icon
التغطية الحية

دراما "الوجع السوري" وتحديات عصر البيانات الرقمية

2023.05.19 | 13:41 دمشق

منصات
+A
حجم الخط
-A

تُعتبر "منصات الدراما التقنية" من أهم قنوات توزيع الأعمال الدرامية في عصر ثورة الاتصالات والذكاء الصناعي، فهذه المنصات كسرت هيمنة النظام الرسمي على الإنتاج الدرامي، وشكّلت خطوة في اتجاه دراما خارجة عن سطوة الرقيب المحلي، وخارجة عن أيديولوجيا الدول بشكل عام والأنظمة الدكتاتورية بشكل خاص. بالمقابل، فإن لبعض هذه المنصات أيديولوجيا تريد تمريرها لوعي المواطن العربي؛ إنها غزو لمجتمعاتنا من نوع خاص.

والتساؤل المطروح الآن: هل تشكل منصات "الدراما الرقمية" تهديدا وجوديا لـ "دراما التلفزيون" التقليدية (الرسمية)؟ وما هي الفرص والتحديات ونقاط القوة والضعف بالنسبة لشركات الإنتاج الناشئة من رحم المجتمعات والتي تحاول كسر تابوهات أنظمة الغطرسة والاستبداد في ميدان الدراما الرقمية؟

الاستثمار الأمثل لعصر البيانات

كانت بداية منصة نتفليكس كشركة ترفيهية تخصصت بتوصيل الأقراص المدمجة عبر البريد عام 1979، ثم توسعت لتقديم خدماتها عبر الإنترنت 2007، وفي عام 2013 بدأت بإنتاج الأفلام والمسلسلات وتوزيعها عبر الإنترنت.

وبحسب ما ورد في كتاب"البيانات الضخمة ومستقبل صناعة الترفيه" من تأليف "مايكل دي سميث"‏ و"راهول تيلانج"‏، فإن انطلاقة نتفليكس العملية بدأت مع مسلسل "بيت البطاقات/ بيت العنكبوت" وذلك في شباط 2011 عندما كانت شركة (MRC)، تحاول تسويق المسلسل الذي يناقش ثيِمَة سياسية لشركات الإنتاج ومحطات التلفزة.

وجرت العادة آنذاك أن تعرض مسودة الحلقة الأولى مع الخطوط العريضة لقصة المسلسل في محاولة لإقناع شبكات التلفزيون على إنتاج حلقة تجريبية واحدة، حيث كانت الحلقات التجريبية أداة القياس الوحيدة المعمول بها لمعرفة إن كان هناك جمهور للمسلسل أم لا.

واجهت المسلسل صعوبات كبيرة خلال إنشاء الحلقة التجريبية، نظرا لتعقيدات القصة ووجود "شخصيات معقدة ستكشف عن نفسها مع مرور الوقت" بحسب كيفين سبيسي بطل المسلسل.

رفضت أغلب شبكات التلفزيون تمويل حلقة تجريبية، رغم إعجابهم بفكرة المسلسل، فالاعتقاد السائد آنذاك أن المسلسلات السياسية نادرا ما تنجح.

في الاجتماعات بين شركة (MRC) ونتفليكس، أفاد تقرير "تيد ساراندوس" مسؤول المحتوى في المنصة، أن العمل سيحقق نجاحا باهرا، ولا حاجة لتمويل حلقة تجريبية، ووُقِع العقد الذي منحت نتفليكس بموجبه 100 مليون دولار مقابل الالتزام بإنتاج جزئين من العمل (13 حلقة لكل موسم).

تقرير تيد جاء بناء على تحليل بيانات المشتركين في نتفليكس والبالغ عددهم آنذاك 33 مليون مشترك، فقد تبين له أن أغلبية المشتركين هم من عشاق مخرج العمل ديفيد فينشر وبطل المسلسل كيفين سبيسي، كما أظهر أن عددا كبيرا استأجر أقراص (DVD) للعمل الأصلي البريطاني.

مزايا نتفليكس الجديدة مع مسلسل "بيت البطاقات"

لم يكن إلغاء الحلقة التجريبية والاعتماد على البيانات الرقمية لسلوك المشاهدين هي الميزة الوحيدة لنتفليكس، بل تبعتها طريقة جديدة بالتوزيع من خلال خدمة الاشتراك، وأيضا طريقة جديدة للترويج تعتمد على الخيارات السابقة لكل مشترك، إضافة إلى أن الاشتراك بالخدمة يزيل عبء وثقل الإعلانات التجارية في الشبكات التقليدية.

والأهم من كل ذلك، هناك مستوى جديد من الحرية الإبداعية للكاتب، ففي المسلسلات التقليدية كان على الكاتب أن يثير فضول المشاهدين عند نهاية كل حلقة، وهذا التفصيل الصغير كان يتحكم بمجريات القصة، الكاتب هنا يقدم عمله دفعة واحدة ويعرض دفعة واحدة، وهذا بمثابة إنشاء "فيلم مدته 13 ساعة" كما يصف "بو ويليمان" كاتب السيناريو الرئيسي للمسلسل.

قوانين تنظيم البث الرقمي ولعبة تسييس الدراما

بكل تأكيد هذه المنصات ليست جمعيات خيرية، هدفها الأول هو الربح المادي وأحيانا لديها مفاهيم ومعتقدات تحاول تمريرها بقوالب فنية جمالية، لذلك نجد بعض الدول رفضت توفير خدمة نتفليكس لمجتمعاتها كالصين وكوريا الشمالية، ودول قبلت بدخولها ضمن محددات تتعلق بـ"قيم المجتمع" كما هو حال تركيا حيث تنص" قواعد تنظيم البث عبر الإنترنت" الصادرة عن هيئة مراقبة الإذاعة والتلفزيون التركية، أنه على المنصة حذف المحتوى خلال 30 يوماً في حال طلبت منها الحكومة ذلك، وإلا ستتعرض لتعليق الترخيص لمدة ثلاثة أشهر وإلغائه إذا لم تلتزم المنصة.

