رمضان ليس كما ينبغي

2020.05.02 | 00:01 دمشق

whatsapp_image_2020-05-01_at_20.36.56.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يتجوّل رمضان في أزقّة البلاد الإسلامية وحواريها غريباً لا يكاد يتعرّف عليه إلاّ بعض الناس الذين شبعوا من الدنيا أو قاطعوها منذ زمن طويل.

رمضان يستجلي حضوره بالمحبة ويفخر بكونه مناسبة للتسامح والغفران. بحلوله يصل الناس ما انقطع بينهم من حبال الود.

الصيام لغةً: الإمساك والكفّ عن الشيء. وشرعاً: الإمساك عن الطعام والشراب والجنس، من الفجر إلى غروب الشمس. وفقهاً: الإمساك عن الشرّ وكفّ الأذى منذ الولادة حتى الموت.

يأتي واضحاً جهراً، وحين يراه الناس يتذكّرون تفاهة خلافاتهم ويبدؤون بإصلاح ما أفسده اللهاث خلف ما كانوا يظنّونه خيراً لهم، فإذا بشهر الخير يفتح بصائرهم ليعوا جمال العالم الذي يتميّز بالنقاء، وبدلاً من اشتهاء ما لدى الآخرين، يلحظ المرء الأشياء التي يحتاجها ويسارع إلى بذل ما لديه منها من أجل أقرانه.

لكنّ هذا الذي يفعل ذلك كلّ عام، يشعر بالغربة في قدومه الأخير. الناس يتراكضون ويواصلون صخبهم.. يشتمون الأفعال القبيحة ويمارسونها، ويتذمّرون.

العالم ليس كما ينبغي.. ورمضان أيضاً يتجوّل هذا العام ليس كما ينبغي، ويتساءل مندهشاً: كم من الأشياء ينبغي تغييرها كي نعود إلى رؤية رمضان واستيعاب فضائله والامتثال إلى متطلّباته وإشاعة المحبة بيننا، تماماً كما ينبغي؟

الصيام لغةً: الإمساك والكفّ عن الشيء. وشرعاً: الإمساك عن الطعام والشراب والجنس، من الفجر إلى غروب الشمس. وفقهاً: الإمساك عن الشرّ وكفّ الأذى منذ الولادة حتى الموت.

وإذا كان الكفّ وحده لا يكفي مالم يتلوه جارّ ومجرور يبيّن الفعل الذي يجب تجنّبه، فإنّ الصوم الشرعي يتّصل بالصوم الفقهي ولا يتمّ إلاّ به.

الصوم الذي فرض على المسلمين امتثالاً لقوله تعالى { يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون } هو أيام معدودات يمكن أن يُستثنى منها المريض والمسافر، فيعوّضها بأيّام أُخَر، أو بفدية. لكنّ هذا الاستثناء لا يُبيح للإنسان - المسلم وغير المسلم - في البلاد الإسلامية أن يجهر بفطره، وذلك احتراماً لشعائر العبادة التي هي مظهر من مظاهر التضامن الاجتماعي والأعراف والتقاليد التي يتميّز بها شعب من سواه.

والصيام الذي كُتب - بسماته الشرعية - إنّما يرمي المشرّع من ورائه إلى أمل بالإنسان أن يقي نفسه الآثام {لعلّكم تتقون} .

ولهذا جاء الحديث الشريف موضّحاً مواصفات الصيام (إنّما الصوم جُنّة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم.. إني صائم) وهنا يمتد الصيام ليشمل ترك التشاتم والتسافه، والبعد عن كل ما يضرّ المجتمع أو أي فرد فيه، وهجر كلّ ما نهى عنه الإسلام، وإتيان كلّ ما أمر به. فلا صيام للذين يغشّون أو يرتشون أو ينمّون، كما لا صيام يُقبل من الذين يؤذون الناس - بقصد أو غير قصد - ويعطّلون مصالحهم إما بقصد منفعة (رشوة) أو باللامبالاة التي يواجَـهُ بها أصحاب الحاجة من الذين أوكلتهم الأمة لقضاء المصالح، أو بحجّة الصيام الذي يشعر بثقله من يقتصر بصيامه على الحدود المادية للصوم، ممّا يجعله يتأزّم فيضيق حلمه وتغالبه طباع فاسدة تأصّلت فيه. يقول الرسول الكريم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

وهنا نصل إلى فائدة عظيمة يمكن أن يجنيها الصائم من خلال التزامه بأوامر الله، حيث يمرّن نفسه على الصبر وتقوية الإرادة، ممّا يمنحه احتراماً لذاته حين يلاحظ أنها تقوم بفعل مجاهدة لا يُلزمه بها أحد من الناس. وإنما هو أمر طوعي التزم به الإنسان تجاه خالقه، ولا رقيب عليه سواه.

