حين بكت الخالة تعاطفا مع أنا كارينينا

2020.09.05 | 00:05 دمشق

anna-karenina-movie-wallpapers-3-1024x768.jpg
+A
حجم الخط
-A

المرأة الثالثة التي لعبت في حياة الصبي دورا هائلا كانت خالته الوحيدة: رجاء. كانت رجاء سيدة فاتنة، فاتحة البشرة عسلية العينين، نشيطة، دؤوبة الحركة، وعلى عكس أمّ الصبي التي كانت تزن كلماتها وحركاتها، كانت رجاء عصبية المزاج، تضحك بسرعة وتغضب بسرعة، وجيدة الحديث فتمضي في سرد الحكايات ساعة دون أن يشعر محدِّثوها بالملل.

كانت صبية في أوائل عقدها الثالث حين ماتت أختها نادية وهي تلد آخر أولادها الستة: طفلة نحيلة سمراء سيسميها أبوها "حكم"، بسبب وفاة أمّها أثناء الولادة. وحيدا مع ستة أولاد، بينهما رضيعة، شعر الأب بيأس، وهو يدفن زوجته ويرى إلى أولاده الستة. ثلاثة صبيان وثلاث بنات، كان أكبرهم في العاشرة، وأصغرهم بعمر يوم واحد. ولا يعرف الصبي إن كانت الفكرةُ قد خطرت على بال الأب أم أن الخالة هي من بادرت إليها، غير أن الأب عقد قرانه على الخالة في أيام، وانتقلت رجاء إلى بيت أختها الراحلة لتحمل عبء تربية ستة أولاد، إضافة إلى ولد سابع ستلده هي بعد سنة.

حكاية بيت الخالة رجاء تروي فصلا من التغيّر الذي شهدته مدينة حمص في الستينات. كان البيت عبارة عن غرفة كبيرة مقسمة بستارة إلى نصفين: داخلي وخارجي.  في القسم الداخلي، بُنيت سقيفة خشبية، كانت الفتيات ينمن فوقها، بينما ينام الصبية في نصف الغرفة الداخلي. خارج الغرفة مطبخ صغير يطل على منور ضيّق، ثمّ دهليز يؤدّي إلى باب الدار الحديدي الأسود. فوق الدهليز، عليّة صغيرة كانت غرفة نوم الخالة وزوجها، يصعدان إليها على سلّم خشبي. كان زوج الخالة يعمل بائع فخّار، وعنده دكان في شارع باب هود، وكان يكاد يسدّ رمق عيش أولاده وزوجته.  وتعطي عائلته صورة واضحة عن الطبقة المتوسّطة الدنيا من المجتمع الحمصي.  يذكر الصبي أن الأولاد كانوا يشربون الشاي من أقداح من الألمنيوم، ويتناولونه في وجبتي الإفطار والعشاء مع الخبز الحمصي المشروح واللبن المصفى أو الزيتون أو الزيت والزعتر: لون واحد من الطعام على الأرجح. وجبة الغداء كانت أيضا من لون واحد، وبقليل من اللحم أو من دون لحم على الإطلاق.

كانت العائلة الحمصية من الطبقة الوسطة تشتري اللحم مرّة أو مرّتين في الأسبوع. وغالبا ما كانت أمّ الصبي ترسله مع ليرة سورية واحدة وعشرة قروش إلى اللحام ليشتري أوقية لحمة. وعلى عكس كلّ المحافظات السورية، الأوقية الحمصية 250 غراما.  وكان يذهب أيضا إلى البقال أبو بدر ليشتري أوقية لبن، أو إلى بائع القهوة، فوزي الأتاسي، في شارع شكري القوتلي، ليشتري نصف أوقية بن. وقد يكون السبب في ذلك أن كثيرا من البيوت في الستينات لم يكن فيها ثلاجة. ويذكر الصبي أنه كثيرا ما كان يصعد إلى البيت بطلب من أحد جيرانه ليعود إليه بقالب ثلج من ثلاجتهم.

لم تكن الحياة كريمة جدا مع الحماصنة إذن، وبالتأكيد مع خالة الصبي وأسرتها الجديدة. ومع ذلك، كان الصبي يجد متعة هائلة في زيارة بيت خالته.  وستبقى هذه المتعة في ذاكرته سنوات وسنوات، وهو حتى اللحظة يستعيد ليلة بعينها، كان فيها في نصف الغرفة الداخلية، يلعب مع بنات خالته الثلاث لعبة "بصّة نار" التي فيها جري وصراخ، بينما تجلس أمه وخالته وضيفات أخريات في النصف الأمامي، وهن يتحدثّن بصوت عال.

