دروس سياسية وأمنية مستقاة من "تهوّر" سائق!

2023.08.18 | 07:11 دمشق

دروس سياسية وأمنية مستقاة من "تهوّر" سائق!
+A
حجم الخط
-A

انقلاب شاحنة على كوعٍ في طريقٍ جبلي بمنطقة الكحالة المسيحية، أوقع قتيلين بالرصاص الأسبوع الفائت، وكاد أن يفجّر حرباً أهلية بين اللبنانيين.. وهذا يشي بحجم الاحتقان السائد بين أبناء البلد الواحد بمعزل عن كل الأسباب والدوافع.

هذه الشاحنة وحمولتها لم تكونا عاديتين، فهي لـ "حزب الله" وكانت محمّلة بأنواع من الأسلحة، ما زالت حتى اللحظة مجهولة المصدر وكذلك النوع. إلاّ أنّها، أي الشاحنة والحمولة، كانتا معلومة المالك.

الحزب يعتبر أنّ نقل الأسلحة بين المدنيين العُزّل في الشوارع الآمنة "حقّ مشروع" يكتسبه من خلال البيانات الوزارية التي تقر وتعترف بحق "المقاومة" في الوجود بموجب المعادلة التي ما انفك يفرضها "حزب الله"، بالقوة، في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة وهي: حق "الشعب والجيش والمقاومة" في مواجهة العدو الإسرائيلي.

أمّا الفريق الآخر، أي الفريق الذي يعارض "حزب الله" بمختلف تلويناته ومشاربه، فيعتبر أنّ سلوك الحزب في الداخل اللبناني (وحتى في خارجه) ما عاد يمكن السكوت عنها. لأنّ الحزب يستبيح جميع المناطق ويسخرها في خدمة آلته العسكرية.

فما خلفيات هذه الحادثة؟ وإلى أين كانت متوجهة تلك الأسلحة؟ ولمن؟ وما دور الحكومة والبرلمان في هذا الصدد؟ بل ما دور الجيش اللبناني الذي بدا مربكاً في حينه؟.. وأخيراً ما الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها من تلك الحادثة وما تداعياتها؟

الحاضنة المسيحية التي كان يؤمنها "التيار الوطني الحر" من خلال تحالفه مع "حزب الله" منذ اتفاق مار مخايل في العام 2006 إلى اليوم، آخذ في التراجع ويصعب العودة إليها مهما ارتقت درجات التفاهمات والحوارات بين الطرفين مستقبلاً

الاجابة عن كل هذه الأسئلة، تُختص بالنقاط الواردة أدناه كالتالي:

1. أثبتت أحداث منطقة الكحالة منذ لحظة انقلاب الشاحنة مساء الأربعاء الفائت، ثم بعد معرفة أهالي الكحالة هوية مالكها الحقيقي، وما استتبع ذلك من صدام بين عناصر الحزب وتراشق بالحجارة، ثم تبادل إطلاق نار وسقوط قتيلين، أنّ الحاضنة المسيحية التي كان يؤمنها "التيار الوطني الحر" من خلال تحالفه مع "حزب الله" منذ اتفاق مار مخايل في العام 2006 إلى اليوم، آخذ في التراجع ويصعب العودة إليه مهما ارتقت درجات التفاهمات والحوارات بين الطرفين مستقبلاً. كما أنّ هذا التراجع لا يتوقف على المسيحيين اليوم فحسب، بل تعداه في الفترات السابقة إلى بقية الطوائف، وخصوصاً منذ الانتخابات النيابية الفائتة. بينما الخلاف كان دوماً محوره السلاح أو استباحة مناطق الطوائف الأخرى بواسطة هذا السلاح، ومنها:

 - الخلاف مع أهالي منطقة شويا الجنوبية (دروز) على خلفية مرور راجمة صواريخ في قريتهم.

- النزاع المسلح مع عرب منطقة خلدة (سُنّة) على خلفية خلاف شخصي تطور لاحقاً أيضاً إلى إطلاق نار وسقوط قتلى.

