دارِهم ما دمت في دارهم

2023.03.23 | 12:48 دمشق

دارِهم ما دمت في دارهم
+A
حجم الخط
-A

عندما أتينا إلى أوروبا لاجئين كنا نعلم أننا ندخل في مجتمعٍ مختلفٍ عن مجتمعنا وثقافةٍ مغايرة لثقافتنا، حتى لو تقاسمنا معها كثيراً من المشتركات. كنا نعلم على سبيل المثال أن زواج المثليين مسموحٌ به في معظم البلدان الأوروبية، ومن ضمنها فرنسا التي أعيش فيها منذ ثلاث سنوات. ولذلك وعملاً بالحكمة العربية البليغة "دارِهم ما دمت في دارهم" فقد تجاهلنا هذا الموضوع واعتبرناه غير موجود وحرصنا على التعامي عن رؤية المثليين بعلاماتهم المميزة في الشارع أو في وسائط النقل العامة. فنحن هنا لاجئون هاربون من الموت ولسنا سيّاحاً، وفي النهاية كل إنسان حر بنفسه سواء أراد أن يكون مثلياً، أو غير ذلك. المهم ألا يتأثر الآخرون سلباً أثناء ممارسة الفرد لحريته الشخصية.

لكن يبدو أن الأمر لا يتوقف على قضية الحقوق الفردية لأن ما نشهده في الحياة العامّة هنا ليس مجرد التسامح مع المثليين، بل الترويج للمثلية الجنسية بصورة مستفزّة. فعندما نحترم حق الآخر في أن يكون مختلفاً عنّا، عليه هو بالمقابل أن يحترم خصوصيتنا ولا يقعد يثير اختلافه عنّا ليل نهار وكأنه يريد أن يقنعنا أننا نحن شواذ ما دمنا لسنا مثله. من أكبر المعضلات التي نواجهها كآباء أن التلفاز ووسائل الترفيه الأخرى في فرنسا تحفل بالمشاهد شبه الإباحية بينٍ أفرادٍ من نفس الجنس. إننا لا نعترض هنا عما هو بنظرنا لوثة إباحية (ولنا بالمناسبة كامل الحق في أن نعترض)، لكننا نستغرب أن تكون المشاهد الإباحية موجّهة -في كثيرٍ من الأحيان- للترويج للمثلية الجنسية دون الحالة الطبيعية للممارسة الجنسية بين الذكر والأنثى، كما تقتضي الغريزة البشرية السليمة، بل وحتى غريزة الحيوانات والبهائم! ليس مقبولاً أن يصير الاستثناء هو القاعدة وأن تتم تنحية القاعدة وكأنها طرازٌ غير صالح.

كل هذا يتمّ في بلدٍ يعاني أزمة ديمغرافية خطيرة حيث يهرم السكان وتقلّ الولادات ويتم الترحيب بلاجئين من أمثالنا للإبقاء على عجلة الحياة والاقتصاد

ولا يقتصر الترويج للمثلية الجنسية على المسلسلات والأفلام، فقد يمتد للّوحات الإعلانية في الشوارع، أو حتى يتجلّى على شكل وفود من "الخبراء" يتم إرسالهم للمدارس لإقناع التلاميذ ممن لم يبلغوا على الأغلب سنّ النضج أن المثلية سلوك طبيعي وأنه ليس بالضرورة للمرأة أن تتزوج رجلا ولا الرجل أن يتزوج امرأة، بل إن الزواج قد يكون بين امرأتين أو بين رجلين! كل هذا يتمّ في بلدٍ يعاني أزمة ديمغرافية خطيرة حيث يهرم السكان وتقلّ الولادات ويتم الترحيب بلاجئين من أمثالنا للإبقاء على عجلة الحياة والاقتصاد.

وما هو أكثر غرابةً من ذلك أنك تتوقع من مجتمعٍ يبالغ في تقديم المثليين والهبيين وغريبي الأطوار في أبهى صورة أن يكون متسامحاً مع ضروب الاختلاف الأخرى التي تقلّ بدرجاتٍ كثيرة عن اختلاف المثليين. لكن الأمر ليس كذلك. ففرنسا التي يتسع قلبها لتحية المثليين ليل نهار تصرّ على الحطّ من قدر ملايين من الفرنسيات بالتدخل الفجّ بأسلوب لباسهنّ، وأنا أقصد هنا الحجاب الذي ترتديه السيدات المسلمات في هذا البلد سواء كنّ لاجئات أو فرنسيات ولدن هنا أباً عن جد.

وصفت الغارديان فرنسا بأنها "بلد يقوم بإهانة نفسه على المسرح العالمي من خلال تركيزه على أمر سخيف والعالم يحترق"

إن فرنسا التي تروج للمثلية ليل نهار تبدو مهووسة بكرهها لقطعة قماشٍ تضعها سيدة بملء إرادتها، كنوع مع الزيّ الخاصّ بها والذي قد يكون مجرّد زيّ تقليدي غير مرتبطٍ بالضرورة بدينها ولا بمعتقداتها الدينية. كم ثارت من معارك وخيضت من مبارزات كلامية ونقاشات حادّة بين السياسيين والإعلاميين والمثقفين بخصوص الحجاب أو البوركيني أو غيره من القضايا التي تمسّ مشاعر المرأة التي تلبس هذه الأزياء موضوع النقاش. وقد بلغ الأمر مبلغاً منتصف العام الماضي حتى كتبت عنه صحيفة الغارديان البريطانية التي اتهمت الفرنسيين بالسخف وقلة العقل، حيث كان العالم مشغولاً بالاجتياح الروسي لأوكرانيا بينما فرنسا منشغلة بقصة تلك المدينة الصغيرة في وسط البلاد التي سمحت بارتداء البوركيني ثم عادت تحت الضغط واللغط لإقرار البكيني، والبكيني وحده، كلباسٍ مسموحٍ على الشاطئ! ووصفت الغارديان فرنسا بأنها "بلد يقوم بإهانة نفسه على المسرح العالمي من خلال تركيزه على أمر سخيف والعالم يحترق".

هذا التناقض الفاضح بين الاحترام الزائد لحرّية فئة من الناس ونكران حرية فئة أخرى أكبر من الأولى بآلاف الأضعاف لهو من أعجب ما رأيت في فرنسا، ليس لأنني من أنصار الحجاب -وأنا بالمناسبة لست كذلك- بل لأن هذا التناقض ببساطة ينسف المسلّمات الأولية التي تقوم عليها الحياة الديمقراطية ويفنّد كل الادعاءات بأن هذه البلاد هي جنة الحرية والتعايش.