خطيئة الولايات المتحدة في سوريا ومعضلة إيران

2023.08.18 | 07:11 دمشق

خطيئة الولايات المتحدة في سوريا ومعضلة إيران
+A
حجم الخط
-A

يعطي الباحثون في حقل العلاقات السياسية الدولية أهمية خاصة لقوة الدولة، وذلك من خلال النظر إلى أن هذه القوة هي التي ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي. ويعتقد كثير من أساتذة العلاقات الدولية أن الذي يحدد مجرى هذه العلاقات هي القوى الكبرى، أما الدور الذي تقوم به الدول ذات القوة المحدودة فهو دور ضئيل نسبيا؛ إن لم يكن معدوما.

أحد التحليلات الشهيرة في أدبيات العلاقات الدولية يقسم الدول إلى أربع فئات متميزة، وذلك استنادا إلى إمكانات قوتها القومية وانعكاسات ذلك على سلوكها الدولي، وهذه الفئات هي: فئة الدول القوية والقانعة بالأوضاع القائمة، وفئة الدول القوية وغير القانعة، وفئة الدول الضعيفة والقانعة، وفئة الدول الضعيفة وغير القانعة، وهذه دول تدرك ضعف إمكاناتها، لكنها تشعر بعدم الرضا نتيجة لشعورها بالظلم الشديد الذي يقع عليها بسبب استغلال الدول القوية لها، لذا فهي غالبا ما تنحاز إلى جانب دولة كبرى متمردة على الوضع القائم؛ على أمل أنه إذا ما قدِّر لتلك الدولة النجاحُ بتحدي الوضع القائم، فلربما انعكس عليها ذلك بميزات جديدة.

لا يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة لكي يكتشف أن روسيا تعتبر مثالا شديدَ الوضوح عن فئة الدول القوية غير القانعة بالأوضاع القائمة، وهي ما فَتِئت منذ وصول "بوتين" إلى سدة الحكم تبحث عن مكانتها الدولية التي تتناسب مع حجم قوتها المتنامية باطّراد. أما المثال الصارخ عن فئة الدول الضعيفة وغير القانعة فيتجسد في معظم دول إفريقيا، وخاصة تلك التي بدأت تجاهر بانحيازها لروسيا رغم أن الحرب الروسية في أوكرانيا لم تفصح عن مكنوناتها بعد. أما فيما يخصّ حجم تأثير هذه الدول، فبالرغم مما يقول به معظم أساتذة العلاقات الدولية من محدودية هذا التأثير؛ يعتقد أن حجم تأثير هذه الدول يكون في أعلى مستوياته في أثناء ارتفاع حدة النزاعات الدولية، فهي تضفي نوعا من الشرعية على السلوك المُزعزِع للاستقرار الذي تنتهجه الدولة القوية غير القانعة، كما أنها قد تخلق بعض الاضطراب في صفوف الحلف المقاوم للتغيير.

تمدد روسيا في إفريقيا ووجودها على الأرض من خلال ميليشيا "فاغنر" منح كثيراً من القادة بعض الاطمئنان، وإلا فلن يستطيع أحد الاستزلام بقوة تبعد عنه آلاف الأميال. من هنا نستطيع القول إن القصة بدأت من سوريا

في الواقع؛ قد تكون معظم دول العالم الثالث تندرج تحت تصنيف فئة الدول الضعيفة وغير القانعة، وخاصة على مستوى الشعوب، وهاهم الانقلابيون يجعلون من تمردهم على الغرب مصدرا لشرعيتهم، ولكن ما الذي جعل الدول الإفريقية أكثر جرأة في التعبير عن انحيازها لروسيا، سواء علنا أو ضمنا عن طريق تمتين العلاقات وتوقيع الصفقات وما شابه ذلك؟

حقيقة لو أن روسيا بقيت داخل حدودها قد لا نجد نظاما في العالم يتجرأ على تحدي مشيئة الغرب - باستثناء الدول التي تصنف على أنها من قوى التعديل بالأصل – لكن تمدد روسيا في إفريقيا ووجودها على الأرض من خلال ميليشيا "فاغنر" منح كثيراً من القادة بعض الاطمئنان، وإلا فلن يستطيع أحد الاستزلام بقوة تبعد عنه آلاف الأميال. من هنا نستطيع القول إن القصة بدأت من سوريا.

لم ترَ الولايات المتحدة أية أهمية لسوريا، وهو ما قال به كبار المحللين، ولعلها كانت خطيئتها الكبرى، فحتى العام 2015 رفض الغرب التدخل العسكري المباشر في سوريا إلى أن تدخلت روسيا بشبه مباركة أميركية. أما روسيا التي كانت قيادتها تخوض معركة استعادة الهيبة والمكانة الدولية فنظرت إلى سوريا كقاعدة متقدمة خارج نطاق محيطيها الإقليمي تكون منطلقا لخلق نوع من الشراكات والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط وقارة إفريقيا. ولم يكن موقف الإدارة موضع إجماع، فقد وُجد تيار داخل الإدارة يعترض على هذا الموقف.