- تبادل إطلاق نار أوقع ضحايا بما يشبه "حرب الشوارع" مع أهالي منطقة عين الرمانة (موارنة) بعد تظاهرة استفزازية، حاولت دخول منطقة عين الرمان بالسلاح.

هذا إن دلّ على شيء، فيدل على أنّ "حزب الله" سيعجز مستقبلاً عن التحرّك ضمن البيئات التي لا تشبهه طائفياً، وهو بحاجة إلى مراجعة عميقة لكل هذه الأحداث.

2. في أحداث الكحالة الأسبوع الفائت، لا يمكن إغفال هوية مطلق النار الأول ابن الكحالة فادي بجاني، الذي سقط خلال الاشتباكات. بجاني من أنصار الوزير القواتي الأسبق إيلي حبيقة الذي لاحقاً انقلب على القوات والتحق بمحور النظام السوري. ويقال أيضاً إن بجاني لاحقاً بات من مناصري "التيار الوطني الحر"، أي يُفترض أنّه من حلفاء الحزب، كما أنّ ابنته موظفة في تلفزيون OTV الذي يملكه التيار نفسه، وهذا يدل عن قرب بجاني من "التيار"، بينما هذه المعطيات كلّها تترك أثاراً عميقة ومعاني، تفيد بأنّ الحزب لم يعد موجوداً في الوجدان المسيحي حتى ضمن حلفائه.

3. الأسلوب الذي تعاملت به قيادة الجيش اللبناني مع الحادث، أظهر أنّ الجيش عاجز عن الوقوف بوجه "حزب الله" بخلاف ما تراهن الجهات الخارجية والغربية تحديداً، التي تحض وتدفع إلى انتخاب قائده جوزيف عون رئيساً للبلاد باعتبار أنّه قادر على التصدي لجموح "حزب الله" على الساحة اللبنانية.. وبذلك تثبت التجربة بأن هذه الفرضيات قد لا تبدو صحيحة.

فثمة معلومات ليست مؤكدة، لكنّها تتواتر بين الصحفيين اللبنانيين بشكل واسع، تفيد بأنّ مسؤول التنسيق والارتباط في الحزب وفيق صفا، اتصل بعيد الحادث بقائد الجيش وطلب منه سحب الشاحنة وحمولتها، وإلاّ فإنّ الحزب سيضطر إلى التدخل من أجل استعادتها.

هذا الكلام إن صحّ، يعني أنّ الحزب كان مستاءً من طريقة تعاطي الجيش مع الحادث، وهدد بالتدخل حتى لو كان ذلك على حساب التسبّب بـ"حمام دم" يؤدي إلى صدام مباشر بين عناصر "حزب الله" وأهالي الكحالة وبقية المناطق، التي هبت للوقوف إلى جانبهم. وعليه، فإنّ استجابة قيادة الجيش لمطلب الحزب يُفسّر على أنّه إذعان، خصوصاً أن الحكومة اللبنانية التزمت "صمت القبور" من رئيسها إلى بقية الوزراء فيها لأيام بعد الحادث، ورُميت الأزمة في حضن الجيش.

4. تردد الجيش اللبناني وترويه في تطويق الإشكال، أدى إلى تصويره على أنّه "موظف" لدى الحزب. لكن التمحيص الهادئ في تفاصيل المشهد، يُستنتج منه أنّ المشكلة تكمن في السياسة.  فالجيش هو أداة بيد السلطة السياسية، وهي التي ترسم له خطوط تحركاته العريضة.

وبما أنّ الحكومات المتعاقبة كانت وما زالت تعترف بـ"ثلاثية: الشعب والجيش والمقاومة"، فهذا ينقل الأزمة إلى حضن البرلمان اللبناني والأحزاب السياسية التي كانت تذعن إلى رغبات الحزب داخل الحكومة من أجل مشاركتها في الحكم، ثم لاحقاً تمنح هذه الحكومات الثقة، ثم تعارض ذلك كلّه في الشارع، من باب الشعبوية وتسجيل المواقف. وهذا قد يبرر تردّد قيادة الجيش التي تُركت وحيدة وبلا غطاء سياسي.

