خيارات هيلاري كلينتون الصعبة (1)

2020.06.26 | 00:00 دمشق

14334755647432560-700x.jpg
+A
حجم الخط
-A

نقرأ مذكرات الساسة الأجانب فيما يخص قضايانا العربية، لأن السياسي والمسؤول العربي لا يكتب عن تجربته، فهو لا يبالي بأن يوضح للناس ما فعل وبماذا قام، لأن المحاسبة السياسية مفقودة فلا داعي لكتابة قصته للناس. منذ فترة عرضت تجربة جون كيري مع القضية السورية كما عبر عنها في مذكراته، في هذا المقال نلقي الضوء على مذكرات هيلاري كلينتون وشهادتها كوزيرة خارجية وتعاملها مع ملفات المنطقة.

هيلاري وفلسطين

زارت هيلاري كلينتون إسرائيل للمرة الأولى في ديسمبر عام 1981، في رحلة كنسية برفقة زوجها بيل كلينتون، أمضت عشرة أيام في إسرائيل وأعجبت بالشعب الإسرائيلي وبمقدرته وبمثابرته، تكرر هيلاري الحديث عن واحة الديمقراطية التي تعيش فيها إسرائيل وتمدح بطولات الشعب الإسرائيلي المزعومة، وكونت صداقة متينة مع إسحق رابين وزوجته ليا، على الرغم من أن إسحق رابين لم يسامحها على طردها له إلى شرفة البيت الأبيض للتدخين، لكنه احتج ذات مرة قائلاً إن عدم السماح له بالتدخين في البيت الأبيض يعطل مسار السلام، وساعتها سمحت له. تصف هيلاري شخصية نتنياهو وأفكاره التي تعرفها عنه مثل تشكيكه في فكرة الأرض مقابل السلام أو حل الدولتين فضلاً عن عدم قبوله اتفاقية أوسلو، وتركيزه المتكرر على التهديد الإيراني لإسرائيل، ترجع هيلاري شخصية نتنياهو إلى أنها تشكلت من خلال عمله في جيش الاحتلال الإسرائيلي وكذلك مقتل أخيه يوناتان الضابط في القوات الخاصة عام 76، وتأثير والده بنزيون المؤرخ المتطرف الذي حبذ إقامة دولة يهودية تشمل الضفة وغزة كاملين منذ ما قبل ولادة إسرائيل.

 ترى هيلاري أن عرفات ارتكب خطأ فادحاً عام 2001 برفضه الانضمام إلى رئيس الوزراء باراك في قبوله اقتراحات كلينتون

ترى هيلاري أن عرفات ارتكب خطأ فادحاً عام 2001 برفضه الانضمام إلى رئيس الوزراء باراك في قبوله اقتراحات كلينتون، وتكيل الاتهامات لحماس وتصفها بالإرهاب، وتمدح السلطة تارة في مقابل ذم قطاع غزة، وتشرح بالتفصيل تدهور العلاقة بين أوباما ونتنياهو وخلافهما المستمر حول قضية وقف بناء المستوطنات التي يصر عليها أوباما ويعترض عليها نتنياهو ويتجاهل هذا الطلب. أحياناً قامت هيلاري بدور الشرطي لتأنيب إسرائيل، لكن الكتاب مليء بالتفهم المزعج لمخاوف إسرائيل والتزام هيلاري بأمن إسرائيل واقتناعها بكل حججها، وتحكي لنا عن اتصال إيهود باراك عند مهاجمة الإسرائيليين السفينة التركية وقال لها: "لسنا مسرورين بالنتائج، ولكن توجب علينا اتخاذ خيارات صعبة، لم نستطع تفادي ذلك". أتى داوود أوغلو لزيارة هيلاري كلينتون وتحدث لمدة ساعتين، وكان منفعلاً جداً وهدد بأن تركيا قد تعلن الحرب، وأن الهجوم على السفينة يشبه هجوم 11 سبتمبر، وقال لهيلاري: "كيف يمكنك ألا تهتمي، أحد القتلى مواطن أمريكي!" وطالب أوغلو بتعويض الضحايا والاعتذار لتركيا، ورفض نتنياهو الاعتذار، وطلبت هيلاري من هنري كسينجر الضغط على نتنياهو للتواصل مع تركيا والاعتذار، وفعلها أخيراً بمكالمة مع أردوغان للاعتذار عن الإجراءات المتخذة أثناء العملية.

في المذكرات وصف لعملية السلام المتعثرة في الشرق الأوسط واجتماعات محمود عباس والإسرائيليين ودعوة مبارك اللجنة الرباعية لشرم الشيخ، وتتوقف قليلاً عند وصف منتجع شرم الشيخ وتقول إنه في عملها الدبلوماسي كثيراً ما تكون الاجتماعات في أماكن تتميز بالرفاهية مثل جزيرة بالي وهاواي، لكنها تكون في هذه الأماكن السياحية أسيرة بين الغرفة وقاعة الاجتماعات، ولا يتاح لها الوقت للتمتع بالمياة الجميلة أو رفاهية المكان، ثم تلمز مبارك في سطر وتقول على الرغم من كون مبارك مستبداً إلا أنه كان حريصاً على حل الدولتين والسلام في الشرق الأوسط.

