خطوة أولى يحققها الحراك اللبناني

2019.10.30 | 19:44 دمشق

2019-10-30t140358z_1159172214_rc13a87423c0_rtrmadp_3_lebanon-protests-taboos.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع استقالة حكومة "سعد الحريري" في بيروت يكون الحراك اللبناني قد حقق بنده الأول، والأهم من مطالبه، وهو ما سيفسح في المجال لتشكيل حكومة انتقالية مصغرة تعمل على حلول جدية للمشكلات الأكثر أهمية، والذهاب إلى انتخابات مبكرة على أسس وطنية تقود لبنان إلى ما كان عليه بعيد الاستقلال من توحد سياسي ونمو اقتصادي وأمن اجتماعي.. وذلك ما يطلبه اللبنانيون، وهو ما ورد في مقدمة الدستور اللبناني المضافة إليه في 21 أيلول 1990 أي منذ نحو ثلاثين عاماً، كما ردد المتظاهرون، ومنه:

 "- لبنان وطن سیِّد حر مستقل، وطن نهائي لجمیع أبنائه..!

 - لبنان جمهوریة دیمقراطیة برلمانیة، تقوم على احترام الحریات العامة، وفي طلیعتها حریة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعیة، والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین دون تمایز أو تفضیل.

 - إلغاء الطائفیة السیاسیة هدف وطني أساسي یقتضي العمل على تحقیقه وفق خطة مرحلیة..!"

وتحت هذه البنود المضمرة في روح اللبناني وذاكرته، وبما تتضمنه من معان، نزل اللبنانيون إلى الشارع يعبرون عن واقعهم الاجتماعي في "وطن لجميع أبنائه"، و"عدالة اجتماعية" تضيِّق الهوة التي اتسعت كثيراً بين الحاكم الذي غدا "مليارديراً" والمحكوم الذي أخذ يعاني الفقر والبطالة وانعدام الخدمات الضرورية لعيشه من ماء وكهرباء ونظافة وصحة وتعليم، ويدرك المحكوم البعد السياسي لسوء وضعه ومعاناته إذ لخصته إحدى السيدات المحتجات بشعارٍ غدا رمزاً لجوهر الانتفاضة وغاياتها، ولم يحمل ذلك الشعار غير كلمة واحدة مؤكَّدة "كلن.. يعني كلن" ما يفيد في عمقه الوطني بامتياز إشارة إلى فقدان كل ما ترمز إليه تلك البنود الثلاثة الواردة في مقدمة الدستور..! 

ولا بد لكل من تابع الحالة اللبنانية من أن يسجل إعجابه الشديد بهؤلاء اللبنانيين: متظاهرين وإعلاميين ولعلَّ اهتمام الإعلاميين وفعلهم يوازي فعل المتظاهرين، إن لم يزد عليه، إذ يمنح صوتهم قوة وهم الذين ينقلون منذ تسع سنوات ما يجري في بلاد العرب من احتجاجات بدوافع مماثلة، لكن الحرية النسبية التي يتمتع بها اللبنانيون جعلت تعبيرهم أكثر دهشة، وأكثر إثارة للمتابع، ربما لعب الإعلام النشط دوره وربما لعبت بساطة اللبناني وجرأته دوراً أكثر وضوحاً في إظهار وجعه المزمن.. وجعه القديم/الجديد، فالمتابع على شاشات التلفزة لا يكاد يلتقط أنفاسه من شدة إعجابه، وكأنَّه أمام فيلم سينمائي يصوِّر مشاهد تجسد تجليات ثورة اجتماعية حقيقية، وهي كذلك فعلاً، بكل عفويتها وعمقها، ودونما استناد إلى أية إيديولوجيا أو حزب أو قيادة، فمن شارع إلى شارع، ومن ساحة إلى أخرى، تتغير الوجوه والأشكال وأساليب التعبير وجنس المتكلم وعمره، ويبقى الكلام واحداً يدل على أنها ثورة واعية بذاتها، وكأنَّما تقول إنها ليست بحاجة إلى من يوجهها، فيكفيها الوجع الواحد، رؤية ومنارة.. ومن هنا ربما يأتي اختيار قيادة يُتفق عليها مادام الهدف واضحاً في أذهان الجميع، ويُعتقد أنها موجودة بالفعل وإن بشكلها الأولي وعلى نطاق كل تجمع وبلد..