في أكتوبر 2018، تم إنشاء "مجموعة دراسة سوريا" لدراسة ومراجعة وتقييم أهداف الولايات المتحدة، وتقديم توصيات إلى الكونغرس الأميركي حول الإستراتيجية العسكرية والدبلوماسية للولايات المتحدة في سوريا. وحول فكرة الاستهتار الأميركي بالتدخل الروسي في سوريا جاء في التقرير: "استهانت الولايات المتحدة بقدرة روسيا على "استخدام سوريا كساحة للنفوذ الإقليمي". حقق تدخل روسيا ابتداء من سنة 2015 هدفه المباشر المتمثل في الحفاظ على النظام كتحدٍّ لدعوة الولايات المتحدة لـ"رحيل" بشار الأسد وذلك بكلفة منخفضة نسبيا. في هذا السياق عززت روسيا مكانتها وهيبتها على نطاق أوسع في الشرق الأوسط".

مؤخرا - على ما يبدو – أصبح يُنظر إلى موقف الإدارة الأميركية الرافض للتدخل في سوريا وسماحها لروسيا بالتدخل على أنه خطيئة كبرى، وهذا ما عبر عنه كثيرون، وكان آخرهم الرئيس الأوكراني "فلاديمير زيلنسكي". ومؤخرا أيضا؛ بدأت الولايات المتحدة بشكل عملي محاولة التكفير عن تلك الخطيئة أو التخفيف من آثارها، ولأن محاولة طرد روسيا من سوريا تبدو فكرة مستحيلة تحاول الإدارة الأميركية محاصرة النفوذ الروسي وحصره داخل سوريا فقط، وها هي تستعيد علاقاتها الوطيدة مع كل من تركيا والسعودية ومعها دول الخليج العربي، وهو ما يعني تجميد مسار التقارب بين روسيا وهذه الدول، إن لم نقل تراجعه.

إذا كانت الأمور تسير على هذا الشكل، فلا شك أن الولايات المتحدة استجابت لبعض المطالب من قبل الدول التي أعادت علاقاتها الدافئة مع الولايات المتحدة، ولعل تلك المطالب تتمثل في المواقف والإجراءات الأميركية التي كانت سببا في فتور تلك العلاقات، وهنا تحضر الضمانات الأمنية ويحضر الخطر الإيراني، خاصة عندما يتعلق الأمر بدول الخليج العربي، ولأن الوجود الإيراني في سوريا يعتبر عاملا مساعدا ومتمما لتمدد النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط وقارة إفريقيا على حساب النفوذ الغربي، يبدو أن التفكير ينصبّ حول الطريقة التي يمكن من خلالها طرد إيران من سوريا على اعتبار أنه يندرج في إطار عزل ومحاصرة النفوذ الروسي داخل سوريا فقط.

كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن مخاوفها من أن أي حرب مع إيران قد تشعل منطقة الشرق الأوسط برمتها؟ وهل من ضمانات ألا يؤدي هذا النوع من المغامرة إلى صدام بين سلاح الجو الأميركي وسلاح الجو الروسي؟

تصاحبت عملية إعادة الدفء للعلاقات بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها الذين كانوا بالأمس يتململون مع ضخ للموارد العسكرية إلى الشمال السوري وبناء تحالفات جديدة، كما ترافقت بتوجيه بعض البوارج الحربية باتجاه منطقة الخليج ونحو البحر المتوسط، وتحدثت وسائل الإعلام عن تحضيرات إسرائيلية تثير الريبة. كل هذا جعل بعض المحللين يطلقون العنان لتنبؤاتهم التي تقول بحتمية الحرب. ولكن رغم تلك المعطيات يعتقد بعضٌ آخَرُ من المحللين أن إطلاق هذا النوع من التنبؤات يحتاج قبل ذلك إلى الإجابة عن بعض الأسئلة؛ فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تقدم على خطوة كهذه في ظل قرار أميركي إستراتيجي بعدم الانخراط في حرب مفتوحة قد تكون مرتفعة التكاليف؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن مخاوفها من أن أي حرب مع إيران قد تشعل منطقة الشرق الأوسط برمّتها؟ وهل من ضمانات ألا يؤدي هذا النوع من المغامرة إلى صدام بين سلاح الجو الأميركي وسلاح الجو الروسي؟

تبدو الحسابات شائكة ومعقدة، ويبدو أن التعامل مع الجانب الإيراني ما زال يشكل معضلة حقيقية، إلا أنه في الوقت نفسه يبدو أن الولايات المتحدة مضطرة لأن تكفّر عن خطيئتها الكبرى في سوريا، أما بخصوص المعضلة الإيرانية - فعلى الأغلب - سوف تنظر الولايات المتحدة إلى عودتها للمفاوضات بشأن برنامجها النووي كافياً لتعكير صفو علاقاتها مع روسيا رغم كونه حلاً لن يعجب كثيراً من حلفائها في المنطقة.