مصر والربيع العربي

نرى في مذكرات هيلاري كلينتون حديثاً عن لقائها بعلي عبد الله صالح الرئيس اليمني، الذي تصف علاقة الأمريكان به بأنها رمز للخيار المحير الذي تعانيه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لقد كان فاسداً ومستبداً، لكنه التزم بمحاربة تنظيم القاعدة، لذلك قررت إدارة أوباما أن تتغاضى عما يزعجها في سياسة صالح مقابل خدماته الأمنية، وعندما ألحت هيلاري على صالح للحديث عن ملف حقوق الإنسان في زيارتها لليمن انشغل بعرض بندقية أثرية قدمها إليه الجنزال نورمان شوارزكوف قائد حرب الخليج. الأمن مقابل الديمقراطية حجة تدافع عنها هيلاري كثيراً وتحاول أن تذكر القارىء الشكاك بأنهم ليسوا براجماتيين لهذه الدرجة، والدفاع الكثير عن النفس يجعل القارىء لا يصدق تلك الحجج ويتضح له أن السياسة براجماتية حتى وإن تزينت بالقيم.

تشرح هيلاري أحداث الثورة المصرية من وجهة نظرها وتصف مبارك بأنه حكم مصر مثل فرعون، بسلطة شبه مطلقة طوال ثلاثة عقود، وأنه قمع في صرامة الإسلاميين والمعارضين الآخرين، ثم توضح أن الاحتجاجات في مصر وضعت إدارة أوباما أمام وضع دقيق، لأن مبارك حليف استراتيجي للولايات المتحدة، وتحكي عن محاولتها التهرب من الإجابة عند سؤالها عن موقفها من الأحداث في مصر والتي أجابت عنها بأن النظام مستقر، ثم تشرح انضمام أوباما لاجتماع في 28 كانون الثاني/ يناير ضم فريق الأمن القومي للحديث عن الوضع في مصر، وتمت إعادة النقاش في الأسئلة التي حيرت صناع السياسة الأمريكية عبر عدة أجيال: كيف يمكن تحقيق التوازن بين المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وبين دعمها للمبادئ والقيم والحريات؟ هل يمكن عندما يتم تغذية الديمقراطية ودعمها تحمل فاتورة ذلك وتكبد عواقب سلبية غير مقصودة.

انجرف مساعدو أوباما في البيت الأبيض، في جمال لحظة الثورة ودراميتها، مع تدفق الصور القادمة من ميدان التحرير في تأييد الثورة، ثم توضح هيلاري أنها شاطرتهم الانبهار باللحظة ثم قلقت، لأنها شعرت أن الأمريكان يتخلون عن شريك قديم، وأنهم بقبول اللحظة الثورية يسلمون مصر وإسرائيل والأردن والمنطقة ككل إلى مصير مجهول وخطر! ثم تعدد مزايا مبارك ودوره في العداء مع إيران، والتضييق على القاعدة أو فتح خطوط الملاحة في قناة السويس، فضلاً عن الحفاظ على أمن إسرائيل، رجلهم في المنطقة لم يقصر في أي من الطلبات فلماذا نتخلى عنه بعد ثلاثين عاماً من التعاون!

انجرف مساعدو أوباما في البيت الأبيض، في جمال لحظة الثورة ودراميتها، مع تدفق الصور القادمة من ميدان التحرير في تأييد الثورة

كانت هيلاري مع التمهل ووجوب التزام الحذر، وعدم الاندفاع في تأييد الاحتجاجات، وظهرت على التلفزيون وتحدثت عن الانتقال السلمي والمنظم إلى النظام الديمقراطي، وقالت استعملت كلمة منظم بدلاً من فوري عمداً، وطالب البعض في فريق الرئيس أن تلمح إلى تنحي مبارك لكنها رفضت، ثم أوصت هيلاري الرئيس أوباما بإرسال مبعوث خاص للتحدث مع مبارك وعرض خطوات للإصلاح، واقترحت عليه "فرانك ويزنر"، أحد من الدبلوماسيين المتقاعدين، وكان سفيراً للولايات المتحدة في مصر بين عامي 1986- 1991، وجمعته بمبارك علاقة صداقة قوية، وسافر ويزنر إلى القاهرة والتقى مبارك في 31 يناير ونقل إليه رسالة الامريكان، واستمع إليه لكنه لم يتزحزح عن موقفه قيد أنمله كما تعبر الوزيرة. وشاهدوا خطاب مبارك الذي خرج فيه وهو يقول إنه لن يترشح ثانية لكنه لم يرفع قانون الطوارئ أو يعد أن ابنه لن يكون من المرشحين، وكان خطاباً مخيباً للآمال وللحشود في الساحات وحتى للأمريكان. وردد أوباما "أن هذا لن يكفي لوقف الاحتجاجات". واتصل أوباما بمبارك ليعبر عن الأمر بنفسه، ثم خرج بيان من أوباما يدعو للانتقال السلمي للسلطة وأن يبدأ الآن.