قد لا يوحي لبنان بحسب حجمه المتواضع، بأنه الدولة التي يمكن التعويل عليها بالتغيير المرتقب في المنطقة منذ أواخر العام 2010

تؤكد الانتفاضة اللبنانية التي تغوص في عمق السياسة.. حقيقة الحكم الاستبدادي الجمعي، إن صح التعبير، متعدد الوجوه، متوحِّد الأهداف والغايات وأبرزها الاستثمار في الشعب اللبناني، وسرقته والاستعانة بالأجنبي والإقليمي علناً أو من خلف ستار ليكون والحاكم المباشر على المواطن..

لا شك في أن الانتفاضة اللبنانية تحاكي، في عمقها، الانتفاضات التي حصلت في البلدان العربية، وفي مراميها المتشابهة، إن على صعيد الحاجات الاجتماعية، أو على صعيدها السياسي الوطني الموجه ضد طبيعة الحاكم المستبد وبخاصة لجهة التحكم بثروات البلد ونهبها دون ترك أي جزء منها للتنمية أو للخدمات المدنية العامة التي كان لبنان متقدماً على غيره منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته أي منذ الحرب الأهلية التي أدخلت النظام السوري، وباتفاق إقليمي ودولي، ليعمل لا على تصغير المواطن اللبناني فحسب بل على النيل من هيبة سياسييه قادة وأحزاباً ولينهب اقتصاده ويشوهه أيضاً.. ومن هنا لعل انتصار الانتفاضة اللبنانية سوف يساهم في عملية تغيير النظام العربي المستمرة في المنطقة ذلك الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية ومكَّن للعسكر بتأثير نكبة فلسطين لكنه وبسبب رعونته جاء بهزيمة 1967 الأقسى والأمر ليتبعها بالفساد الذي حال دون تنمية فعلية تنهض بالبلاد وتتجاوز التخلف الذي تفاقم..!

قد لا يوحي لبنان بحسب حجمه المتواضع، بأنه الدولة التي يمكن التعويل عليها بالتغيير المرتقب في المنطقة منذ أواخر العام 2010 ولا يزال مستمراً على نحو أو آخر، ويفاجئ المواطن العربي كل فترة بحالة جديدة تغني هذا التحول العميق بأشكاله المختلفة وتباشيره التي تؤكد أن العرب أمام مرحلة جديدة ذاهبة بالقوة كلها إلى اقتلاع أنواع الاستبداد من جذوره.. وسواء كان قائماً على أسس عسكرية أم قومية أم دينية أم طائفية أم أية إيديولوجية أخرى، ولا يقلل من قيمة هذه المرحلة الجديدة ما جرى في سورية وليبيا واليمن بل على العكس إذ تأتي هذه الانتفاضات الشعبية الواعية لا لتستفيد من تلك التجارب المأسوية بفعل الاستبداد ودولته العميقة القائمة على أسس طائفية مقيتة أو قبلية متخلفة بل لتصب في طاحونتها وتؤكدها وتعيد إليها زهوها وفعاليتها.. وليس غريباً أن يهتف اللبنانيون للاجئين السوريين على النغمة ذاتها التي ابتدعها إبراهيم القاشوش منشد الثورة السورية "أهلاً باللاجئين السوريين.." على عكس ما كان يقوله جبران باسيل وغيره من العنصريين بترحيل السوريين، وكذلك ممارسات حزب الله بتسليم بعض الشباب السوري الهاربين من الموت إلى جيش النظام..

