ربيع براغ 1968 خريف براغ 2022

2022.10.09 | 06:31 دمشق

ربيع براغ 1968 خريف براغ 2022
+A
حجم الخط
-A

أوروبا الموحدة حلم فرنسي قديم لقيادة القارة وتكريس نفوذها وحصتها في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. حاربت باريس مطولا من أجل ذلك دون أن تصل إلى ما تريد. رعت في الخمسينيات التكتلات الأوروبية الاقتصادية لتكون مقدمة لوحدة سياسية وعسكرية لكن ثمن الحرب العالمية الثانية وولادة نظام القطبين حال دون منح أوروبا ما تريده. تجدد الحلم مع تفكك الاتحاد السوفييتي في آواخر الثمانينيات وشعور الأوروبيين أن الفرصة باتت سانحة للتخلص من الهيمنة الأميركية لكن الأحادية القطبية كانت أقوى وألزمت العواصم الأوروبية بالدوران في الفلك الأميركي.

دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الموجهة إلى 44 زعيما أوروبيا لعقد قمة موسعة في براغ تحت عنوان "المجموعة السياسية الأوروبية". وتجمع 27 دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي و17 دولة أوروبية أخرى تحلم جميعها بالعضوية الأوروبية. تعتبر بأنها محاولة فرنسية جديدة لتسجيل اختراق استراتيجي على 3 جبهات أميركية وروسية وأوروبية.

هدف الرئيس الفرنسي الثاني كان إعلان تقديم مصالح أوروبا على مصالح أميركا في بقعة جغرافية تعنيها أولا وأخيرا

 هدف ماكرون الأول وهو ينظم قمة فرنسية تعمد أن يختار العاصمة التشيكية براغ مكانا لها هو تذكير الروس بربيع براغ وبما جرى عام 1968. وأن حربهم في أوكرانيا ستتحول إلى خريف براغ 2022 هذه المرة، الرئيس الفرنسي أراد مواجهة التهديدات الروسية لأوروبا بعد غزو أوكرانيا في أواخر شباط المنصرم وإعلان أن أوروبا هي موحدة في رفض الغزو الروسي وأن تهديدات موسكو المستبعدة مع بيلاروسيا عن قمة براغ باستخدام السلاح النووي عند اللزوم لن يحول دون مواصلة التنسيق والتضامن الأوروبي دفاعا عن القارة. هدف الرئيس الفرنسي الثاني كان إعلان تقديم مصالح أوروبا على مصالح أميركا في بقعة جغرافية تعنيها أولا وأخيرا وأن العواصم الأوروبية لن تنتظر من واشنطن الدفاع عنها أو إلزامها بسياسات لا ترغب فيها وأن المعني الأول والأخير هنا هو حلف شمال الأطلسي حيث الشراكة الأميركية الأوروبية.

ماكرون في هدف ثالث آخر أراد أن يلزم 26 قياديا أوروبيا يجمعهم تكتل الاتحاد بتقديم مواقف ومصالح المجموعة على مصالح واشنطن وموسكو وضرورات ترجمة ذلك عبر التنسيق والتعاون الواسع مع 17 دولة أوروبية أخرى يهمها توسيع رقعة تعاونها مع الاتحاد الأوروبي.

من الممكن القول إن ماكرون حقق بعض ما يريد. هناك صورة عائلية أوروبية موحدة أمام المجتمع الدولي. وهناك رسائل من العيار الثقيل وجهت إلى روسيا ورفض سياساتها وأساليبها وتهديداتها. لكن عودة الروح إلى أوروبا برغبة فرنسية مستبعدة بل هي بين المستحيلات في هذه المرحلة. هناك طاولة أوروبية رتبت على عجل في العاصمة التشيكية لكن هناك أيضا حقيقة أخرى تذكر بحجم ملفات الخلاف والتباعد بين الدول المشاركة التي تتبع مسارات مختلفة جذريا حيال الاتحاد الأوروبي. بعضها منفتح على واشنطن وبعضها لا يريد المغامرة بمصالحه مع روسيا وثالثها يغرد خارج السرب الأوروبي اليوم، واللائحة تطول من النرويج إلى أوكرانيا وسويسرا وتركيا وبريطانيا ومولدوفا وصربيا وأذربيجان وأرمينيا واليونان. ماكرون يعرف أيضا أن الفاعل المؤثر في القارة الأوروبية نفسها هو واشنطن وموسكو وأن الكثير من العواصم الأوروبية هي في موقع المفعول به. فأوروبا هي التي تمول أوكرانيا في حربها وتدفع ثمن ذلك مليارات الدولارات من الخسائر وأزمة طاقة غير مسبوقة وهي الأقرب إلى روسيا في أي شجار نووي يقع.

