خطبة الفلسطيني الأحمر ما قبل الأخيرة للرجل الأبيض

2023.12.13 | 07:41 دمشق

خطبة الفلسطيني الأحمر ما قبل الأخيرة للرجل الأبيض
+A
حجم الخط
-A

بعد أن استطاع الإنكليز الغزاة لأميركا إبادة الهنود الحمر؛ كان على الأدب أن يجسد المأساة، وكان ممن تنطعوا لذلك – ولو بعد حين- الشاعر محمود درويش في قصيدته الملحمية "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض". ولعل اتساع عنوانها، وتضمنه لمفردة ما قبل الأخيرة؛ شارة أن لهذه الخطبة ما بعدها من احتمال النصر تحت كل ذاك الرماد، وذهبت خطبة الهندي وأهلها كصرخة في واد عميق، ولم تبقَ سوى القصيدة، اللهم إلا بعض رتوش التجميل بتبني بعض الأسماء الهندية لذر الرماد في العيون؛ على شاكلة إطلاق أسماء بعض القبائل على منتجات أميركية كسيارات الجيب "شيروكي" وحوامات "أباتشي" التي أمعنت في تدمير العراق ودك أفغانستان، رغم أن استعارة تلك الأسماء نفسها لتسمية معدات عسكرية ليس نظيفا؛ بقدر ما ينم عن فكرة التوحش التي أريد إلصاقها بتلك القبائل التي يبدو أنها أوجعت قتلتها قبل أن تندثر، ولعل درويش ذهب بعيدا في دفع من يقرؤه إلى كشف جديد ومركزي بآن؛ إذ لم يوجه القصيدة والخطبة للرجلِ الإنكليزي؛ بل إلى الرجل الأبيض لتكون مفتوحة على كل ما تجود به قريحة الشعوب المذبوحة من حقول الشاي المزروعة في الهند لصنع أغلى ماركة شاي إنكليزي عالمية، إلى مناجم الذهب التي أتخمت خزينة فرنسا من أغوار أفريقيا السمراء التي تنام على ضلوع أطفالها النافرة جوعا حتى الموت، فاستطاعت قصيدة محمود درويش أن تقرع جرسا في آذان العالم السائر كقطيع أطرش؛ مثلما استطاع نظيره الفلسطيني إدوارد سعيد أن يفضح الذهنية الغربية في كتابه الاستشراق، ويفتح عيون العالم على سِفر الدجل والتزوير انطلاقا من غائية لا تمت للحقيقة بصلة، وتنهل من رغبة الهيمنة والتكريس لدى مؤسسيها وبنياتها وتحترف تعمية ضحاياها.

في فلسطين يتجذر حق لا يدركه العابرون هو الإيمان بالأرض، قبالة آخر غربي يعتمد زهوة القوة بلا إيمان ولا أرض ولا تاريخ

غير أن ما عليه الصورة في فلسطين يختلف تماما لاعتبارات كثيرة، إذ يحمل أهلها الإيمان واليقين بنصرهم سواء لكونه يمتح من حقهم بأرضهم، أو من دينهم ويقينياتهم، مسلمين وميسحيين وحتى بعض عقلاء اليهود، إضافة لشعور المستوطنين بأن فلسطين وطن بديل فأبقوا على جوازات سفر بلدانهم التي هاجروا منها، هي حرب بين طرفين واحد يمتلك الأدوات التي لا تتقن سوى التكريس، والثاني يملك الإيمان الذي يصنع كل شيء، ففي فلسطين يتجذر حق لا يدركه العابرون هو الإيمان بالأرض، قبالة آخر غربي يعتمد زهوة القوة بلا إيمان ولا أرض ولا تاريخ، لا يهتم بالحقيقة بل يُشيؤها كما يصفها آخر متحدث باسم الهنود الحمر "روسل مينس" إذ تعبث أوروبا بالحقائق والتواريخ، وتُعرِّفها كما تُعرِّف الأشياء، وتعيد تعريفها ألف مرة لتحولها إلى مادة تستهلك ثم ترمى عند انتهائها كسلعة أو قمامة، يقول درويش "مادام الكل يعرف أن السيف عاجز هذه المرة أيضا عن كسر الروح، سنثبت مرة أخرى أننا الأقوى أخلاقيا فلم يبق لنا إلا هذا البرهان....، ومن لم يصبح فلسطيني القلب منذ الآن؛ لن يتعرف إلى هويته الأخلاقية بعد الآن"، وإن اعتبر "روسل مينس" أن الشعر والكتابة المحكية للهنود الحمر الخارجة عن أنماط اللغة الأوروبية طريقتان لكينونة الهندي، فالفلسطيني يرى كينونته بالحياة وبالموت تضحية، بالكتابة بالدم، بأن ينجب ويموت على الأرض -الحقيقة العصية على التزوير.       