نعم إنه الربيع العربي الذي لم يكن خريفاً ولا شتاء كما توهَّم بعضهم من خلال انتكاسات بعض تجاربه فما جرى ويجري، في تونس والسودان، والجزائر قادمة، وما يبشِّر به العراق ولبنان، وستأتي مصر لاشك فالحبل على الجرار، وسوف يأتي الربيع على قلاع يظن حكامها أنها حصينة، رغم أنها ما كانت في يوم ما إلا السند والحصن المؤازر لذلك الاستبداد كله.. اليوم لا ملاذ لأحد من صحوة الشعوب العربية التي أُشبعت ذلاً وقهراً وجوعاً وتخلُّفَ تنميةٍ وفسادَ حكوماتٍ وفوق ذلك كله هزائم على غير صعيد.. نعم سوف تسقط كل القلاع التي تعيش في الماضي ولم تأخذ بروح العصر بعد.. حتى هؤلاء الذين لم يفهموا التحولات التاريخية في العالم وفي المنطقة، ووقفوا في وجهها، حين مستهم، بما في أيديهم من قوة، فأوقعوا بلادهم في مهالك، وشعوبهم في مآس فإلى زوال حتمي.. رضاءً أو كرهاً.. ولعلَّ أبسط ما تقوله هذه الانتفاضات المستمرة منذ تسع سنوات وبأشكال متباينة، ووفق حالات بلدانها، ومستوى تطورها، وطبيعة الحكم فيها، إنها:

نعم إنه الربيع العربي الذي لم يكن خريفاً ولا شتاءً كما توهَّم بعضهم من خلال انتكاسات بعض تجاربه فما جرى ويجري، في تونس والسودان، والجزائر قادمة، وما يبشِّر به العراق ولبنان

ثورة على التخلف الشامل وثورة على الهزائم التي أتت بها الحكومات العسكرية/الأمنية/ القمعية (سوريا، مصر، تونس، ليبيا، السودان، اليمن، عراق البعث) والديمقراطيات التحاصصية الطائفية (لبنان أولاً والعراق لاحقاً،) والتخلف الماضوي الرجعي القبلي المغذي للقطيعة مع الحضارة والعالم بالإرهاب الذي تولّد عنه (المملكة العربية السعودية).. (تأسست القاعدة أميركياً وبأموال سعودية وربما بمساهمة من بعض دول الخليج لمواجهة أخطار الشيوعية آنذاك، وتدخل الاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان) ولن تكون إيران التي تمددت في لبنان وبلدان عربية أخرى بمنأى عما يجري.. فلبنان الذي تتشابك عنده علاقات عربية وإقليمية قد يلعب دور "بيضة القبان" في حركة التغيير الشاملة في المنطقة على الرغم من المخاوف القائمة من استخدام سلاح ميليشيا حزب الله..! لكن لاستخدامه مخاوف أكثر، وأولها الانقسام الطائفي الشيعي على أساس الولاء الوطني والعيش اللبناني المشترك، وهو الكامن منذ زمن وربما جروحه لا تزال مفتوحة منذ بدأت عملية الاغتيالات للعديد من الشخصيات الوطنية في سبعينيات القرن الماضي وما بعده. وربما زاد في الجراح إيلاماً أعداد القتلى من أعضاء حزب الله في سوريا، وعدم قناعة أهاليهم بدعاوى قتلهم..! ثم إن الردع الدولي سيكون حاضراً ناهيك بما يتركه السلاح من جراح جديدة، وردود أفعال لبنانية شاملة..

ولعلَّ الحراك العراقي الذي يصب في الاتجاه الوطني نفسه يشد أزر اللبنانيين ما يجعلهم أقرب إلى التآلف والتعايش الوطني والإنساني، وذلك ما يقوله الحراك ويتجه نحوه بعزم وإصرار قويين..!