ذاكرة مدينة: حين أطفأ الجدّ الحريق بعمامته

2020.04.25 | 00:00 دمشق

hms-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أكثر من ثلاثين سنة ترك الأب مدينته، حماة، وتوجّه إلى حمص، ليستقرّ فيها، هاربا على الأرجح من سطوة أبيه، جدّ الصغير. لا يعرف الصغير جدّه، فقد مات قبل ولادته بزمن طويل، ولكنه رأى صورته في بيت عمه في حماة، شيخا معمّما مهيبا، بلحية بيضاء، لم تعطه السماحة والدعة كما أعطت الشيخين الحمصيين اللذين كان مغرما بهما – طاهر الرئيس وعبد العزيز عيون السود، اللذين عرفهما الصغير من جامع الحارة، وغابت عن وجهه الابتسامة التي كانت تظلّل دوما وجهيهما. كانت جدة الصغير لأبيه قد توفيت وللأب سنتان فقط، وتزوّج الجدّ من امرأة أخرى، أحسنت تربيته ولكنها كانت ضعيفة أمام الجد، فما بلغ الأب السابعة عشرة حتى ترك أسرته إلى حمص، ليدرس في المدرسة الثانوية فيها، ويؤسس لحياة طويلة ومثيرة.  ولم يسأل الصغير أباه أبدا كيف انتقل بين المدينتين، ولكنه بعد أن يفوت الأوان على السؤال سيفكّر طويلا في كيف انتقل الفتى في عام 1927 بين المدينتين. كانت السيارة قد دخلت البلاد قبل تسع سنوات، ولكن استخدامها كان ولا شك نادرا، فهل ركب الأب واحدة منها، أم أنه سافر في عربة يجرها حصان، أم ركب على ظهر دابة؟

لم يذكر الأب أسرته كثيرا، وتجنّب دائما الحديث عن أبيه، ولكنه حين مدّ الصغير مرّة ساقيه أمامه، ذكّره الأب أنه وأخوته كانوا يجلسون على ركبهم إذا كان الجدّ حاضرا. ومع ذلك فثمة حكاية رواها الأب أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة كانت نشوة بادية تسرح على وجهه.  كان الجدّ أديبا وشاعرا ورجل دين، درس في الأزهر في القاهرة، فتخرج على نخبة من علماء الأزهر حينها وكان مقرّبا من الشاعر حافظ إبراهيم، كما درس الفلك، واعتنى بدراسة الظواهر الطبيعية وحركة الشمس والكواكب، بعد تصدره للتعليم الديني في حماة. وفي يوم خطب بالناس من على منبره أن كسوفاً للشمس سيحدث في يوم معين، طالبا من الحمويين أداء صلاة الكسوف، فتطاول عليه بعض الجهلة واتهموه بالتنجيم والسحر، فنُقل بعدها من قبل السلطة العثمانية ليتسلم منصب الإفتاء في مدينة سلمية، التي كانت وقتها قرية كبيرة، فيها بضعة عائلات من السنّة، وغالبية إسماعيلية، ما عنى فعلا تكسيرا لمكانته العلمية. وعاش الجدّ في سلمية حتى وفاته، وبها دفن.  وفي عصر يوم صيفي قائظ، اندلع حريق في بيادر القمح في سلمية، وفشلت كلّ الجهود في إطفائه، فهرع أهالي البلد إلى الجدّ يطلبون العون. مشى الجدّ صوب الحريق، وخلع عمامته البيضاء وقرأ عليها آيات من القرآن، ثم رمى بها على النار، فخمدت خلال دقائق.

ولم يكن الصغير يصدّق تلك الحكاية، ولكن الأب كان يرويها بصيغة اليقين، ويقول إن "كْباريّة السلمية" من الأحياء يؤكدون تلك الحادثة. وسيروي الصغير الحكاية لاحقا لأصحابه على سبيل الدعابة، وإن كان يودّ في قرارة نفسه لو تكون القصة صحيحة.  وحين سيتسنّى له وقد كبر وغدا قاصّا، أن يزور سلمية أول مرّة سنة 1978، سيسأل أهل المدينة عن مفتٍ أطفأ الحريق بلفّته قبل عقود، ولكن أحدا لم يتذكر الحادثة.