تواصلت هيلاري كلينتون مع وزير الخارجية أحمد أبو الغيط الذي بدا أقل تفاؤلاً من المرات السابقة وكان واضحاً شعوره بخيبة الأمل، واشتكى لها من دفع الولايات المتحدة مبارك خارج الحكم في شكل غير رسمي، ثم لوح بورقة الإيرانيين وسرورهم بسقوط مبارك، وكذلك قال لها إنه متخوف من وصول الإسلاميين إلى الحكم، وقال لها في تذلل وحجج سخيفة: "أن لديه حفيدتين، ويريدهما أن تترعرعا لتكونا مثل جدتهما ومثلك، وليس لترتديا النقاب مثل السعودية وأن هذا هو كفاح حياته"، العجيب هو لجوء رجال النظام المصري لهذه الحجج لمغازلة الدعم الأمريكي. يوضح الكاتب بلال فضل في برنامجه عصير الكتب أن هيلاري كلينتون في مذكراتها السابقة "تاريخ معاش" والذي لم يترجم للعربية، قد عبرت في وصلة مديح عن إعجابها بمبارك وزوجته سوزان ووصفتهما بالثنائي المبهر، وأن مبارك يحمل ملامح فرعون عتيق، وأنها قدمت دفاعاً عن مواقفه السياسية.

خرج مبارك من الحكم وزارت هيلاري القاهرة بعد حوالي شهر وسارت في ميدان التحرير وصاح بعض المتظاهرين: "أهلاً بكم في مصر الجديدة"، ثم تحكي عن لقائها بعض الطلاب والناشطين الذين أدوا دوراً قيادياً في التظاهرات، وأخذت تسألهم عن خططهم للانتقال من الاحتجاج إلى العمل السياسي، واقتراحاتهم بخصوص الدستور، لم تعجبها الإجابات ووصفت الناشطين بأنهم مجموعة غير منظمة وغير مستعدة لخوض الانتخابات أو التأثير في أي شيء، وأنهم لا يملكون الخبرة السياسية، ولا يعرفون طريقة تنظيم الأحزاب وإدارة الحملات، تجادلوا فيما بينهم في الاجتماع وألقوا اللوم على الولايات المتحدة، وخرجت من الاجتماع وقد ساورها القلق من تسليمهم البلاد للإخوان المسلمين أو الجيش نتيجة تقصيرهم، ثم تقول: وهو بالضبط ما حدث. وعندما كنت أقرأ هذه الفقرة تعجبت من استئساد تلك الدبلوماسية الأمريكية على مجموعة من الناشطين تم حرمانهم من العمل السياسي لمدة ثلاثين عاماً في عهد مبارك وتم التضييق في عهده على أي محاولات لممارسة السياسة ومنع الصحافة الحرة، من أين سيأتي هؤلاء بخبرة سياسية، المؤسف أن بعض رموز المجتمع المدني ستتعاون لاحقاً لتغيير الأوضاع بالاستعانة بقوة الجيش والانقلاب على الديمقراطية.

خرج مبارك من الحكم وزارت هيلاري القاهرة بعد حوالي شهر وسارت في ميدان التحرير وصاح بعض المتظاهرين: "أهلا بكم في مصر الجديدة"

تحكي هيلاري عن مقابلتها مجموعة من الأقباط المسيحيين وسؤالهم حول ما يتردد عن مساعدتها "هوما عابدين" وكونها تنتمي للإخوان المسلمين، وتضايقت هيلاري من انتشار تلك المعلومة المغلوطة التي روج لها بعض أعضاء الكونجرس، وتكمل هيلاري حديثها بنقد تجربة مرسي واتهامه بأنه تصادم مع القضاء، وسعى إلى تهميش خصومه السياسيين، لكنه فأجأ بعض المشككين بالإبقاء على معاهدة السلام مع إسرائيل، ومساعدة هيلاري على التفاوض على وقت إطلاق النار في غزة في نوفمبر 2012، وتنتهي شهادتها مع الانقلاب على مرسي، ولا تقدم نقداً على ما حدث وتكتفي بوصف السيسي أنه من نمط القادة الأقوياء للشرق الأوسط، وأن البديل عن ذلك هو غرق المنطقة أكثر في الرمال، ولا يوجد في المذكرات أي حديث عن التعاون مع الإخوان لظهور داعش وغيرها من الإشاعات التي نسبت إلى هيلاري كلينتون، تواصل هيلاري شرح مواقفها مما حدث في احتجاجات البحرين وأن الملحق العسكري في الرياض أبلغها بتحرك القوات السعودية للمشاركة في عملية عسكرية في البحرين وتواصلت مع وزراء الخارجية، ولم تر دول الخليج ضرورة لإبلاغ الولايات المتحدة أو سؤالها أو سماع رأي الإدارة الأمريكية في ذلك.

في المذكرات حديث عن ليبيا والهجوم في بنغازي وعن ملف إيران ومعضلة سوريا نستعرضها في المقال القادم...

كلمات مفتاحية