إلى ذلك، كانت رجاء قارئة نهمة، وفي زمن لم يكن التلفزيون قد حل كلّ بيت في المدينة، كانت رجاء تجد الوقت الكافي لتقرأ روايات رفاييل ساباتيني والبارونة أوركْزي وألكسندر دماس الأب. غير أنها كانت في أحيان كثيرة تقرأ روايات من طراز آخر، ويذكر الصغير وكأنه بالأمس حين روت الخالة لضيفاتها، وكان الصغير موجودا بينهن، ملخّصا لرواية آنا كارينينا لليو تولستوي، وينقبض قلبه وهو يذكر دموعها تجري على خدّيها حين وصلت إلى حين يحرم أليكسي كارينين زوجته آنا من رؤية ابنهما عقوبة لها على إقامة علاقة خارج إطار الزوجية مع الكونت فرونسكي.  وستكون طريقة الخالة الحميمية في رواية القصة سببا في استعارة الصبي الرواية من خالته ليقرأها، ولن يتأثر بها كما تأثر سابقا بروايات "حكم الرعاع" لساباتيني أو "الزهرة القرمزية" للبارونة أوركزي، اللتين ستشكلان في وقت مبكر لديه موقفا سلبيا من الثورة الفرنسية، وستجعله بعد عقود كثيرة يكرّر مرارا: "الثورة شرّ لا بدّ منه أحيانا".

ولكن الصبي الذي كبر سيفكر كثيرا في موقف خالته من الرواية ومن بطلتها. فآنا خائنة في عرف أي مجتمع محافظ، ولكن الخالة لم ترَ فيها الخيانة، بل رأت فيها العشق الجميل، ولا يدري الصغير إن كانت الخالة قد وضعت نفسها في مكان آنا، ولكنه سيتعجّب كثيرا – لاحقا – كم كانت خالته تقدمية في فكرها في تلك الأيام.

كانت الخالة تضع على رأسها إيشاربا تغطي به بعضا من شعرها فقط، وتلبس في الصيف معطفا صيفيا خفيفا يكشف عن ساقيها وجزء من ساعديها. وبناتها الثلاث كنّ يخرجن في الشارع بتنّورات قصيرة وبلوزات بـ "ثلاثة أرباع الكُم" ويرمين على شعرهن بإهمال إيشاربا رقيقا يكشف أكثر ما كان يستر من شعرهن.  ولكنّ هذا كلّه سوف يتغيّر تدريجيا، ففي السبعينات، سيتحوّل الإيشارب الملون الميل إلى حجاب "شرعي" يغطي كلّ الشعر والرقبة، وستختفي الأكمام القصيرة والتنّورات الجميلة القصيرة التي كان البنات يرتدينها من دون جوارب، لتحلّ ملحّها معاطف طويلة أو بنطلونات عريضة. بل إن إحداهن سترتدي جلبابا، وتمتنع عن مصافحة الصبي الذي كبر بينهن ولعب معهن وشعر بهن، وروين له أسرارهن وروى لهن أسراره... أو كاد يفعل. ومع ذلك ستتمرّد الكبرى بينهن، فلا تضع الحجاب، ولا تغيّر كثيرا من لباسها. وفي بلد كانت فيه كلّ العادات والقيم تتغيّر تدريجيا، بقيت هي تتحدّى الجميع، وكاد ذلك في يوم أن يكلّفها حياتها.

زوج خالته، أبو خالد، كان أيضا قارئا نهما، يقرأ كلّ ما يقع تحت يديه. ولكنه كان يفضَل كتب التاريخ، ومن بينها كان مغرما بكتاب "تاريخ قيام وسقوط الرايخ الثالث" لويليام شيرر. وكان يحبّ كثيرا أن يتحدّث عنه. وفي الحقيقة كان متحدّثا ماهرا، وحين كان يعود مساء إلى البيت، كان يحدّث زوجته خالتي بكل قصص السوق، ثمّ لا بدّ أن يعرّج على كتاب تاريخ الرايخ. ويذكر الصغير أن أمّه كانت تشعر بنوع من الأسف لأن أباه لم يكن يتحدّث كثيرا في البيت، كصهرها.  وحين يكون أبو خالد رائث المزاج وقد باع بيعة لا بأس بها، فإنه يعطي الصغير حصالة من الفخار، نادرا ما كان يضع فيه أي قرش.

وكان لدى خالته وزوجها مكتبة تختلف عن مكتبة بيت الصغير، فينما كانت مكتبة والده تحتوي كتبا كبيرة ومجلدة تجليدا فنيا بأغلفة سميكة، كانت مكتبة خالته تحتوي على روايات الجيب وروايات الهلال، وكانت جميعها مغلفة بأغلفة ورقية من أوراق الصرّ، تقيها التمزّق من كثرة الاستعمال.  

بعد مكتبة أبو محمود التي كانت مجاورة لبيته، ستكون مكتبة الخالة المصدر الثاني للاستعارة، وحين سيقرأ كلّ الكتب التي فيها، سيخرج من الحارة باحثا عن مصدر جديد للكتاب، وحينئذ سيتعرف على محمد وممدوح، بائعَي الكتب، الأخوين، المتخالفين، اللذَين كانا يبيعان الكتب على سور حديقة الدبابير في وسط المدينة. ولكن تلك حكاية أخرى.

كلمات مفتاحية