دوافع استدارة السياسة الخارجية التركية بعد انتخابات 2023

2024.02.12 | 00:46 دمشق

دوافع استدارة السياسة الخارجية التركية بعد انتخابات 2023
+A
حجم الخط
-A

شهدت السياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في حزيران 2023 استدارة على مستوى سلوك الدولة تجاه سياستها وسلوكها الخارجي المرتبط بعدد من الملفات السياسية والأمنية مع الدول الإقليمية والدولية، ومن الممكن ملاحظة الخطوات الأولى للاستدارة بتطبيع تركيا علاقاتها مع السعودية والإمارات في عام 2022، إلا أن ذلك لا يمكن البناء عليه كمؤشر للتحول بقدر ما يمكن البناء على زيارة الرئيس أردوغان إلى اليونان في 7 ديسمبر 2023، وذلك لأن اليونان تعد دولة صراع تاريخي للأتراك. وأيضا موافقة كل من البرلمان التركي والرئيس أردوغان على انضمام السويد لحلف الناتو بعد القيام بالعديد من المفاوضات بين أنقرة والعواصم الأوروبية وواشنطن، والأهم من ذلك هو قرار الخارجية التركية بعودة فتح القنصلية التركية في بنغازي التي تسيطر عليها قوات خليفة حفتر، والأمر الملفت أيضا أنه من المفترض قيام الرئيس أردوغان بزيارة مصر بعد توتر سياسي استمر لأكثر من عشرة سنوات. تشير كل هذه المؤشرات إلى تطبيق تركيا منهجا يقوم على سلوك وسياسات أقرب للاستقرار وتجميد الخلافات مع الدول الإقليمية والدولية، لاسيما وأنه قد سبق الاستدارة نشاط مفرط للسياسة الخارجية التركية، فبين عامي 2015 - 2021 شاركت أنقرة في العديد من العمليات العسكرية في شمالي سوريا والعراق وليبيا، ودعمت القوات الآذرية ضد القوات الأرمنية، وأسست القواعد العسكرية في بعض الدول، حتى أنها دخلت في خلافات عميقة مع حلفائها في الناتو دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. انطلاقا من هذه المقدمة نحاول في سطور هذه المقالة أن نسلط الضوء على أبرز الدوافع التي ساهمت في استدارة السياسة الخارجية التركية بعد انتخابات عام 2023. وتم إرجاعها إلى ثلاثة عوامل نناقشها على الشكل التالي:

أولاً: الرغبة في إصلاح اقتصاد البلاد

منذ عشر سنوات يعاني الاقتصاد التركي من تراجع في الأداء على كافة المؤشرات، وارتبطت أسباب تراجعه بشكل مباشر بمجموعة من العوامل الرئيسية العريضة والتي تتمثل بعدم الاستقرار الداخلي والإقليمي، وتوتر علاقات أنقرة مع العديد من عواصم العالم مما أدى إلى تراجع مستويات الاستثمار المباشر، إلى جانب تطبيق الحكومة لسياسات نقدية وصفها العديد من المحللين الاقتصاديين بأنها خاطئة، فضلاً عن مرور الدولة بالعديد من الأزمات الاقتصادية والسياسية. وقد نتج عن كل هذه العوامل ارتفاعا في نسب التضخم لمستويات قياسية، فوصلت الذروة في شهر أكتوبر 2022 عند حد 85.5٪، فيما سجلت 65٪ على أساس سنوي في ديسمبر عام 2023. وتشهد الليرة التركية انخفاضا مستمراً، وبحسب توقعات البنك المركزي التركي من المحتمل أن تصل قيمتها ل 40 ليرة مقابل الدولار مع نهاية عام 2024. إذاً الحكومة التركية أمام تحد صعب لمواجهة التضخم ولإيجاد حلول تنهي الأزمة الاقتصادية الحالية. ويتطلب الإصلاح الاقتصادي توفير مستوى عالٍ ومتقدم من الاستقرار والتهدئة في العلاقات الخارجية، لارتباطه الشديد بتدفق الاستثمارات وفتح خطوط التصدير. لأن تشجيع المستثمرين على الاستثمار يرتبط بوجود بيئة سياسية وأمنية واقتصادية مستقرة، كما أن فتح خطوط تصدير جديدة يرتبط بشكل وثيق بمستوى علاقات الدولة الخارجية مع الدول المستهدفة، فعلى سبيل المثال في فترة توتر علاقات تركيا مع الإمارات والسعودية تراجعت مستويات التبادل التجاري والاستثمار معهم لمستويات منخفضة جداً، إلا أنها عادة ترتفع بعـد تطبيع العلاقات بين الأطراف. وهذا المثال ينعكس تقريبا على كافة الدول التي دخلت في توترات مع تركيا. فإلى جانب الإصلاح الاقتصادي تحتاج الدولة التركية لضخ أموال ليست بالقليلة في أسواقها لتغطية إعادة إعمار المناطق التي دمرها الزلزال الذي وقع في 6 شباط 2022 في جنوب البلاد. إذاً أول وأهم دافع لاستدارة السياسة الخارجية التركية هي رغبة الدولة في جذب الاستثمارات الدولية وتوسيع حجم صادرات الدولة بما يدعم الاقتصاد ويحقق الاستقرار وينهي مرحلة انخفاض مؤشرات اقتصاد البلاد.

