رأس المال الاجتماعي والكوارث الطبيعية

2023.03.13 | 05:56 دمشق

مخيم لمنكوبي الزلزال في كهرمان مرعش ـ رويترز
+A
حجم الخط
-A

بعد سلسلة النكبات الكارثية التي تسبَّبت بها قوى الطبيعة في مناطق من سوريا وتركيا بدأت حملات كبيرة تسعى إلى تضميد جراحات المنكوبين؛ كالحملة الضخمة التي جنَّدت لها تركيا وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والتي شاركت فيها شخصيات كثيرة من جميع الأوساط التركية تحت اسم "تركيا قلب واحد" حيث تمَّ جمع أكثر من 6 مليارات من الدولارات خلال ساعات قليلة لمساعدة المتضررين من الزلزال، هذه الأموال التي تمَّ جمعها تنضوي تحت اسم (رأس المال الاجتماعي) وهو مصطلح سوسيولوجي أطلقه الأميركي (ليدا هانيفان) عام 1916 والذي يشتمل على العديد من المفاهيم التي تؤكِّد على التعاطف والتشارك والقدرة على التواصل الاجتماعي بين البشر في أشدِّ الأوقات حرجاً، ومنها الكوارث الطبيعية، كما تنشأ العلاقات بين أفرادها على أساس الثقة التي يبنيها الأفراد فيما بينهم لتحقيق غايات إنسانية نبيلة خالية من أيِّ مصالح فردية خاصة، ولا يقتصر دور رأس المال الاجتماعي على الدعم الذي يمكن تقديمه بعد حصول تلك الكوارث، إنَّما يقوم أيضاً بدور وقائي لتجنُّب وقوع الأضرار ما أمكن، مثل المساعدة على إخلاء البيوت المهددة ونقل العائلات إلى أماكن آمنة وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية والنفسية المناسبة لهم.

ويذهب الفيلسوف الأميركي فوكو ياما إلى أنَّ الثقة التي تنشأ بين هؤلاء الأفراد تكون نتيجة عدة أسس ثقافية كالدين والعادات والقيم الأخلاقية التي تحكم المنطقة الجغرافية التي أُسست فيها، بمعنى أنَّ رأس المال الاجتماعي يرتبط بشكل مباشر بالبنية الذهنية للمجتمع الذي يتأسَّس فيه، ومن هنا تبرز ثنائية (الاقتصادي- الاجتماعي) كعمود فقري لمصطلح رأس المال الاجتماعي الذي لا بدَّ أن يتداخل مع مفاهيم أخرى كالسياسي والبشري وغيرهما في مرحلة التأسيس أو الإجراء.

ومفهوم رأس المال الاجتماعي كغيره من المفاهيم الاجتماعية التي تخضع للتغيرات نتيجة التأثيرات التي تطرأ على المجتمعات، فقد تعرَّض مفهوم رأس المال الاجتماعي إلى التخلخل نتيجة التغيرات التي يتعرَّض لها الأفراد ومن ثمَّ المجتمعات أخلاقياً وتربوياً، فعلى سبيل المثال فإنَّ المجتمعات الأوروبية التي تتعرَّض إلى ظاهرة التفكيك الاجتماعي انطلاقاً من الأسرة ووصولاً إلى المجتمع بأكمله تنخفض فيها الثقة المتبادلة بين أفرادها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، إذ تتقدَّم النزعة الفردية على الجماعية، وتصبح المصلحة الخاصة هي المصلحة المتقدِّمة على بقية المصالح وهذا ما يؤثِّر سلباً على مفهوم رأس المال الاجتماعي، ويمكن أن نقول في هذا المجال إنَّ رأس المال الاجتماعي تتحكَّم به في كثير من الأحيان عدد من العوامل السلبية التي تربط أفراد المنظمات المؤسِّسة لرأس المال الاجتماعي كالواسطة والمحسوبية والفساد، ومن هذا المنطلق فإنَّ دائرة تفشي الفساد أو اضمحلالها ترتبط بشكل وثيق في تكريس مفهوم المصلحة لدى المنظمات التي تدير رأس المال الاجتماعي، هل هي مصالح فردية متبادلة أم هي تُعلي من المصلحة الجماعية وتقدِّمها على كلِّ شيء سواها؟