وإذن جاء الأب، فتى في أول العمر إلى مدينة لم يكن يعرف فيها أحدا، ووجد تعزية له في صديق له، أحمد الجندي، الذي جاء من سلمية لدراسة البكالوريا في مدرسة التجهيز بحمص، فاستأجرا بيتا واحدا، ودرسا حتى نالا البكالوريا الأولى سنة 1919 والبكالوريا الثانية سنة 1920. سيسجل الأب بعدها في مدرسة الحقوق بالجامعة السورية، ويعمل معلّما في إحدى المدارس المدينة. وستلفت انتباهه حين يغدو رجلا في التاسعة والعشرين صبية نحيلة صبوحة الوجه بيضاء البشرة، بعينين واسعتين بنيتين، في الثالثة عشرة، كانت ترافق أخاها إلى المدرسة. وتقرّب الأب من الولد، الذي سيصبح لاحقا المؤرّخ والكاتب يوسف شلب الشام. وسيقع المعلّم الذي سيغدو بعد سنوات صحفيا لامعا ورئيسا لتحرير أهم صحيفة يومية في حمص، في هوى الطفلة، وسيطلبها للزواج، لتصبح فيما بعد أمّ الصغير.

*****

إذا سرتَ في شارع التلّة تاركا ورشة أبو كرمو على يمينك، متسلّقا الشارع، فستجد سمّان الحارة ومصدر خيرها وأمنها.  كان أبو بدر يزوّد الحارة تقريبا بكل المتطلبات اليومية، فهو يبيع السكر والشاي والأرز واللبن والجبن والمعلبات والكبريت وحبوب الأسبرو التي كانت – لسبب لا يفهمه الصغير – معلقة كحبل طويل أو كسبحة من الحبات المغلفة بالورق والمتصلة بعضها ببعض، وكان يبيع الدواء بالحبة، وطالما اشترى الصغير لأمه أو أبيه حبتين بفرنك واحد (خمسة قروش). ولكن أبا بدر كان يبيع أيضا المازوت وزيت الكاز، فمن برميلين متجاورين في زاوية دكانه، إلى جوار جوالات الطحين والسكر والأرز والبرغل وتنك السمن العربي، كان يغرف بكيلة من التنك المازوت للتدفئة أو زيت الكاز للبابور (البريوس). يأتي الصبي الصغير ومعه بدون (غالون) فارغ أو زجاجة عرق قديمة، فيملأها أبو بدر بالكاز، ثم يمسح يديه بخرقة قديمة ويستدير ليملأ لصبي آخر أوقية لبن عربي. في زبدية فارغة.

عندما لا يكون أبو بدر يزن اللبن أو يضع السكر في كيس الورق، كان يسمح للصغير بالجلوس إلى جانبه ويحكي له قصصا عن حمص قبل أن يولد الصبي، فيفتنه بحكاياته عن الأسر الحمصية العريقة. وكان الصبي يحب بشكل خاص سماع قصص خيرو الشهلة ونظير نشيواتي اللذين كانا يعتبران رمزين من رموز مناهضة الانتداب الفرنسي. وكان الصغير يطلب من أبو بدر أن يعيد عليه بشكل خاص قصة خيرو عندما اختبأ ببيت أحد الحماصنة واقتحم الفرنسيون البيت بحثا عنه، فخبأه صاحب البيت بين حريمه، وهو عمل يدلّ على الشهامة والتضحية الوطنية.