5. اهتمام الحزب بحمولة الشاحنة كان بالغاً، وهذا يدل على أنّ الحمولة ذات قيمة عسكرية كبيرة، أو أن طبيعتها تكشف أمراً ما. فلو كانت مجرّد ذخيرة عادية، لما تطورت الأمور إلى حدّ ضغط مسؤول الأمن والارتباط على قائد الجيش من أجل استعادتها أو أقله عدم الكشف عن طبيعتها للناس التي تجمهرت حولها.. وهذا ما حصل بالفعل، إذ بقيت طبيعة الحمولة مخفية ولم يكشف الجيش عنها حتى اليوم، وتُرك الشأن للتكهنات.

سلاح "حزب الله" لم يعد موجهاً ضد إسرائيل فحسب، بل له أجندات إقليمية خاصة، حتى في الداخل اللبناني

ففي حين نقل إعلام عبري (قناة "كان" والقناة 12 الإسرائيلية) عن مسؤولين أمنيين في منطقة الشرق الأوسط (لم تسمّهم) أنّ الحمولة كانت تحتوي على سلاح مضاد للطائرات، كشفت صحيفة "نداء الوطن" اللبنانية نقلاً مع مسؤولين فلسطينيين أنّها عبارة عن ذخائر كانت متوجهة إلى مخيّم عين الحلوة الذي يشهد اشتباكات بين حركة "فتح" وجماعات إسلامية متطرفة.. وهذا يؤكد المؤكد: أنّ سلاح "حزب الله" لم يعد موجهاً ضد إسرائيل فحسب، بل له أجندات إقليمية خاصة، حتى في الداخل اللبناني.

6. وجهة الحمولة بدورها كانت لافتة. فالمنطق السائد منذ سنوات، أي منذ بداية الحرب السورية، يقول ويفترض أن وجهة الأسلحة الخاصة بالحزب كانت دوماً من الأراضي اللبنانية باتجاه الأراضي السورية حيث يشارك الحزب بالقتال إلى جانب النظام السوري. لكن هذه المرة كانت الأسلحة مقبلة صوب العاصمة بيروت وانقلبت على بعد 10 كيلومترات منها، كما لم يُعرف مصدرها إن كانت مقبلة من البقاع أو من سوريا نفسها. وهذا يفتح النقاش أمام 3 احتمالات:

أولاً، أن تكون أسلحة دقيقة والحزب ينقلها بالتقسيط وبكميات صغيرة من سوريا إلى مخازنه السرية في الضاحية الجنوبية.

ثانياً، أن تكون الحمولة متوجّهة إلى مخيم عين الحلوة من أجل تسليح الميليشيات المتطرفة المحسوبة على إيران، وهذا بالتالي يدحض كل ما قيل عن أنّ الحزب كان يحاول منذ أشهر تجنّب وقع المعركة التي كان يراها منذ أشهر واقعة ويعمل على تعطيلها.

ثالثاً، أن تكون الحمولة عبارة عن مواد متفجرات ولهذا يحاول الحزب إخفاء طبيعتها.

7. أضف إلى ذلك فإنّ لجوء "حزب الله" إلى وسائل نقل "مدنية" (شاحنة "بيك آب" صغيرة نسبياً) ذات لوحة حمراء عمومية من أجل نقل أسلحة من هذا النوع وبهذه الكميات، يعني أنّ الحزب يتحاشى لفت الأنظار ويعرف أنّ تحركاته كلّها مراقبة خارجياً.

في المحصلة، يمكن القول إنّ هذا الجدل القائم في البلاد مردّه إلى "غلطة سائق" أو تهوّره في القيادة على طريق جبلية. فلو كان أشد حرصاً في القيادة فمن المؤكد أنه ما حصل أي شيء.. ولكانت الشاحنة قد وصلت إلى وُجهتها، وربّما هناك عشرات الشاحنات المشابهة التي تنقل الأسلحة وتتنقل بين الآمنين من دون علمهم.. من يدري؟