رئيسان مأزومان ينتجان حرباً

2019.10.13 | 18:11 دمشق

20191013_2_38722473_48449635.jpg
+A
حجم الخط
-A

ثمة فائدة، لفهم ما يجري اليوم في شمال شرق سوريا، من العودة إلى الوراء قليلاً. أنتجت المباحثات التركية – الأميركية، في شهر آب الماضي، اتفاقاً على إنشاء "منطقة آمنة" من ثلاثة نطاقات يتراوح عمقها بين 5 – 14 كم. وهو ما فرضه الشريك الأقوى في تلك المباحثات، أي الولايات المتحدة التي عملت على مبدأ "لا يجوع الذئب ولا يفنى الغنم"، أي تلبية الهواجس الأمنية التركية الشهيرة من غير التضحية بالحليف الكردي. لكن هذه الصيغة لم ترق لمطامع أردوغان الذي كان بصدد إيجاد موطن لملايين اللاجئين السوريين الذين اعتبروا، بسبب الحساسية الاجتماعية المتصاعدة ضدهم، أحد أسباب خسارة مرشحي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية.

والسبب الآخر لتلك الخسارة الملوعة كان دعم حزب الشعوب الديموقراطي (الكردي) لمرشحي المعارضة في المدن الكبرى، وبخاصة جوهرة التاج إسطنبول. لم تنفع استعانة الحكم بعبد الله أوجالان وأخيه عثمان، "الإرهابيين" في عرف الحكم، في ثني ناخبي الحزب الكردي من التصويت لمرشحي المعارضة، فتعززت فكرة مشروع إسكان اللاجئين في المنطقة الحدودية كعازل ديموغرافي بين كرد تركيا وكرد سوريا، الأمر الذي منح المشروع صبغة "المصلحة القومية العليا للدولة" على مثال التغييرات الديموغرافية الكبرى في التاريخ القريب، من تهجير الأرمن واليونانيين والسريان والتضييق على اليهود وقمع التمردات الكردية المتتالية التي أدت إلى موجات تهجير كبيرة، على مدى القرن الماضي، واستجلاب عناصر اثنية أخرى، من بلاد القفقاس والبلقان واليونان، لتحل محل المهجرين.

الواقع أن مشروع "الفيلات من طابقين وحاكورة" لم يظهر بعد الانتخابات البلدية، بل تحدث عنه أردوغان للمرة الأولى في بداية العام الجاري، بعيد إعلان ترمب عن قراره بشأن سحب القوات الأميركية من سوريا، في كانون الأول 2018. وقتها كان المأمول تركياً هو إيجاد توافقات دولية بشأن المشروع متعدد الفوائد، يشمل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي. وإذ أدت مقاومة وزارة الدفاع الأميركية

ثمة شيء غامض في العلاقة الخاصة بين أردوغان وترمب، وهي العلاقة التي حمت تركيا، إلى الآن، من صقور الإدارة والكونغرس

لقرار ترمب بصدد الانسحاب من سوريا إلى بقاء قوة رمزية كافية لتشكيل مظلة حماية لقوات سوريا الديموقراطية، سحب المشروع من التداول، ولم يعد إليه إلا بعد فترة قصيرة من الاتفاق الأميركي – التركي بشأن المنطقة الآمنة، حين بدأت تركيا تتذمر من "مماطلة" الأميركيين على غرار ما حدث سابقاً بشأن وضع منبج.

هل حقاً ماطل الأميركيون في التنفيذ، أم أن هناك ما شجع أردوغان على المطالبة بالمزيد؟

ما نعرفه هو أن مركز عمليات مشترك لإدارة الوضع في "المنطقة الآمنة" تم تأسيسه في مدينة أورفا، وبدأ تسيير دوريات مشتركة أميركية – تركية، برية وجوية، في المناطق المتفق عليها. أكثر من ذلك: قامت "قسد" بإزالة السواتر والتحصينات العسكرية من النطاق (آ) ذي العمق 5 كلم كما نص الاتفاق. كذلك تم سحب السلاح الثقيل والمتوسط من تلك المنطقة.