تتعرَّض بعض المجتمعات المهمَّشة المنكوبة نتيجة الكوارث الطبيعية للإجحاف في وصول رأس المال الاجتماعي إليها، مع العلم أنَّ هذا المال لن يعيد إليهم مَنْ فقدوه وما فقدوه

وتتعرَّض بعض المجتمعات المهمَّشة المنكوبة نتيجة الكوارث الطبيعية للإجحاف في وصول رأس المال الاجتماعي إليها، مع العلم أنَّ هذا المال لن يعيد إليهم مَنْ فقدوه وما فقدوه، إلَّا أنَّه يمكِّنهم من التعافي الجزئي ممَّا حلَّ بهم من كوارث، حيث تتأخَّر المساعدات الإنسانية؛ من أغذية وأدوية وألبسة في الوصول إليهم، أو تتأخَّر عملية إعادة الإعمار لما تمَّ تهديمه نتيجة الكوارث الطبيعية، فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نتحدَّث عمّا يمكن أن تلعبه القرارات السياسية العنصرية في التحكُّم برأس المال الاجتماعي سنذكر إعصار كاترينا الذي ضرب سواحل الولايات المتحدة الأميركية عام 2005م والذي يعدُّ من أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً، ففي مدينة نيو أورليانز الأميركية كانت القرارات السياسية مجحفة بحقِّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء، إذ ساعدت الحكومة أصحاب البشرة البيضاء على العودة إلى ديارهم بعد عملية إعادة الإعمار، بينما لم تقدِّم  التسهيلات للأميركيين أصحاب الأصول الأفريقية، وهذا يدلُّ على شيء مهم وهو أنَّ رأس المال الاجتماعي يتداخل بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة مع المنظومة السياسية في المنطقة، ومدى تطبيق مفهوم الديمقراطية فيها بشكل فعليٍّ وحقيقيٍّ.

وبناء على ما ذكرناه يمكن أن يقسَّم رأس المال الاجتماعي بحسب الأثر إلى قسمين؛ رأس مال اجتماعي سلبي، ورأس مال اجتماعي إيجابي، ويبدو أنَّ التصاق صفة الإيجابي أو السلبي بهذا المفهوم يرتبط بالنتائج اللاحقة لاستخدام هذا المال، فقد يتسبَّب استخدام هذا المال بشكل سلبي إلى توسيع الهوَّة في العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص، إضافة إلى دفع البعض إلى القيام ببعض السلوكيات المتطرفة التي قد تنتج عن سوء توزيع تلك الأموال كالجريمة المنظمة أو غير المنظمة والانتحار وغيرها من السلوكيات الناتجة عن خيبة الأمل تجاه الثقة التي كانت مبنية بين الأفراد والمؤسسات قبل حدوث الكوارث، وهذا الجانب بحدِّ ذاته يُظهر الوجه المظلم لما آلت إليه العلاقات الاجتماعية من تحلُّل وتفكُّك.

ويرتبط رأس المال الاجتماعي الإيجابي بشكل مباشر بالأنظمة الديمقراطية غير الفاسدة، وهنا نعود إلى أساس مهم لتكوُّن رأس المال الاجتماعي وهو الثقة، بمعنى أنَّ الأفراد الذين لا يثقون بالمؤسسات الاجتماعية وبالتالي السياسية لا يمكن أن يبنوا علاقة صحية مع تلك المؤسسات، كما أنَّ مفهوم المصلحة التي تعليه هذه المنظمات هو الذي يقوِّي من الثقة المتبادلة بين الأفراد والمؤسسات التي تدير هذه الأموال التي ينبغي أن تكون فعَّالة بشكل إيجابي ويتمّ توزيعها بشكل متساوٍ على الأفراد من دون الانحياز العنصري بكلّ أشكاله، بحيث يحقِّق الغاية الأصلية له وهي تحقيق التماسك والتضامن بين أفراد المجتمع، وهي صورة مشرقة من صور التعاون والتكافل في المجتمعات الديمقراطية التي تُعلي من قيمة إنسانية أفرادها وتتجاوز مشكلة سوء الإدارة التي قد تحدث فيما يلي الكوارث الطبيعية.