رسم دخول 200$ على السوريين.. فقدان المشروعية المحفزة لحراك قانوني ومجتمعي يواجهه

2023.12.01 | 06:59 دمشق

رسم دخول 200$ على السوريين.. فقدان المشروعية المحفز لحراك قانوني ومجتمعي يواجهه
+A
حجم الخط
-A

في قرار طال انتظاره بالنسبة للسوريين المقيمين في تركيا من حملة بطاقة الحماية المؤقتة، أصدرت بعض المجالس المحلية في مناطق درع الفرات قراراً بالسماح للسوريين بزيارة بلدهم في حال تحقق عدة شروط، كان أبرزها دفع رسم قدره 200$، الأمر الذي أثار استهجان شرائح واسعة من السوريين المقيمين في تركيا وذويهم في سوريا، لتبدأ النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي بين من يرى تعسفاً واضحاً ومبالغة من قبل المجلس المحلي في تحديد هذا المبلغ، وبين من يرى أن المهم إيجاد وسيلة قانونية ومشروعة لمنح السوريين وسيلة لدخول سوريا من دون اللجوء إلى السماسرة وطرق ملتوية لتأمين موافقة الزيارة.

من حيث الأصل، فإن سعي المجالس المحلية المعنية لتأمين وسيلة قانونية لدخول السوريين إلى بلدهم، يعني بصورة أو بأخرى ضماناً لحريتهم في التنقل ودخول بلدهم، وهذا يمثل حقاً دستورياً لهم بموجب المادة 19 من دستور 1950، والمادة 33 من دستور 1973، وبموجب المادة 38 من "دستور نظام الأسد لعام 2012" التي جاء فيها بأنه: "لا يجوز إبعاد المواطن عن الوطن، أو منعه من العودة إليه"، حيث تتوافق هذه النصوص الدستورية إجمالاً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 الذي نص على حرية التنقل في المادة 13 منه.

هل يعد قرار المجلس المحلي في مدينة جرابلس بفرض رسم دخول قدره 200 $ على كل فرد يريد زيارة بلده مشروعاً ومتوافقاً مع النصوص القانونية ذات الصلة بما فيها نص المادة 19 من دستور 1950 التي أعلنت المحاكم القائمة التزامها بتطبيقه؟

إلا أن ضمان حرية دخول السوريين المقيمين في تركيا إلى بلدهم لا تكون فقط من خلال تأمين وسيلة قانونية لدخولهم، وإنما يفترض أن تكون هذه الوسيلة ميسرة ومنظمة للحق لا مقيدة له، وفي حال لم يتحقق ذلك، تصبح هذه الإجراءات مخالفة لمبدأ المشروعية "سيادة القانون" الذي يفترض أن يكون حاكماً لقرارات مختلف المؤسسات القائمة في شمال سوريا، خصوصاً وأن هذه الأخيرة تدعي تمثلها قيم الثورة السورية في إعلاء القانون.

في ضوء ذلك، يرد السؤال التالي: هل يعد قرار المجلس المحلي في مدينة جرابلس بفرض رسم دخول قدره 200 $ على كل فرد يريد زيارة بلده مشروعاً ومتوافقاً مع النصوص القانونية ذات الصلة بما فيها نص المادة 19 من دستور 1950 التي أعلنت المحاكم القائمة التزامها بتطبيقه؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لنطلع على أحد اجتهادات المحكمة الإدارية العليا في مصر الذي قضى بعدم قانونية وزير الداخلية المقيد لحرية التنقل، حيث جاء فيه: "استنادا إلى أن حرية الانتقال تنخرط في مصاف الحريات العامة، وأن تقييدها دون مقتضى مشروع إنما يجرد الحرية الشخصية من بعض خصائصها، ويقوض صحيح بنيانها، كما أن الدستور..  عهد إلى السلطة التشريعية وحدها تقدير هذا المقتضى، ولازم ذلك أن يكون الأصل هو حرية التنقل، والاستثناء هو المنع منه، وأن المنع من التنقل لا يملكه إلا قاض أو عضو نيابة عامة يعهد إليه القانون بذلك، وينظم القواعد الشكلية والموضوعية لإصدار الأمر بذلك، في ضوء الضوابط التي وضع الدستور أصولها، وعلى هذا فإن أي نص يخالف هذه الأصول يعتبر منسوخًا حتما بقوة الدستور نفسه، باعتباره القانون الوضعي الأسمى". وبنتيجة هذا الحكم قضيت المحكمة بعدم دستورية قرار السلطة التنفيذية المقيد لحرية التنقل.

يشير الاجتهاد السابق من اجتهاد المحكمة الإدارية العليا في مصر، والذي ينطبق على حالتنا بأن تنظيم حرية التنقل مقيد بثلاثة شروط: الأول أن هذا التنظيم يكون بقانون يصدر حصراً من السلطة التشريعية؛ والثاني: أن يكون القانون متوافقاً مع النص الدستوري الذي حصر تقييد حرية التنقل بقرار من السلطة القضائية أو وفق قوانين الصحة العامة، الثالث، وهو الأهم، ألا يكون هنالك قيود تفرغ النص الدستوري من محتواه، وتجعل من الحرية مجرد نصوص لا قابلية لتطبيقها على أرض الواقع.

