icon
التغطية الحية

حي الفاتح في إسطنبول.. وجه دمشق وسوق سوري بمكان لا ينفصل فيه التاريخ

2021.06.30 | 06:07 دمشق

latnlatnla.jpg
إسطنبول - رهام بحري
+A
حجم الخط
-A

يتساءل زوار مدينة إسطنبول التي تتوسط القارتين الأوروبية والآسيوية عندما تزور حي الفاتح الذي تحيط به شبه الجزيرة القسطنطينية ويأتيه القرن الذهبي شمالا وبحر مرمرة جنوبا؛ ماذا يفعل وجه دمشق هنا وسط هذا الحي التركي؟ وما الذي جعل شوارعه تنبض بالسوريين؟ بحضور تجاري لافت تماثلت فيه الثقافة السورية مع الحياة التركية فغدا السوريون والعرب يديمون وصال هذا الفاتح.

يستحضر السوريون عادات وطنهم وأسلوب حياتهم في قلب إسطنبول، فتجدهم على اختلاف وتنوع المحافظات السورية يعيدون إنتاج مواد غذائية اشتهرت بها كل محافظة ومطاعم افتتحت بالأسماء والمذاق نفسه لتجد أمامك طابوراً على مقربة من مطعم "بوز الجدي" الذي يقدم مأكولات شامية استنسخ منه أصحابه نمطاً مماثلاً لما كان في دمشق، وبات قبلة السوريين والسياح عند زيارتهم لإسطنبول.

طغت لغة الضاد على لافتات المطاعم والمقاهي السورية في كل أنحاء الفاتح وتمكن أصحاب المحال عبر المطاعم أن يخلقوا بيئة سورية متنوعة تقدم أطباقاً عديدة دمشقية وحلبية وديرية وحمصية وغيرها، مثل مطعم "بيت ورد" الذي يتفرد في الحي بتقديم الكباب الديري، أو "ساروجة" الذي يشتهر بإعداد الكبة الشامية، وهنالك تجد المامونية الحلبية و"حلويات السلطان" وتتذوق حلاوة جبن حموية وسط تجمع عربي لافت وحضور تركي خجول.

وبناء عليه يبادرك السؤال: كيف استطاع السوريون تطبيع هذا الحي بهويتهم؟

"طلعة الأمنيات" أو شارع "آق شمس الدين".. التاريخ لا ينفصل

تتعالى أصوات الباعة باللهجة السورية وسط الحي على وقع موسيقا عربية، مستقبلين الزبائن بابتسامة عريضة لاسيما في صالات الحلاقة الرجالية المنتشرة بين المطاعم والمقاهي السورية في "طلعة الأمنيات"، وهو شارع أطلق عليه السوريون هذه التسمية لأنه منحدر يبدأ من مبنى "الأمنيات" وينتهي عند بوابة مسجد الفاتح، إلا أن اسمه "Akşemsettin" وبالعربية شارع "آق شمس الدين" وهو محمد شمس الدين بن حمزة، ويعرف بآق شمس الدين، ووفقا لما قاله المؤرخ محمد حرب، فإن الرجل يتصل نسبه للخليفة الأول أبي بكر الصديق، ولد في دمشق عام 792هـ/1389م، ويعد الفاتح المعنوي للقسطنطينية لكونه كان معلم محمد الفاتح.

حفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة، ودرس في أماسيا ثم حلب ثم أنقرة.

هاجر شمس الدين مع والده من دمشق أثناء هجمات المغول وتلقى تعليمه في بلدة أماسيا على البحر الأسود ثم صار معلما للسلطان محمد الفاتح ودفعه لفتح القسطنطينية.

كانت بداية علاقة شمس الدين بمحمد بن مراد، عندما طلب السلطان الأب مراد الثاني من الشيخ حاجي بايرام أن يرشح له أحد العلماء ليكون مربيا ومؤدبا لولده محمد على عادة سلاطين الدولة العثمانية، فرشح له آق شمس الدين، أحد أبرز الأسماء التي أسهمت في تكوين شخصية محمد الفاتح.