يجوع فتسمو نفسه وترتفع عن الصغائر وتميل إلى الشعور بمعاناة الفقراء الذين لا يملكون إلاّ النذر اليسير من أقواتهم بسبب مغالبة أصحاب اليسار الذي يكنزون على حساب الآخرين ويسرقون جهدهم وثمرات أعمالهم.

لقد اعتدنا أشياء كثيرة نحاول التخلّص منها، ورمضان فرصة طيّبة لكي نمتحن قدراتنا على ترك عاداتنا الذميمة لنبني عادات أخرى نرغب أن نتحلّى بها.

قليلاً من الصمت أيها العالم..

قليلاً من الهدوء..

وكثيراً من التأمّل.

الحالمون: المفكرون والأدباء والفنانون والذّوّاقة.. البسيطون الذين يتحلّقون في دوائر الانتخاب سائلين بسذاجة: هل نقول نعم أو لا؟ الآباء الذين يكدّون من أجل أبنائهم، المدرّسون الذين يتّقون الله في مدارسهم، الزوجات اللاتي يحرصن على صيانة مملكة الأسرة، العاملون الذين يتقنون أعمالهم ويؤدونها بإخلاص؛ هم الذين ينتظرون رمضان، كل عام، بلهفة عاشق يُمنح وقتاً ليعشق العالم على طريقته. يفكك اللغة ويعيد تركيبها فتتفجر من داخله ينابيع ثرّة لسعادة تشرق عبر جمال جليل يؤكّد سيادة الإنسان على كون يصنعه بحب أسطوري تصغُر أمامه عظائم المكائد التي يتفانى الصاخبون في اختراعها على مدى الدهر.

ربما يكون رمضان لدى بعض الناس فرصة للتراخي والتهرب من المسؤوليات، ويكون لدى الجشعين فرصة لرفع الأسعار واستغلال التهافت على الاستهلاك.

ويكون لدى اللاهين مناسبة لمتابعة حثيثة للبرامج التلفزيونية الرمضانية المتلاحقة.

 حالات كثيرة يجسّدها رمضان لدى الناس على اختلاف أشكالهم ومشاربهم.

ولكنّ المتأمّلين – وحدهم - الذين يدخلون برزخ الوجد ليعتادوا على تحمّل العالم، ويتمكّنوا من مواصلة الحياة.

الإمساك عن الطعام وحده لا يكفيهم.. إنهم يمسكون عن الثرثرة، والصخب، واللهاث، والواقعية الفجّة.

الحالمون - وحدهم – يطالبون العالم بالكفّ عن الأذى، والقتال، والكذب، والنميمة، والمؤامرات، والاغتيالات.

ويطالبون العالم بالصمت، والصبر، والحب، والصدق.

الحالمون – وحدهم – يدركون سرّ الحياة من جوهر الموت، يشمّون رائحة رمضان، يستنشقون نكهته الصافية، يتذوقون حلاوة الخروج من دائرة الحاجة الطينية اليومية للكائنات الزائلة.

الحالمون – وحدهم – يدركون سرّ الحياة من جوهر الموت، يشمّون رائحة رمضان، يستنشقون نكهته الصافية، يتذوقون حلاوة الخروج من دائرة الحاجة الطينية اليومية للكائنات الزائلة، يرون الدائم في هذا الطارئ الأليم، يستوهبون البعث بالعبث، والانبعاث بالفناء. الحالمون - وحدهم – يصرخون في وجه الماجنين الذين يعجّ بهم العالم اللاهث: لنا رمضاننا ولكم رمضانكم.. أيها السادرون.

فلنحاول على صعيد التسامح والمحبّة وترك الشرور وإغراءات سلطان المال والقوّة، على صعيد الروح والاتّجاه نحو النور الإلهي، على صعيد التآخي والتراحم. لنحاول أن نجعل كلّ يوم رمضان.

ولنتذكّر حديث رسول الله (ص): (من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفّظ ممّا كان ينبغي أن يتحفّظ منه، كفَّر ما قبله).

جعلنا الله في عِداد الصالحين، وأعاننا على مكافحة الشرّ، مبتدئين بأنفسنا [التي نستثنيها عادة] كي لا نغدو كالذين يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم. آميــن.

كلمات مفتاحية