ثانياً: بروز القوميين

شهدت تركيا خلال السنوات الأخيرة ارتفاعاً في حدة الخطاب القومي وبروز القوميين والذي يعود بشكل أساسي إلى ثلاثة أسباب: أولاً، الترويج من قبل أحزاب المعارضة بأن المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الشعب التركي ناتجة عن سياسات الهجرة التي طبقتها الحكومة. ثانياً، بروز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وتحالفه مع حزب الشعب الجمهوري المعارض والذي يرى فيه العديد من الأتراك تهديدا للأمن القومي الداخلي. ثالثاً، ارتفاع مستوى التهديدات الخارجية التي تمس الأمن القومي التركي. كل هذه الأسباب مجتمعة إضافة إلى عوامل أخرى دفعت المواطنين لتبني الخطاب القومي الذي يتبنى فكرة الدولة القومية وحمايتها من التحديات والتهديدات الخارجية والداخلية. وعلى الرغم من إيجابية بروز الخطاب القومي لحماية أمن الدولة إلا أن النزوح المجتمعي نحو اليمين القومي قد يهدد مصالح البلاد، ويبعدهم عن التعامل مع كل ما هو قادم من الخارج، وهو ما يهدد الأمن والسلام المجتمعي، لذا من مصلحة الدولة التركية تبني سياسات خارجية تقوم على العودة لصفر مشاكل في السياسة الخارجية مما يقلل التوتر الخارجي والداخلي، ويخفض من جنوح المواطنين نحو اليمين القومي. ومن المهم ذكره أن بروز القوميين سيكون له أثر على نتائج الانتخابات المستقبلية، ويرجح كفتهم أمام الأحزاب الأخرى حتى أمام حزب العدالة، لأن انتهاء التحالف بين الحزبين في المستقبل وارد جداً.

ثالثاً: تجميد الخلافات الخارجية

إن نشاط السياسة الخارجية التركية خلال الفترات السابقة هو جزء من حراك دولي، وصراع على المصالح وتأسيس النفوذ في خضم الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بين الدول الإقليمية والدولية. وتركيا كطرف فاعل إقليمي لعبت دوراً بارزاً في العديد من الملفات، فدخلت في صراع دولي أقرب ما يكون مباشر في ليبيا ضد مصر والإمارات وفرنسا، وقادت عمليات مباشرة في شرق البحر المتوسط لحماية حقوقها المائية ضد إسرائيل واليونان ومن ورائهم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، إلا أن هذه الملفات جمدت في الفترة الأخيرة ولم تعد أولوية بالنسبة الفواعل. فيما بقي الملف السوري والعراقي يشكلان حالة توتر واهتمام دائم من الساسة الأتراك، لأنه مرتبط بالأمن القومي للبلاد.

ومع تلاشي التوترات بين تركيا والفواعل الدولية بدا واضحا استدارة السياسة التركية الخارجية في تعاملها مع الحرب الإسرائيلية على غزة حيث أنها التزمت سياسة أقرب ما تكون للحياد، وهو سلوك واتجاه بعيدا عن سلوك أنقرة في السنوات الأخيرة. وتشير هذه الأحداث والسياسات الخارجية الحذرة التي تنتهجها تركيا إلى تبنيها مسار التهدئة أو الهدن المؤقتة مع الأطراف الدولية، بما يحقق لها الاستقرار ويسمح لها في إعادة ضبط وحل مشاكلها الداخلية لاسيما على الصعيد الاقتصادي والأمني الداخلي والخارجي، ويوحي بعودة تركيا لتطبيق استراتيجية تصفير المشاكل مع الأطراف الدولية، واستخدام دبلوماسية القوة الناعمة في سلوك الدولة الخارجي، وهذا لا يعني ترك القوة الصلبة إنما التقليل من استخدامها في الفترة الحالية والقادمة. كما نستنتج أن دوافع استدارة السياسة الخارجية التركية هي محصلة لعوامل ومتطلبات داخلية نابعة من الضغط الاقتصادي وضرورة إصلاحه، ومن انزياح شعبي نحو اليمين القومي، في حين لعبت الظروف الدولية وحساباتها المتغيرة دوراً مهماً انعكس على سلوك السياسة الخارجية التركية.