند جدارة روسيا العالمية إلى العدالة، مثلًا، مقابل الظلم الغربي، أم إلى مجرد إنهاء التفرُّد الأميركي؟

وفي البدء، لا بد من تأكيد أن الجدارة بالقيادة العالمية لا تقوم فقط على السلب، أو النفي؛ لأن قصارى هذا المسوِّغ يقتصر على الهدم، دون البناء، فحين يرفض المفكر الروسي، إلكسندر دوغين، فرْض بعض القيم الليبرالية الغربية، كالمِثْليَّة وغيرها، فهذا بحدِّ ذاته، ليس كافيًا لإثبات صحّة الأطروحات الروسية، الخاصة.

هذا الفكر النقدي السلبي لا يثبت حتى وجود، أو تبلور فكر روسي متجانس يقابله. كما لا يثبت، واقعيًّا، سلامة التطبيقات الروسية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وهو لا يعني تحقُّق الرضا الشعبي الروسي العام عن نتائج تلك الأفكار والسياسات التي طبقَّها بوتين، كما أن مجرّد حدوث زيادة في الدخل القومي لا يثبت صحَّة النُّظُم التي نُفِّذت؛ إذ يعود ذلك في نسبة كبيرة منه، إلى استفادة روسيا من زيادة أسعار النفط والغاز في التسعينيات، من القرن الماضي، وأنّ الاقتصاد الروسي لم ينجح في أن يكون واسعًا، فضلًا أن يكون متنوِّعًا، فغالب الدخل يعتمد على النفط والغاز والسلاح، وبعض المعادن، بالإضافة إلى منتجات غذائية، ويأتي أكثر من نصف عائدات الصادرات الروسية من البترول والغاز الطبيعي، بينما تبلغ حصة المعادن من الصادرات الروسية 11 في المئة، والمواد الكيماوية 8 في المئة، في حين تبلغ حصة الأغذية من إجمالي الصادرات نحو 7 في المئة.

ويبقى سؤال مهم عن النموذج الجاذب الذي قدَّمه بوتين، سواء على الصعيد الداخلي، ومقدار الرضا الحقيقي، بعيدًا عن الإثارة القومية، أو التخويف من الغرب، مقابل من يتمنَّون تحسين مستوى المعيشة، لهم كأفراد. وبإقرار المفكِّر الروسي سيرغي كاراغانوڤ، فإنَّ مشروع روسيا: "أوراسيا الكبرى" "لا يمكن أن ينجح، دون تحسين نوعية الحياة لغالبية شعبها، و"يشمل هذا الازدهار العام، والرعاية الصحية، والتعليم، والبيئة".

ثم السؤال عن النموذج الخارجي لشعوب العالم؟

ماذا قدَّم للعالم وللشعوب التي سعت لنيل حريتها، وتقرير مصيرها؛ من الشيشان إلى سوريا، غير سياسة الأرض المحروقة، وتدمير المدن، وترويج السلاح الروسي بأرواح البشر، ومقدَّرات المدن التاريخية والحضارية، ففي الحرب الشيشانية الثانية (1999-2009)، استخدم بوتين سياسة الأرض المحروقة والتدمير المُمَنْهَج، وقاد حملة عسكرية شرسة خلَّفت زهاء 200 ألف قتيل، معظمهم مدنيون. وأما ما فعلته آلته العسكرية في سوريا من وحشية فلا يزال ماثلًا، ومشهورًا.