أغلب شركات الإنتاج المملوكة لمافيات الاقتصاد في الأنظمة الشمولية لا تملك الرغبة ولا القدرة على الاقتراب من الخطوط الحمراء لتلك الأنظمة

من جانب آخر تنتج المنصة مسلسلات وأفلاماً تستهدف الجمهور التركي وبذلك تصبح هناك مصلحة مشتركة للطرفين، كما يلاحظ ادعاء منصات الدراما (نتفليكس مثالا) أن قوانين تنظيم البث الرقمي لبعض الدول هي ضغوط سياسية، بالمقابل تروّج المنصة نفسها أفكاراً سياسية، مثل المسلسل الإسرائيلي "فوضى" الذي يعيد للأذهان وصف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بأنها "القوة التي لا تقهر"، ويظهر الفلسطيني أنه يحارب الصهاينة فقط لأنهم "يهود".

هل سيؤثر الذكاء الصناعي والدراما الرقمية على شركات الإنتاج التقليدية؟

يذكر مؤلفي كتاب "البيانات الضخمة ومستقبل صناعة الترفيه" المشار إليه سابقا أنه "لمدة 100 عام، بقيت السلطة السوقية في صناعات الترفيه في أيدي ثلاث إلى ست شركات إنتاج"، ويبرر المؤلفان قدرة هذه الشركات على المحافظة على استمرارها رغم التحولات الكبيرة التي طرأت على المحتوى، وطرق تسويقه وبيعه وتوزيعه، بقدرتها على الهيمنة على الشركات الصغيرة والاستحواذ عليها والتأقلم مع المتغيرات المختلفة في سوق الترفيه.

لكن التحدي لا يزال قائما خصوصا أن المتغيرات الحالية متعددة وسريعة خلافا للمتغيرات السابقة التي جاءت تدريجيا وببطء، ما سهل استيعابها من قبل الشركات المهيمنة.

فالتقنيات الجديدة مع الذكاء الصناعي يمكن أن تحدث تغيرات كبيرة وكثيرة في طبيعة وجوهر صناعة الترفيه، وهذا يهدد المؤسسات المهيمنة إذا لم تستطع فهم التغيرات والتفاعل الإيجابي معها.

دراما الوجع السوري والاستفادة من تحليل بيانات المشاهدة

كل ما سبق ذكره من ضرورة تحليل المحتوى ودراسة بيانات سلوك المشاهدين يعتبر بمثابة بديهيات لصناع المحتوى، فما بالك بشركات الإنتاج الضخمة.

من المؤكد أن هذه الشركات تدرك أهمية تحليل بيانات المشاهدين، وتمتلك حجم بيانات ضخم لتواجدها الطويل في سوق الإنتاج، لكنها بنفس الوقت لا تقوم بإنتاج محتوى يتماشى مع رغبة وعادات المشاهدين المتغيرة.

فالدراما التي يتفاعل معها المشاهد هي الدراما التي تناقش مشاكله الحقيقية، وأغلب شركات الإنتاج المملوكة لمافيات الاقتصاد في الأنظمة الشمولية لا تملك الرغبة ولا القدرة على الاقتراب من الخطوط الحمراء لتلك الأنظمة، لذلك تحاول خطف أنظار المشاهدين وإبهارهم من خلال إنتاج ضخم باذخ، وممثلين نجوم، وكوادر فنية محترفة، ليصب كل ذلك في خندق ضيق من المفاهيم التي يُراد لها أن تدخل إلى وعي المشاهد العربي.

أما شركات الإنتاج القليلة خارج هذه المنظومة، فأمامها فرص كثيرة لإنتاج دراما تلامس آمال وآلام المشاهد العربي وتناقش قضاياه الحقيقية.

قسم من هذه الفرص يتعلق بتناول الثيمات المحرمة على شركات مافيا الاقتصاد، وقسم آخر يتعلق بمنصات الدراما الرقمية، والخيارات الواسعة التي تمنحها، حتى اليوتيوب يمكن اعتباره منصة دراما تقنية، ويمكن استخدامه بقدرات إنتاجية متواضعة، ويبقى عامل تحليل البيانات والمحتوى الذي يلامس القضايا الحقيقية للمشاهد هو الفيصل الأخير.

ولنا في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" خير دليل، فرغم إحجام أغلب القنوات الفضائية عن عرضه وشرائه. وبالرغم من احتوائه على العديد من الأخطاء الفنية، واعتماده على ممثلين هواة، فإنه حقق نسب مشاهدات عالية، ونقاشا اجتماعيا وإعلاميا واسعا، وهذا النجاح يعزى لكسر هالة القداسة حول الذات الرئاسية وتناولها بعين الواقع والحقيقة، وهو مسلسل ذو ثيمة سياسية بالضبط كما هو حال مسلسل "بيت البطاقات"، وهذه فرصة لصناع المحتوى (تمثيلي أو برامج)، فالبيانات تؤكد أن هناك جماهيرية عربية واسعة للمواضيع التي تكسر هيبة دولة الاستبداد، وتكشف الجوانب الشيطانية للذات الرئاسية المجرمة، وهذا يتطلب دعم ومساندة المؤسسات والمنظمات السورية ذات العلاقة لطلاب الإعلام والمسرح والسينما والموسيقى ممن يرغبون بإنشاء محتوى على اليوتيوب وغيره من المنصات، يتناول المسكوت عنه من قبل أرباب الدراما التقليدية.