تنكشف القيم الغربية حتى لدى معتنقيها من شعوب الغرب، وتنكشف كذبة الأنظمة نفسها، ويتنبه الغربي لفقاعة الحرية المزينة بأوراق السيلوفان والمعلبة بتكلف العشاق الكاذبين، والمسوقين المحترفين لبضاعة مزورة، ورغم الجمهور العريض لهكذا بضاعة؛ تنفلت نسبة ضئيلة، وتتساءل في العمق حول مجتمعات الاستعباد المبطن التي درسها "إريك فروم" في كتابه "الهروب من الحرية"، لتنفرز الأصوات على مستوى الشعوب إلى فسطاطين؛ واحد قوي يمثل متنا بكل ما يلحقه من هوامش ضمت مجتمعات بكاملها، وثان ضعيف بلا صوت يمثل الهامش الأخير لإنسانية توشك على النفاد وتطلق صرختها الجريحة لتنهض بآخر ما تبقى؛ واحد يقف – رغم قلته - مع حرية الشعوب ممن انعتق من ممارسات التدجين تحت مسمى التنوير والحضارة التي اتبعت سياسة محكمة؛ داخليا بإشغال الشعوب بالتفاهة والركض خلف لقمة العيش والمتعة العابرة وسقوط فلسفات السعادة الحقيقية، والبحث الحميم وراء المتعة التي وصمت حضارة الغرب، كما كرست هيمنتها خارجيا بالحديد والنار، ينكشف الغرب وتلفيقه الآن قدام شعوبه، وتنكشف كذبته وأسسه وجهوده الحثيثة ثقافيا في تصنيع رموز وأيقونات لامعة، حتى يخيل لنا أن ارتباطا ما يكمن بين تبني الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية وفرض عقيدة التثليث في عهد قسطنطين الأول التي لم يؤمن بها مسيحيو المشرق العربي؛ وانطلاقة الغرب في الإعلاء الشعاراتي والرمزي لصلب المسيح؛ وبين محاولة الغرب الحديث تحويل كل المقولات الإنسانية الكبرى لأيقونات مقدسة للإيهام والتوثين والتأليه، مثلما صنعت الجاهلية أصناما تمر تعبدها وحين الجوع تأكلها، كُشِفت الحرب العالمية على الإنسانية في غزة، وبانت عورة الرجل الأبيض في إمبراطوريات الإعلام المملوكة لأباطرة السياسة، والشركات العابرة ومراكز الدراسات؛ التي ربما لو أزيحت لصار العلم مباحا، وأصبحت قيم الحضارات قابلة للتداول، ولربما برزت دول العالم الثالث كأكثر الدول قيما وأخلاقا وأعادت الإنسانية إلى سكة العطاء والضمير وحضارة الخير والتكافل والتشارك.

في غزة تهشمت الصورة النمطية للغرب وللرجل الأبيض المتفوق أمام نفسه، والتي كشفها إريك فروم عن الغرب وشعوبه المدجنة، قبالة ذلك في جغرافيا شعوبنا المقهورة؛ تبدو الأنظمة ظلا لرغبة دولية في تدجين وتطويع الثقافة والتاريخ والذاكرة، استجابة لمجال كولونيالي يغزو مخيال كثيرين بين إغواء الغرب وقيمه البراقة، حيث الاستعمار الغربي ليس حقبة وانتهت بل ذهنية مازالت تسير على قدم وساق، في بلدان منكوبة تغط في الجهل والفقر لتبقى سوقا كومبرادورية للشركات العابرة، في حين أن دول الطوق تشكل حول الكيان الصهيوني طوقا يماثل حزام غزة لمنع شعوبها من نصرة من يذبح في العراء، وضمن كل هذا الأفق القاتم والسخام تتفتق الروح بمقاومة ما، قد تكون هوجاء، وحرونا، وعاتية، ولكنها ليست عابرة ولا مؤقتة يمثلها شعب فلسطين، وهنا ثالثة الأثافي التي تعيد الفلسطيني مهما أشغلته لقمة الخبز وميادين الدراسة في المهاجر إلى تراب قد لا يعرفه إلا في حكايا الجدات.

رغم كل جهود كتم الأفواه نجد تململا في الشارع الغربي من بورصة الدم الفلسطيني التي تسترخص قبالة دم الصهيوني، في بلاد مشغولة بالاحتفال بمهرجان الدم على أرض فلسطين

إن جرائم الاحتلال في غزة وسياسات دول الغرب التي دعمت جرائمها تلك، كشفت للمهاجر المندمج، زيف قيم الغرب وصنعت شرخا في منظوماتها التي انغمر كثير فيها؛ فبات في مواجهة صارخة بين ما تعلمه في المدراس والمؤسسات من قيم حقوق وعدالة وحقيقة ما يراه، لتنكشف مقولات إنسانية وقيمية كبرى وتتهاوى بلحظة واحدة، هنا ينكشف الغرب على عورة مركزيته، ويتحول إلى طرف متحيز لذاته وأدواته وراهنيته؛ ويغدو الشرق شرقا ويعيد المشرقي ترتيب أفكاره بما يوائم الكشف الجديد، ولعل جموعا مهاجرة لم تفلح في تعليم أطفالها معنى وطن بعيد؛ جاءتها البشرى من سياسات دول المهجر؛ لتعيدهم إلى حقيقة الافتراق بين عالمين بعنفوان الشباب في الصرخة، وتبني الحقيقة التي تحاول كل منظومة الإعلام تعميتها وكتمها.

يرتفع العلم الفلسطيني يحمله عرب وفلسطينيون وأجانب ليصبح عنوانا للتمرد على ذهنية المنظومة والنسق، ورغم كل جهود كتم الأفواه نجد تململا في الشارع الغربي من بورصة الدم الفلسطيني التي تسترخص قبالة دم الصهيوني، في بلاد مشغولة بالاحتفال بمهرجان الدم على أرض فلسطين إذ تصير حلبة مصارعة رومانية، يصلب يهوذا الأسخريوطي فيها فلسطين على جدران كنيسة القيامة، ويعلي الصهيوني جرحه كمسيح، ويصلي له كثير، غير أن الحلبة الرومانية كانت تجمع جمهورا يراقب بأم عينه الحقيقة ويصفق لمن يخطف قلوبهم، وخشية أن يظهر سبارتاكوس جديد يسقط جبروت الإمبراطور منعت وسائل إعلام الغرب نقل الحقيقة، مع كل هذا الركام وفي صرخة الطفل المستيقظ على الصاروخ والقنبلة ومع كل شهيد، سيكتب الفلسطيني خطبته الأخيرة وسيتلو شعب فلسطين البشارة.