على روسيا أن تبدأ بتكوين نموذجها الفكري؛ بالتخلُّص من الماركسية المستوردة، ومن الديمقراطية والليبرالية الغربية، أيضًا

ثقافيًّا، قدم دوغين الثقافة الأوراسية بديلةً عن الحضارة الغربية. وهي معادية للثقافة الغربية، ولكنها لا تدَّعي، بحسب قوله، سعْيَها للهيمنة على الحضارات الأخرى، كما هو شأن الغربية، وهذا جيِّد؛ لجهة نفي الاستعلاء، أو التعالي، وفرْض النفس على ثقافات الشعوب الخاصة، ولكنه لا يفضي بالضرورة، إلى ما سمَّاه كاراغانوڤ بالتدمير البنَّاء. كاراغانوڤ الذي يصرِّح في مقالته:" السياسة الخارجية الجديدة لروسيا.. عقيدة بوتين" التي نُشرِت، مؤخَّرا، بأن على روسيا أن تبدأ بتكوين نموذجها الفكري؛ بالتخلُّص من الماركسية المستوردة، ومن الديمقراطية والليبرالية الغربية، أيضًا، يقول: "نحتاج أن نبدأ العمل نحو الاستقلال الفكري"، وهو يؤيد دعوة عالم السياسة الروسي البارز ميخائيل ريميزوف بضرورة "إنهاء الاستعمار الفكري"؛ وصولًا إلى "أيديولوجيا روسية جديدة تدمج معها تاريخنا وتقاليدنا الفلسفية". ما يعني أن روسيا ما تزال في طور البحث عن هوية ناضجة، ويبدو النضج، مأمولًا، أو مفتقَدًا، في قوله: "تحتاج روسيا إلى اقتصاد سياسي جديد، خالٍ من العقائد الماركسية والليبرالية، ولكنه يملك أيضًا شيئًا أكثر من البراغماتية الحالية التي تستند إليها سياستنا الخارجية. يجب أن تتضمن المثالية الموجهة إلى الأمام أيديولوجيا روسية جديدة تدمج معها تاريخنا وتقاليدنا الفلسفية". وكاراغانوڤ، مع ذلك، يقرّ بأن تلك المَهَمَّة، على ضرورتها، كبيرة، وصعبة.

هذا الشرط غير المتحقق بعد، باعترافه، هو هدفٌ مأمول، وغير مضمون، وهو شرط لتبلور شخصية روسيا، لتكوين خصائص مميزة داخليا، ولمواجهة العالم والغرب، به، خارجيًّا. هذا فضلا عن متطلبات أخرى يراها ضرورية لنهوض روسيا من قبيل، "الأمن العسكري، والسيادة السياسية والاقتصادية. في العالم الجديد".

مع أن هذه العدالة المدَّعاة، أو الإنسانية المزعومة، روسيًّا، تحتاج إلى ما يدعهما في سياسات روسيا/ بوتين، فتعامله مع الشيشان، وكذلك تعامله مع سوريا لا يُعَدُّ، بحال، دليلًا على أيِّ قدر من الإنسانية، اللهم إلا إذا اعتبرنا سياسة الأرض المحروقة، وتدمير المدن، واتخاذ الحرب وسيلة لتجريب السلاح الروسي وترويجه فائدةً إنسانية، يُحْتفَل بها.

وما أقوال المفكر الروسي دوغين الذي يوصَف بأنه عقل بوتين: "إمَّا أن تنتصر روسيا، في أوكرانيا، أو يزول العالم بالسلاح النووي". إلا مؤشِّر على عقيدة هذه القيادة الروسية، التي تحكُم نظرتها للعالم.  

وبعد، فهذا الاختلال الجوهري، في شخصية روسيا، وهويتها الثقافية غير الناجزة، لا يعني أنها استكملت ما عداها من شروط وأسباب؛ كسيادة القانون، والروح الإبداعية الخلّاقة، في مجالات متنوّعة وواسعة لا تقتصر على تصدير السلاح، وحماية الدكتاتوريات، الموالية لموسكو، والتابعة لها تبعيَّةً فجّةً، وبالية.

وليست العزلة الدولية التي أظهرها التصويت على الغزو الروسي لأوكرانيا في الجمعية العامة، إلا علامة على ضعف التأثير الروسي العالمي، بالقياس إلى حجم التأثير الأميركي، بغض النظر عن نزاهة الموقف الأميركي، في هذه الحالة، أو بشكل عام.