يعرف ماكرون أن الأراضي الروسية اتسعت رقعتها حوالي 80 ألف كلم بعد دخول القرم والسيطرة على 4 أقاليم أوكرانية استراتيجية البعد. تجمع بحر آزوف والجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود. لكنه يعرف أيضا ما الذي يعنيه إعلان روسيا لدولتها الجديدة بحدود أوسع في أوروبا. عمليات نقل الحبوب ستكون بعد الآن من "داخل الأراضي الروسية". وبمقدور موسكو أن تقول وتفعل ما تريده بعد الآن في حوارها مع الجميع حول الملف. هذا إلى جانب واقع جديد يخالف ما قيل حول أن المسيرات التركية التي اشترتها أوكرانيا. تدافع عن أراضيها في مواجهة القوات الروسية التي اقتحمت القرم. لكنها بعد الآن ستكون المسيرات التركية التي تهاجم الأراضي الروسية "الجديدة". وعلى تركيا أن تبرر ذلك لموسكو إذا ما كانت تريد حماية مصالحها معها. هذا إلى جانب حقيقة أخرى تشير إلى أن حصة روسيا في البحر الأسود ستزيد بعد قرارات الضم والإلحاق وهذا يعني المزيد من الأعباء على الغرب وعلى تركيا أيضا في ملفات حركة السفن الروسية التي ستنطلق من مرافئ الدولة الجديدة باتجاه البوسفور. فكيف ستتعامل أنقرة مع الواقع الجديد؟ العلاقات التركية الروسية ستتوتر أمام المتغيرات في القرم والبحر الأسود وشرق أوروبا وربما كان هذا هدف واشنطن منذ البداية لمحاصرة الجميع برمي أصابع الديناميت المشتعلة وسط المكان.

في الوقت الذي كان يدعو الرئيس الفرنسي نظيره التركي أردوغان إلى مراجعة سياسته الروسية والالتحاق بقرارات العقوبات الغربية ضد موسكو بسبب غزوها لأوكرانيا. وكان الرئيس التركي يرد عليه عبر الإشارة إلى أهمية سياسة أنقرة في موازنة العلاقات التركية بين موسكو وكييف. وكانت الخارجية الروسية تستدعي السفير الفرنسي في موسكو بيار ليفي احتجاجاً على تسليم أوكرانيا أسلحة فرنسية متطورة مكنتها من استرداد بعض المناطق المحتلة. دخلت الدول النافذة في منظمة "أوبك بلاس" التي تضم أعضاء أوبك وشركاءهم ومن بينهم الروس. على الخط لتغضب الغرب بقرار خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، وهو أكبر خفض منذ تفشي كوفيد-19 عام 2020.

موسكو تعول على شتاء قارس في أوروبا يدفعها إلى مراجعة سياساتها في الملف الأوكراني والابتعاد عن السياسة الأميركية هناك

صحيح أن قمة براغ كما ذكر رئيسا حكومتي ألبانيا وهولندا تظهر أن كل الدول الأوروبية وليس تلك الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فقط موحدة. وصحيح أيضا أن ما جرى في براغ هو "ابتكار عظيم" كما قال المستشار الألماني أولاف شولتس. لكن الصحيح كذلك هو أن الحضور استعاضوا عن البيان الختامي بعشاء عمل وبالصورة التذكارية في مواجهة بوتين التي لا تقل قيمة وأهمية عن صورة مماثلة نشرت قبل أسابيع لقمة شنغهاي بفارق بسيط هو وجود أردوغان وعلييف في المكانين معا. موسكو تعول على شتاء قارس في أوروبا يدفعها إلى مراجعة سياساتها في الملف الأوكراني والابتعاد عن السياسة الأميركية هناك. وأوروبا تعول على حدوث معجزة تخرجها من ورطة مضاعفات الملف الأوكراني إقليميا ودوليا. مع التذكير أن أردوغان وعلييف هما من يستعد للمساهمة في إنقاذ أوروبا من أزمة الغاز التي تهددها وتعويض النقص في الغاز الروسي بمضاعفة قدرات خط تاناب من 16 مليار متر مكعب إلى 32 مليار متر مكعب سنويا.

ما جرى في براغ كان مساحة أوروبية جديدة للحوار وتبادل الآراء والتقاط الصور وعقد الاجتماعات الجانبية الثنائية والمتعددة الأطراف. والعراب الفرنسي ماكرون حقق رغبته المعلنة في أيار المنصرم بأن يرى قاعة مليئة بالأوروبيين دون روسيا. لكن لا حاجة لتحميل المشهد أكثر من ذلك والمبالغة في التقدير إلى درجة الحديث عن مولود أوروبي جديد أو محاولة إيصال الأمور إلى محاولة فرنسية جديدة لإحياء فكرة "الكونفدرالية الأوروبية" التي اقترحها الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران عام 1989.