وعلم شمس الدين محمد الفاتح عددا من العلوم الإسلامية واللغات التي يتكلم بها المسلمون (العربية، الفارسية، والتركية) والرياضيات والعلوم العسكرية والفلك والتاريخ.

وبحسب وكالة الأناضول، "كان لخطب آق شمس الدين أثر بالغ في نفس السلطان ونفوس الجند لتحفيزهم على الاستمرار في محاولة الفتح خلال الظروف العصيبة التي مر بها العثمانيون أثناء حصار القسطنطينية.. طوال هذه الفترة، كان آق شمس الدين يغرس في محمد حلما عظيما للمسلمين، وهو فتح القسطنطينية، ويسرد على أسماعه حديثا نبويا يتضمن نبوءة بفتح هذه المدينة (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، ويقنعه بأنه ذلك الأمير الذي يحقق حلم المسلمين، حتى كبر محمد، وتعاظم في نفسه ذلك الحلم".

ربما لا يعلم معظم السوريين هذه المفارقة التاريخية، حيث أصبح الشارع الذي يحمل اسم أهم شخصية سورية في أهم حقبة في التاريخ العثماني مكاناً رئيسياً لهم.

وإلى جانب المحال التجارية والمطاعم والمقاهي السورية تنتشر مراكز التجميل النسائية في شارع "أكدنيز" الموازي لشارع "Akşemsettin - آق شمس الدين".

يفكر سوريون بالانتقال من منازلهم في حي الفاتح بحثاً عن مكان أقل ازدحاما وأكثر هدوءا لكن تلك "الروح" التي دبت في المكان تجعلهم يترددون في الانتقال.

إبعاد شبح الغربة

لا تغيب أجواء العيد وطقوس شهر رمضان في الفاتح، فعندما تشاهد اكتظاظ الناس بالمحال منتظرين دورهم لشراء الحلويات من المحال المتلاصقة على غرار سوق الجزماتية في دمشق، تغلبك الحيرة من أين يمكن أن تشتري التمر الهندي والعرق سوس والناعم، وهي أصناف أساسية حاضرة على الموائد الرمضانية السورية.

هيمنت ثقافة المطبخ السوري على الحي وبالرغم من أن الأتراك لا يستسيغون فكرة تجربة الطعام غير التركي إلا أنهم أصبحوا يقصدون الحي لتناول الفلافل السورية، بحسب ما أكده عدد من أصحاب المطاعم.

 

 

وأوضح عدد من سكان الحي السوريين لموقع تلفزيون سوريا أنه قبل عام 2015، لم يكن حي الفاتح كما هو عليه الآن فقد اختاره القسم الأكبر من السوريين للعيش فيه على اختلاف توزعهم في إسطنبول، إلا أن الحي أصبح أحد أكبر تجمعات السوريين في إسطنبول ويقدرون نسبتهم بـ 60 - 70% من سكان الحي في الوقت الحالي.

بلغ عدد السوريين في تركيا بحسب آخر الإحصاءات الرسمية الـ 3 ملايين و645 ألفاً بينهم 519 ألفاً في مدينة إسطنبول. الأعداد الكبيرة ونجاح السوريين في التغلب على التحديات كانا السببين الرئيسين في ظهور سوق رائد ما انعكس على كل القطاعات التجارية التي تلبي احتياجات السوريين وأذواقهم، وخلق فرص عمل كانت مفقودة.

هذه الحركة الاقتصادية لا تقتصر جغرافياً في الحي الكبير على "طلعة الأمنيات" بل تمتد حتى سوق مالطة المحاذي لجامع الفاتح والذي بات يعرف بسوق السوريين، ففيه كل أنواع المحلات التجارية مثل محال المجوهرات والتوابل وأفران الخبز السوري وغيرها.

