رؤساء جمهورية القهر

2022.08.03 | 06:15 دمشق

رؤساء جمهورية القهر
+A
حجم الخط
-A

لا شك أن الظاهرة الأبرز في حياة النظم الحاكمة، العائلية التسلطية، اعتمادها على ميليشيات طائفية خالصة، ومافيات اقتصادية، وكتائب حزبية، وفصائل مسلحة، كلّها مناهضة لمشروع الدولة الوطنية. استطراداً مع هذه المقدمة تغوّلت الميليشيات في سوريا نتيجة استراتيجية البقاء التي انتهجها نظام الأسد عام 2011، والتي ذهبت أبعد من إلحاق الهزيمة العسكرية بالمعارضة، لتشمل أيضاً إنشاء شبكة من الأشخاص التابعين بغرض تعطيل الخصوم الداخليين، والتعويض عن الشوائب لدى النظام وجيشه، غدت جزءاً لا يتجزأ من هيكلية السلطة الحاكمة، تعمل بصورة مطردة تحت مظلتها.

عموماً، إنّ التفويض الذي قدّمه النظام السوري للمجموعات المسلحة كان بمثابة القرار الذي تنتظره للتصرف بصورة لا مركزية غير مقيّدة بأيّ تعليمات من قياداتها، فاكتسبت الكثير من النفوذ بحيث لم تستطع الدولة ضبطها أو قمعها. ولعلّ أدل برهان على هذا أنه في عام 2017، وعندما قررت إدارة المرور في دمشق القيام بدوريات لمنع وقمع محاولات زعزعة الاستقرار، وردع أيّ تظاهرات مسلحة من الطواف في شوارع المدينة، وقع انفجار في محيط ميدان التحرير في دمشق بعد أيام، مخلفاً عدداً من الضحايا، ولم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن الحادث الذي كان من المحتمل أن يكون، وفقاً لمصادر مؤيدة للنظام، رسالة غير مباشرة من الميليشيات تحذّر النظام من استمرار حملته الأمنية، التي توقفت بعد وقوع هذا الحادث.

وعليه تعيش مناطق سيطرة النظام فوضى أمنية عارمة، تتسيدها مجموعات تعيش وفق شريعة الغاب، تتولى تطبيق القانون بيدها بعيداً عن النظام وأجهزته الأمنية والقضائية. على سبيل المثال تقوم مجموعات مسلحة في السويداء بملاحقة سارقي السيارات، ومروّجي المخدرات الصغار، لتأخذ "دور القاضي والجلّاد". بينما لفتت مصادر محلية في المدينة إلى أنه حتى قائد الشرطة ورئيس فرع الأمن الجنائي "لم يسلما من الخطف والتركيع". الأصوات المناهضة لممارسات هذه المجموعات بدت ضعيفة على مدى سنوات، لكنها علت فجأة مؤخراً بعدما تمكنت فصائل محلية في المحافظة، على رأسها "حركة رجال الكرامة"، من القضاء على مجموعة الرعب المعروفة بـ "حركة قوات الفجر"، التي يتزعمها "راجي فلحوط" المدعوم من شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للنظام السوري، بعد اشتباكات مسلحة خلّفت عشرات القتلى والجرحى.

روسيا مهتمة بدعم الدولة السورية من خلال تعزيز جيش النظام، في حين تسعى إيران إلى تشكيل وتمويل مجموعة واسعة من الميليشيات الأجنبية والمحلية الموالية للنظام

في حقيقة الأمر إنّ الديناميكية بين الميليشيات المسلحة والنظام السوري هي في بعض جوانبها صراع محتدم بين النهجين المتباينين لحلفاء النظام: روسيا وإيران. وعلى الرغم من الاتفاق الحالي بين الحليفتين لحماية عرش الأسد، فإن أهدافهما طويلة الأجل تتباين. فروسيا مهتمة بدعم الدولة السورية من خلال تعزيز جيش النظام، في حين تسعى إيران إلى تشكيل وتمويل مجموعة واسعة من الميليشيات الأجنبية والمحلية الموالية للنظام.

ومع تصاعد العنف منتصف العام 2012، أصبحت هذه المجموعات المسلحة أكثر انخراطاً في القتال، وبدأ نموّها على الأرض يشكّل خطراً محتملاً على النظام الحاكم نفسه، الذي باشر العمل على مأسستها، عبثاً، بهدف ضمان التزامها وولائها المستمر. ومن اللاذقية إلى السويداء ترتكب هذه الميليشيات أعمال النهب والقتل والاختطاف عندما تواجه ضغوطاً مالية، أو كجزء من الصراعات الداخلية والحروب من أجل الأراضي التي تجعلها تنقلب على بعضها الآخر. أيضاً تحصل على مدفوعات الحماية من التجار والصناعيين، وتفرض "ضرائب" على الشركات الخاصة والعامة وتتحكم في أسعار السلع.

