من جديد، تخرج إسرائيل من أدراجها القديمة خطة جديدة للتعامل مع الوضع الأمني المتفجر في قطاع غزة، بعد أن فشلت في مخططاتها العسكرية في كسر إرادة الفلسطينيين هناك، وجاءت هذه المرة تحت عنوان "الاقتصاد مقابل الهدوء"..
تقوم هذه الخطة التي أعلنها وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد على إعادة إعمار قطاع غزة، وإنعاش وضعه الاقتصادي، وانفتاحه على الأسواق الخارجية، والمساهمة في حل مشكلة البطالة، وغيرها من البنود التي كشف عنها، مقابل شرط واحد أساسي يتمثل في توفر الهدوء الأمني في القطاع، وتحديدا وقف إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل.
كثير من النقاط التي يمكن التعقيب بشأنها حول هذه الخطة الإسرائيلية، الجديدة- القديمة، لعل أهمها التوقيت السياسي لإعلانها، فقد بات واضحا أن الوضع الأمني في غزة يتجه إلى مزيد من الانفجار في ظل رفض الاحتلال تخفيف الحصار المفروض عليها، وامتناعه عن الالتزام بالتعهدات المتفق عليها خلال انتهاء حرب غزة الأخيرة، والأكثر من ذلك التشدد في فرض مزيد من القيود الاقتصادية والمعيشية، إلى الدرجة التي دفعت كثيرا من الأوساط الأممية للتحذير من انفجار وشيك في القطاع، مما قد يحمل تخمينا مفاده أن إسرائيل أرادت استباق هذا الانفجار للحيلولة دون تحققه، بمنح الفلسطينيين هذه "الجزرة"، كي ينشغلوا فيها بعض الوقت.
دلالة ثانية تحملها الخطة الإسرائيلية ترتبط بالرؤية الأميركية في إيجاد حلول للمعضلة التي باتت تمثلها غزة أمام السياسة الأميركية في المنطقة، مع العلم أن محافل دبلوماسية نافذة في واشنطن التقت مؤخرا كبار المسؤولين في تل أبيب ورام الله والقاهرة والدوحة، في محاولة للعثور على "توليفة" تجمع بين لحلحة الوضع الاقتصادي في غزة، وفي الوقت ذاته الحيلولة دون اندلاع جولة قتال جديدة فيها، مما قد يربك التوجهات الأميركية في المنطقة.
دلالة ثالثة تأتي في ثنايا الخطة الإسرائيلية أنها تسعى من جديد لإحياء دور السلطة الفلسطينية في غزة، بعد غيابها عنه عقب أحداث الانقسام الفلسطيني في 2007، في حين لعبت الحكومة الإسرائيلية السابقة بزعامة بنيامين نتنياهو، والإدارة الأميركية السابقة بقيادة دونالد ترامب، أدوارا واضحة لا تخطئها العين بالعمل على إبعاد السلطة عن غزة، لاعتبارات شتى لعل أهمها الإظهار للمجتمع الدولي أنه لا يوجد شريك فلسطيني في أي عملية سياسية، بدليل أن السلطة الفلسطينية لا تمثل الفلسطينيين في غزة، وهم يزيدون عن مليوني نسمة.
لكن إدارة الرئيس جو بايدن أتت ولديها توجه برفع مستوى تمثيل وحضور السلطة الفلسطينية، فيما توافقت الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نفتالي بينيت ورفيقيه يائير لابيد وزير الخارجية، وبيني غانتس وزير الحرب، على أن السلطة الفلسطينية يمكن أن تكون شريكا في أي عملية سياسية قادمة، رغم أن هذا موقف الأخيرين، وليس بالضرورة يمثل موقف رئيسهم بينيت، وهذه مفارقة لافتة.
هذه الدلالات المهمة للخطة الإسرائيلية الجديدة لا تغفل لحظة واحدة موقف القوة الأساسية في غزة، وهي حماس التي تسيطر عليها، وتدير شؤونها، التي لم تتردد في رفض الخطة من الأساس، على اعتبار أن حصار غزة قرار سياسي، وبالتالي يجب أن يرفع بمعزل عن أي اشتراطات، إسرائيلية كانت أو أميركية أو إقليمية.