ثمة شيء غامض في العلاقة الخاصة بين أردوغان وترمب، وهي العلاقة التي حمت تركيا، إلى الآن، من صقور الإدارة والكونغرس. فقرار سحب القوات الأميركية، في كانون الأول 2018، أعلنه ترمب بعد مكالمة هاتفية مع أردوغان، تماماً كقراره الجديد الذي أعطى الضوء الأخضر لتركيا لاجتياح المنطقة المستهدفة الذي أعلن عنه أيضاً بعد مكالمة هاتفية مماثلة. وقبلها كان ثمة مكالمة أخرى بين الرئيسين، حين كان أردوغان في نيويورك، وفشل في تأمين موعد للقاء ترمب، فاكتفى باتصال هاتفي لا نعرف ما دار فيه. حتى في تهديده الجديد بـ "تدمير الاقتصاد التركي" إذا خرج أردوغان عن الحدود المرسومة له، أحال ترمب إلى سابقة العام الماضي فقال: "كما فعلت سابقاً" وهو ما يعني محدودية الأثر المتوقع من التهديد الجديد. فقد تمكنت الليرة التركية من التعافي، بعد أسابيع قليلة من تدهور قيمتها بسبب "غضب ترمب" وحافظت على استقرار نسبي. صحيح أن ترمب قد وقع سلفاً على مشروع قانون عقوبات مطروح الآن على الكونغرس، ويتوقع مروره بغالبية مريحة، لكنه "علّق" التنفيذ.

ترمب المعرّض لإجراءات عزل جارية حالياً بمبادرة من الحزب الديموقراطي في الكونغرس، ربما وجد في الاجتياح التركي للأراضي السورية مخرجاً لأزمته، من خلال حرف أنظار الرأي العام عن مشروع العزل وإشغاله بموضوع خلافي جديد. وكان ترمب يأمل، في الأصل، أن يسحب ما تبقى من القوات الأميركية من سوريا، مع رمي مسؤولية معتقلي داعش وعائلاتهم على تركيا، فيتقدم إلى الانتخابات الرئاسية مع إنجاز كان وعد به في حملته الانتخابية الأولى. لكن مقاومة المؤسسة لقراره أدت إلى خفض طموحه حالياً على أمل أن تؤدي العملية التركية إلى وضع جديد يتيح له تنفيذ قرار الانسحاب النهائي. من المحتمل أن دعوة ترمب أردوغان لزيارة واشنطن في الثالث عشر من الشهر القادم، تهدف إلى تحقيق الإنجاز المذكور، بافتراض أن العملية العسكرية التركية حققت أهدافها إلى ذلك الوقت.

الرئيس التركي أيضاً يمر بأزمة هي الأصعب منذ استلامه السلطة في العام 2002. فإضافة إلى تراجع معدل التصويت لحزبه في الانتخابات البلدية الأخيرة، بدأت تظهر انشقاقات داخل الحزب تعبر عن حالة من عدم الرضى عن سير الأمور، أبرزها انشقاقا داوود أوغلو وباباجان الماضيان في مشروعيهما لإنشاء حزبين جديدين. أضف إلى ذلك المناخ التوافقي بين أحزاب المعارضة الذي شكل نذير شؤم بالنسبة لمستقبل بقاء السلطة في يد أردوغان.

حقق قرار الاجتياح "الإجماع الوطني" المطلوب من غير أن يبذل أردوغان أي جهد خاص لأجل ذلك. فقد تبرع كل من حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد، إضافة إلى حزب السعادة الإسلامي بتأييد العملية العسكرية بلا أي شروط. فأردوغان يعرف، من السوابق، أن هذه الأحزاب ستعود إلى بيت الطاعة حين يتعلق الأمر بقضايا تمس "الأمن القومي". هذا ما حصل بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، حين تم استبعاد

واقع الحال أن نجاح المشروع التركي أو فشله ما زال مشروطاً بعوامل خارجية تماماً: استمرار الموافقة الأميركية مع عدم فرض عقوبات، واستمرار غض النظر الروسي

حزب الشعوب الديموقراطي من روح "الإجماع الوطني"، وكذا في الاحتفال بذكرى "عيد النصر" في شهر آب الماضي حين اجتمع كل قادة الأحزاب، باستثناء الحزب الكردي الذي يقبع رئيسه السابق صلاح الدين دمرتاش في السجن منذ 3 سنوات.

لكن تغير الجو السياسي في غضون أشهر قليلة! انتقلت تركيا من آمال التغيير التي بلغت ذروتها في شهر حزيران، إلى الإجماع الوطني مطروحاً منه كرد البلاد بقيادة الرئيس أردوغان!

واقع الحال أن نجاح المشروع التركي أو فشله ما زال مشروطاً بعوامل خارجية تماماً: استمرار الموافقة الأميركية مع عدم فرض عقوبات، واستمرار غض النظر الروسي المشروط بمطالبة بوتين بحوار مباشر بين أنقرة وكيماوي دمشق. وعلى فرض نجاح العملية العسكرية، يبقى أن تحقيق مشروع إسكان اللاجئين السوريين مشروط بتمويل أوروبي – خليجي غير مضمون.