المصالح مشتركة، دون أدنى شك، إذ تختص كلّ ميليشيا مسلحة بإدارة نوع محدد من الخدمات والمنافع العامة، وتتقاسم العائدات مع أجهزة الأمن التابعة للنظام. على سبيل المثال، تدير ميليشيا لواء الباقر قطاع النقل في حلب، وذلك باستخدام أسطول كبير من الميكروباصات، وتتقاسم إيراداتها الوفيرة مع إدارة شرطة المرور والأمن العسكري. مع هذا لا بدّ أن تسمع بشكل متكرر عن اشتباكات بين مجموعات مسلحة خارجة عن القانون وأخرى من القوات الأمنية. وليس آخرها، بالطبع، الاشتباكات العنيفة التي استخدمت فيها الرشاشات المتوسطة والقذائف الصاروخية بين أفراد من آل الأسد بالقرداحة، بقيادة سليمان الأسد نجل قائد ميليشيا الدفاع الوطني السابق هلال الأسد، إثر محاولة دورية تابعة لفرع الأمن الجنائي اعتقال أخيه الأصغر، سقط على إثرها قتيل وعدد من الجرحى.

ولا يخفى على أحد أنّ سليمان الأسد واحد من أبرز وجوه الميليشيات المحلية، الذي لا يتوانى عن القتل بدمٍ بارد، ما يعيد للأذهان قيامه بقتل العقيد "حسان الشيخ" أمام أولاده، إثر خلاف بسيط على أولوية المرور في أحد شوارع مدينة اللاذقية، قبل عدة سنوات. واتُّهم سليمان، نفسه، بعد أسبوعين من حديث "سانا" عن اعتقاله، بقتل مدير إذاعة "شام إف إم" المحلية، بعدما سرّبت الإذاعة تسجيلاً صوتياً لأخ العقيد المقتول، يؤكد ضلوع سليمان الأسد بمقتله، ما أثار مظاهرات غاضبة في قرية العقيد مطالبة بإعدام الجاني.

بالتساوق مع ما سبق.. يزداد الفلتان الأمني في مناطق سيطرة النظام، في غياب كامل لـ"هيبة الدولة" التي يتحدث عنها الأسد مراراً رغم تعرض قواته لقصف من التحالف وإسرائيل، واستعانته بميليشيات أجنبية للدفاع عنه. وتتحدث مصادر محلية عن جرائم قتل متكررة، معظمها بغرض تصفية الحسابات بين الميليشيات المحلية المتصارعة. حيث نشر متزعم ميليشيا "أسود الجبل"، تسجيلاً مصوراً تضمن ما قال إنه "مناشدة" لبشار الأسد. استهله بالإشارة إلى أنّ بعض الأشخاص نصحوه بالابتعاد عن فضح هذه الشخصيات، نظراً إلى توحشها وقوة نفوذها.

خرجت مسوخ الميليشيات بأشكال مبتكرة من القتل والتكفير، وكانت وفيّة في محاكاتها النظام السوري الاستبدادي وهو ينهب موارد البلاد لتعزيز آلة القمع العملاقة

وقال إنّ من حارب في صفوف جيش النظام باتوا يتعرضون إلى شتّى فنون الظلم والإذلال. وذكر أنّ رئيس النيابة العسكرية في اللاذقية، حوّل المحكمة إلى بازار علني حيث يبرئ المجرم ويجرّم البريء، كما فضح ممارسات رئيس فرع الأمن الجنائي الذي "يعامل الناس كالحيوانات"، على حدّ تعبيره، وقد قتل في فرعه أحد الأبرياء تحت الدهس بالأقدام، ونوّه إلى تعذيب عدد من عناصر القوات الرديفة بعد كسْرِ بطاقات انتسابهم.

بطبيعة الحال خرجت مسوخ الميليشيات بأشكال مبتكرة من القتل والتكفير، وكانت وفيّة في محاكاتها النظام السوري الاستبدادي وهو ينهب موارد البلاد لتعزيز آلة القمع العملاقة، لتغدو الفئات الاجتماعية رهائن هذه الميليشيات والعصابات، واحتياطياً بشرياً لتنظيماتها، ومطارح كسب بلا تعب لقادتها وأعضائها. وعليه الخطوط التي تفصل سلطة الدولة عن سلطة الميليشيات غير واضحة تماماً، وسط عملية عسكرة المجتمع السوري شديدة الاستقطاب.

واليوم نستطيع الجزم باطمئنان أنّ واقع الميليشيات المسلحة ليس سوى تعبير عِيانيّ عن تفكك المجتمع، وتشظّي السلطة المركزية واهتراء المؤسسات، بعد أن أجهز السلاح السامّ على جنين المجتمع المدني، وعصف بإمكانات الاندماج الاجتماعي، وتشكيل الدولة الوطنية، ليغدو النظام والميليشيات أشبه بالتوأمين الملتصقين اللذين لا يمكن فصلهما دون قتل أحدهما. هذا يأخذنا باتجاه التأكيد أنّ مأسسة المجموعات المسلحة، المحلية منها والأجنبية، تعكس استراتيجية فعالة انتهجها النظام السوري في مواجهة الحرب الدائرة في البلاد، فمصيرها مرتبط بمصير النظام، وبالتالي فإن المجتمعات المحلية التي انبثقت منها هذه المجموعات مرتبطة أيضاً بالنظام. لهذا السبب، ورغم تمرد هذه الميليشيات وتجبّرها، من المستبعد أن نشهد على انتفاضةٍ يشنّها قادتها ضدّ الأب الروحي لها، أقلّه في المستقبل المنظور.