بالعودة إلى قرار المجالس المحلية المعنية بفرض رسم دخول قيمته 200$، ولو تجاوزنا مسألة عدم اختصاصها بإصدار هذا القرار بحجة أنه لا وجود للسلطة التشريعية في حالتنا الاستثنائية، نجد بأنه غير مشروع لمخالفته دستور 1950 الذي تؤكد المحاكم التزامها بتطبيقه حالياً، وذلك للأسباب التالية:

  1. مخالفته للنص الدستوري الذي أباح استثناء -وهذه نقطة مهمة- تقييد حرية التنقل بموجب قرار قضائي أو بقانون متعلق بالصحة العامة، وكلتا الحالتين غير موجودة في قرار المجلس.
  2. فرض قيود مالية على ممارسة حرية التنقل؛ فتنظيم الحرية يعني إيجاد الضوابط والآليات التشريعية التي تحولها من مستوى النصوص الدستورية النظرية، إلى الواقع التطبيقي العملي بالنسبة لجميع الأفراد وفي جميع الحالات، وبالتالي لا يعني التنظيم، بحال من الأحوال، حرمان فئة من الأفراد من حريتهم، أو وضع العوائق الإجرائية أو المالية في مجال ممارستهم لها، كما هو حال هذا القرار الذي بالغ في رسوم الدخول.
  3. إخلاله بمبدأ المساواة بين أصحاب المركز القانوني الواحد، فالأشخاص المقيمون في تركيا بالنسبة للمجالس المحلية هم سوريون أولاً وأخيراً، وبالتالي يفترض معاملتهم من قبل السلطات في المناطق المحررة بالمعايير القانونية ذاتها، بغض النظر عن وضعهم القانوني بالنسبة للدولة التركية سواء أكانوا مجنسين بالجنسية التركية أو خاضعين لنظام الحماية المؤقتة، وهذا لم يحدث، فالمجنس لا يدفع هذا الرسم، بينما غير المجنس يخضع لهذا الرسم.

في ضوء ما تقدم، ونظراً للمخالفة القانونية التي تشوب قرار المجالس المحلية بفرض هذا الرسم على السوريين الراغبين بزيارة بلدهم، يأتي السؤال ما الأدوات المناسبة للتصدي لهذا الخلل القانوني.

نعتقد بأنه يجب العمل على مسارين اثنين:

الأول قانوني، من خلال الطعن من قبل الأفراد المقيمين في تركيا أو من قبل ذويهم المقيمين في سوريا أمام المحاكم المدنية القائمة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون في مشروعية هذا القرار والمطالبة بإلغائه من خلال دعوى الإلغاء بوصفها دعوى القانون العام. حيث يفترض بالمحاكم التصدي لنظر مثل هذه الدعاوى بحكم أنها حامية العدالة وموئل الحقوق والحريات.

الثاني، مجتمعي، من خلال توقيع العرائض من قبل السوريين المقيمين في شمال غربي سوريا لمطالبة المجالس المحلية بإلغاء هذا القرار،> ومن خلال تفعيل نقابة المحامين نفسها عبر تواصلها مع المحاكم من جهة، والمجالس المحلية من جهة أخرى لبيان المخالفة القانونية الواضحة في قرار المجالس المحلية

لعل البعض يعترض على المطالبة بإلغاء القرار بحجة أنها تمنع وسيلة طال انتظارها بالنسبة للسوريين المقيمين في تركيا تمكنهم من زيارة ذويهم في سوريا من دون فقدان حقهم بالعودة إلى تركيا دون إيجاد البديل، وتفقد المجالس المحلية مصدراً جيداً لتمويل مشاريعها في الداخل.

إن المطالبة بتخفيض الرسوم بحيث تصبح مقبولة هي حق أساسي للسوريين في تركيا لضمان حريتهم في دخول بلدهم، وتتضمن تفعيلاً لأدوات قانونية ومجتمعية طالما افتقدها السوريون

بالنسبة للنقطة الأولى فإن فكرة الحق والحرية ذاتها، تعني أننا أمام قضايا مرتبطة بالإنسان ذاته ومساحة خاصة به واجب على السلطة احترامها وصيانتها، وليس انتهاكها ثم المساومة عليها، وهي لعبة طالما أتقنتها الأنظمة الاستبدادية التي كانت تساوم الأفراد على حقوقهم وحرياتهم وتخيرهم بين الحرمان الكلي أو التقييد؛ أي بين السيئ والأسوأ، ففي مثالنا لا يفترض أن تخير المجالس المحلية السوريين في تركيا بين دفع 200$ أو عدم السماح لهم بالدخول، بل يمكن لها مثلاً أن تجعل الرسوم مقبولة نوعاً ما، وتتناسب مع الواقع الاقتصادي لغالبية الأسر السورية، ولا تتجاوز في أعظم الأحوال 20$. أما بالنسبة للنقطة الثانية، فيفترض بالمجالس المحلية أن تبحث عن مصادر لتمويل مشاريعها بطرق مشروعة، وليس من خلال فرض رسوم على تمتع الفرد بحقه وحريته.

إن المطالبة بتخفيض الرسوم بحيث تصبح مقبولة هي حق أساسي للسوريين في تركيا لضمان حريتهم في دخول بلدهم، وتتضمن تفعيلاً لأدوات قانونية ومجتمعية طالما افتقدها السوريون، بالمقابل فإن عدم المبادرة للتصدي لمثل هذه القرارات غير المشروعة على حقوق السوريين وحرياتهم، كما هو الحال في الاعتداء الحالي على حرية التنقل، يعني أننا أمام هزيمة وعي جديدة تمنى بها الثورة السورية، وأننا ما نزال في ظل الاستبداد والقمع، وليكون قدر السوريين هو وجود سلطات تتقن لعبة العبث بالنصوص القانونية الضامنة للحقوق والحريات من جهة تفريغها من مضمونها من دون القدرة على مواجهتها قانونياً ومجتمعياً، وربما هذا يمهد لاحقاً لقرارات تجعل من ممارسة حقوق بدهية مثل الحق في التجمع أو اللجوء إلى القضاء أو حرية التعبير مرتبطة بدفع رسوم يصبح التمتع بهذه الحقوق أقرب إلى المستحيل.