كأنها دمشق

روح المكان وتوزعه الجغرافي وأصوات الباعة والعمال والزبائن تجعل السوريين يشبهون الحي بقلب دمشق، فشارع فوزي باشا الذي تباع فيه ألبسة المحجبات وفساتين الأعراس تجده أشبه بالجسر الأبيض في دمشق، وبات شارع Akşemsettin - آق شمس الدين أشبه بحي الصالحية الدمشقي الشهير وجامع الفاتح كأنه المسجد الأموي.

وهناك حصة للمطالعة والقراءة توفرها مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، والتي باتت ملتقى ثقافياً للسوريين والعرب على حد سواء، ومتجرا لبيع الكتب من مختلف المشارب الفكرية والثقافية.

 

 

ملتقى للسوريين وآخر للسياح

صارت محال السوريين عناوين للقادمين إلى إسطنبول من بلاد اللجوء وبعض البلدان العربية، وستجد أسماء مطاعم سورية لها سمعتها وزبائنها مثل حلويات سلورة بنكهة محافظة حماة ومأكولات طيبة بطابعها الحلبي.

ولا تنطفئ أضواء المحال والمطاعم السورية باكراً كما تفعل معظم أسواق إسطنبول الأخرى، لتكون بذلك خياراً مناسباً للجائعين في وقت متأخر. مكان تسمع بين جنباته اللهجات العربية والسورية خصوصاً في هدوء الليل وضجيج الصباح.

الزي الشامي حاضر.. الحفاظ على التراث والهوية

يغص مطعم بوز الجدي بالزوار الذين ينتظرون دورهم لتذوق الفتة الشامية والفول والخبز المحضر على التنور، وهي عادات سورية أصيلة يكملها لباس العاملين بالمطعم الذين يرتدون الزي الشعبي المؤلف من شروال مزركش وقطعة قماش متمثلة بالفلكلور السوري، في سعي لعودة الجذور والأصالة والتاريخ السوري.

فرص عمل وبيئة مماثلة للسوريين

لا شك أن الحصول على عمل في إسطنبول وسط الحالة التنافسية بين العرب والأتراك أمر صعب نوعا ما، لكن السوريين وجدوا في افتتاح هذه المحال الخاصة بهم أثرا إيجابيا على السوريين، ليس فقط في نشر ثقافتهم، بل ساهمت المحال بتشغيل عدد كبير من الشباب السوري عبر فرص متعددة.

ومن الناحية الروحية يتسم حي الفاتح بطابع إسلامي محافظ وقريب من بيئة معظم سكانه السوريين، وهي حالة مميزة قد لا تكون في باقي أحياء المدينة الكبيرة.

وفي حي الفاتح يجد السوريون السكينة لا سيما عندما تصدح أصوات الأذان في كل من جامعي الفاتح والخرقة الشريفة وترى كبار السن يجتمعون في صلاة الجمعة والشبان يلتقون أبناء جلدتهم في أيام العطلة كعادتهم في بلدهم.

المشهد الاقتصادي المتغير

شهد حي الفاتح تحولات على الصعيد التجاري، ففي السابق كانت فيه محال تركية فقط إلا أن توافد السوريين منذ أكثر من سبعة أعوام جعل من حركته التجارية تحولات لافتة وخاصة في الآونة الأخيرة، والتوسع المستمر في الأسواق الممتلئة بالبضائع السورية القادمة عبر ميناء مرسين لتنتشر في كل بقاع إسطنبول.

تغيرات اقتصادية تمر بها إسطنبول تشهد انتعاشا تزداد وتيرته برغم ارتفاع الإيجارات من قبل الملاك مما يفرض على أصحاب المحال بعض التحديات، تزيلها رائحة الشاورما الشامية والزعتر الحلبي والقشطة الحموية لتضفي عليك نكهة وطن تستعيد من خلالها الزمن الجميل الذي يفتقده كثير من السوريين بسبب ويلات الحرب ومآلاتها.