لا تعتبر الخطة الإسرائيلية الحالية "الاقتصاد مقابل الهدوء"، الأولى من نوعها، فقد شهدت السنوات الخمس عشر الماضية، منذ فرض الحصار على غزة في 2006، عقب فوز حماس في الانتخابات التشريعية، صدور العديد من المبادرات والخطط
مع العلم أن حماس ربما تخشى، في حال وجدت الخطة الإسرائيلية طريقها نحو التحقق، أن تكون مقدمة للالتفاف عليها، مع أن هذا أمر صعب، وليس في متناول مختلف الأطراف، الأمر الذي قد يفسح المجال أمام أصدقاء الحركة في المنطقة والعالم، للبحث مع الإسرائيليين في التفاصيل غير المعلنة للخطة، وإمكانية العثور على قواسم مشتركة، بعيدا عن حالة الصدام الحدي والصفري بين حماس وإسرائيل، وهي حالة يمكن العثور عليها في مجال السياسة والدبلوماسية.
لا تعتبر الخطة الإسرائيلية الحالية "الاقتصاد مقابل الهدوء"، الأولى من نوعها، فقد شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية، منذ فرض الحصار على غزة في 2006، عقب فوز حماس في الانتخابات التشريعية، صدور العديد من المبادرات والخطط والأفكار من مختلف الأطراف، وتهدف جميعها إلى تخفيف ظروف الحصار المطبق على القطاع، لكنها جميعا ربطت بنزع سلاح حماس، في حين تراجعت الخطة الإسرائيلية خطوة إلى الوراء بالحديث عن "الهدوء" وليس "نزع السلاح" بالضرورة.
تعلم إسرائيل جيدا أن مسألة نزع سلاح المقاومة الفلسطينية في غزة مطلب بعيد المنال، وليس واردا تحققه، فالأمر لا بد أن يسبقه عدوان عسكري واسع على غزة، شبيه بما حصل في عملية السور الواقي في الضفة الغربية 2002، وقبلها في حرب لبنان الأولى 1982، لكن إمكانية استنساخ مثل هذه العمليات العسكرية في غزة، يعني عملياً وقوع خسائر بشرية إسرائيلية هائلة، قد لا يقوى المجتمع الإسرائيلي على تحملها، مما يجعل دوائر صنع القرار الإسرائيلي تنأى بنفسها عن هذه المقترحات، التي قد تتحقق، لا أحد يعلم، وبالتالي تجعلها تعيد تموضعها نحو مثل هذه الأفكار والخطط ذات الطابع الاقتصادي والمعيشي.
لا يبدو أن مثل هذه الخطة الإسرائيلية قد تجد طريقها للتنفيذ بمعزل عن التوافق المحلي الفلسطيني، والإقليمي العربي، والدولي الأممي، مما قد يحمل ضمنياً حدوث حراك سياسي واقتصادي متوقع في الأيام القادمة لبحث تفاصيل هذه الخطة، ويطرح مزيدا من الأسئلة أمام حماس في كيفية التعامل معها، في حال تداولت العواصم القريبة منها بعض بنودها مع الحركة، وهنا قد تنتقل الحركة من طور الرفض الكامل لها، إلى محاولة إخضاعها للنقاش داخل أروقتها، والأخذ والرد مع الوسطاء المحتملين.
أما السلطة الفلسطينية، التي تفتقر لنفوذ سياسي حقيقي غزة، فإنها ستكون مرحبة بأي دور لها هناك، حتى لو رفضت الخطة الإسرائيلية علانية، لكنها تعلم أكثر من غيرها أن مثل هذه الخطة، في حال إقرارها، ستحصل على تمويل عربي أوروبي أممي، وفي هذه الحالة قد تستفيد موازنة السلطة الفلسطينية من بعض الموارد، وهي التي تعلن صباح مساء أنها تعاني أزمة مالية طاحنة.
الخلاصة أن الخطة الإسرائيلية، ويمكن اعتبارها بالون اختبار أمام حماس، لكنها تؤكد من جديد أن غزة ما زالت تمثل لإسرائيل جرحا نازفا في خاصرتها، لاسيما مع استمرار "تقاطر" إطلاق الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة، وتهديد المقاومة الفلسطينية بإمكانية تدحرج الأمور إلى مواجهة عسكرية لا يرغب بها أحد، الأمر الذي يجعل دوائر صنع القرار الإسرائيلي في حالة انشغال دائم بمآلات الوضع في غزة، ومحاولة تسكين هذا الجرح، فضلا عن إيجاد حل نهائي له، والتفرغ لتهديدات وتحديات أكثر خطورة تشهدها المنطقة.