ولعلّ أبو بدر أقدم رجل في الحارة، فقد ولد في أول سنوات القرن الفائت، ولم يعرفه الصغير إلا عجوزا طاعنا، زاده هرما قصر قامته واللفة الصفراء التي كان يعتمرها، مع نفر من الكسّيبة وأصحاب المحلات الصغيرة، الذين لهم باع ولو قليل في الدين. وظلّ أبو بدر يخدم أهل الحارة حتى وفاته، بهمة وإخلاص، تشوبهما عصبية زائدة أحيانا. وحين كان أحد الأولاد يزعجه، كان يقول له بعصبية: "روح من هون أحسن ما إشلع لك أدانيك"، ثم يستغفر الله ويضيف "والله أبوك آدمي، لمين طالع انت؟"  ولا يحب أبو بدر أن يناقشه أحد في أسعاره، وهو يبيع بضاعته بسعر معقول، فإذا شارعته امرأة ليخفض لها في سعر السمنة، نظر إلى الأرض مغضبا لكي لا يتطلع في وجهها، وقال لها دون أن يضع عينيه في عينيه: "يا أختي الله يستر عليك، إذا ما عجبك، ليكِ السوق جنبك."

كانت أسرة الصغير كجميع أهل الحارة تقريبا تشتري من دكانة أبو بدر على الحساب. وكان لكل عائلة دفتر صغير تحتفظ بها، بينما يحتفظ أبو بدر في دكانته بسجل المبيعات بالدين، ولكلّ عائلة صفحة. وكان الصغير حين يشتري أوقية لبن أو كيلو أرز، يحمل معه دفتره الصغير الذي لا يزيد كثيرا على حجم راحة يده الصغيرة، يعطيه لأبو بدر، فيسجل الأخير ما اشترى الصغير في دفتره، ثم يعيد التسجيل في سجله، ويجمع الأرقام، ويتأكد من مطابقة سجله مع الدفتر الصغير.  وعلى عكس دفاتر البقالين الآخرين، كان سجلّ أبو بدر مرتبا ومكتوبا بخطّ الرقعة الجميل، وإن ظهرت بعد البقع على بعض الصفحات أحيانا من يده التي كانت تصب الزيت أو اللبن في الوعاء.  وكان الصغير يستغل ثقة الأهل به أحيانا فيشتري لنفسه قطعة حلوى على الحساب، ويسجلها على الدفتر، دون أن ينتبه إلا لاحقا أن أمه كانت  تعرف ذلك وتسكت.

وفي ربيع إحدى سنوات منتصف الستينيات، جادت السماء بمطر لذيذ غزير. كان الصغير يجلس بجوار أبو بدر داخل الدكان يستدفئان بحطب يحترق في تنكة فارغة، التفت إليه أبو بدر مبتسما وقال: "سنة خير إن شاء الله." ثم أردف: "السنة في آذارها إن كونَنَت." مضيت إلى البيت أفكر في معنى عبارة العجوز، محاولا استيعابها. ولا أدري إن فعلت.

كان ابن أبي بدر الأصغر طه يساعده أحيانا، ثمّ بدأ يحمل العبء الأكبر من العمل. كان طه في نفس صف الصغير وإن كان يكبره بسنوات، وفي نهاية الستينيات كان قد غدا شابا قويا ومتعلما، فقرر أن يحدّث الدكان، فأراد أن يشتري ثلاجة لحفظ اللبن والجبن وماكينة لصنع البوشار. استشاط أبو بدر غضبا، إذ رأى في ذلك مضيعة للمال.  طه، الذي بات يمضي كل وقته بعد المدرسة في الدكان، أصر على رأيه. وزينت الثلاجة صدر الدكان، وأضيفت واجهة زجاجية برّاقة إلى مدخل المحل، ثم جثمت آلة صنع البوشار قرابة مدخل الدكان.  

وعرض الصغير، الذي راقب طه وأبو بدر أياما وهم يقلون البوشار، أن يساعد في العمل، وتطوع في كثير من الأحيان أن يتولّى صنع البوشار بنفسه وبيعه للمشترين، وكان أبو بدر إذاك، مشغولا ببيع أشياء أخرى لزبائن آخرين، ولكنّ عينيه ما كانت تفارقان الصبي، حين كان يستلم النقود من المشترين ليتأكد من أنه لا يضعها في جيبه بدل الصندوق الصغير داخل عربة البوشار.  وظلّ أبو بدر فترة طويلة يتذمّر من هذا الهمّ الجديد الذي جاء به ابنه طه، ولكنه في مسارّة خاصة مع الصبي بعد أشهر اعترف أن ابنه "فِتِح وأمامه مستقبل."