حول صفقة إجلاء الرعايا السوريين من السودان

2023.04.29 | 06:50 دمشق

حول صفقة إجلاء الرعايا السوريين من السودان..
+A
حجم الخط
-A

بصفاقته المعهودة، لم يتردد نظام الأسد في الحديث عن قضية إجلاء الرعايا السوريين الموجودين في السودان لإبعادهم عن الحرب التي اشتعلت هناك منذ نحو أسبوعين.

يتناول النظام موضوع إجلاء الرعايا كما لو أن سوريا التي يسيطر عليها -بحكم الأمر الواقع- واحدة من تلك الدول المستقرة والمتطورة الحريصة فعلاً على مواطنيها ليضع نفسه في موازاة تلك الدول، متناسياً -عن عمد- كل العوامل الموضوعية التي تصبغ على فكرة إجلاء الرعايا السوريين من السودان طابعاً كاريكاتورياً بسبب عمق الهوة بين الواقع السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي في سوريا والصورة المتخيلة التي يرسمها النظام لنفسه مع عجزه الكامل عن ردم تلك الهوة بين الواقعين الموضوعي والمتخيل.

وقبل أن يتناول النظام موضوع الرعايا، كان عليه أن يتذكر الفوارق الكبيرة والاختلافات الجوهرية بين رعاياه ورعايا الآخرين، وربما كان على رأس تلك الاختلافات أن رعايا الدول الأخرى المقيمين في السودان، اختاروا طوعاً أن يعيشوا هناك بسبب مصالحهم وأعمالهم، وليس لأنهم مجبرون، وليس لأنهم هاربون من أنظمة بلدانهم سواء لأسباب سياسية أو أمنية أو اقتصادية.

إن اضطرار السوريين للجوء إلى السودان هو بحد ذاته دليل على ما آلت إليه سوريا الأسد، التي أجبرت السوريين للبحث عن أي ملاذ شبه آمن

يتناسى نظام الأسد أن السوريين الموجودين في السودان ليسوا رعاياه، وليسوا مواطنيه، بل هم فئة من المهجرين طوعاً أو كرهاً والذين ذهبوا إلى السودان لانعدام فرص الحياة في سوريا وانعدام فرص اللجوء إلى البلدان الأخرى أيضاً، فالسودان قبل الحرب لم تكن دولة مثالية أو دولة صالحة للجوء أو للسكن أو حتى للعمل، ولم تكن حلماً أو اختياراً حراً لمن لجأ إليها، فمن اختار السودان ليقيم فيها لا بد أن يكون قد استنفذ كل فرص السفر والإقامة في أية دولة لديها المقومات المعقولة للحياة.

إن اضطرار السوريين للجوء إلى السودان هو بحد ذاته دليل على ما آلت إليه سوريا الأسد، التي أجبرت السوريين للبحث عن أي ملاذ شبه آمن، بصرف النظر عن فرص العمل وبصرف النظر عن وجود المناخ الاجتماعي الذي يبحث عنه السوري أينما حل كبديل عن الحالة الاجتماعية التي كان يعيشها في بلده، فالسودان ليست تركيا، وليست مصر وليست الأردن، أي ليست البديل الاجتماعي الذي يدفع بالسوري لاختياره مكاناً للإقامة أو اللجوء.

فضلاً عن ذلك، فثمة ملايين السوريين الذين لا يزالون يفضلون العيش في الخيام عن العيش في سوريا الأسد حتى بعد أن انتهت "الحرب".

معظم السوريين الموجودين في السودان هم إما معارضون للنظام أو من الصناعيين والتجار أو رجال الأعمال الصامتين الهاربين من جحيم النظام ومن الحالة العدمية التي تسيطر على سوريا، أو هم مواطنون عاديون اختاروا أن يكونوا في أية بقعة أخرى من الأرض باستثناء أن يبقوا في سوريا، كما أن بعضهم موالون للنظام ومع ذلك لم يستطيعوا احتمال الحياة في سوريا، وتلك مفارقة أخرى.

ربما كان الرعايا الأساسيون الذين يقصدهم النظام من ضمن أكثر من ثلاثين ألف سوري يعيشون في السودان هم فقط بضعة أشخاص عاملين في السلك الدبلوماسي أو مرتبطين بالأجهزة الأمنية، أو هم المخبرون الذين يتجسسون على السوريين هناك ويكتبون التقارير التي ستقودهم إلى المعتقلات في حال قرروا العودة إلى سوريا.

كما يتناسى النظام من ناحية أخرى، أن علاقته برعاياه ليست بحال من الأحوال، ولم تكن يوماً، علاقة مواطن بدولة، ذلك الواقع بدأ منذ استلام آل الأسد للسلطة في سوريا، ولكننا قبل الثورة كان بمقدورنا الحديث عن شبه دولة وشبه مواطن وما يشبه المواطنة، ولكن بعد العام ٢٠١١، حوّل النظام شبه الدولة تلك إلى عصابة مافيا وحوّل شبه المواطنين إلى مجرد عبيد ليس لديهم مهمة سوى تمجيد العصابة، أعلن نظام الأسد ذلك دون استحياء، وهو اليوم يحاول إعادة تكريس تلك العصابة على أنها الدولة مستعيناً بشهادات الزور القادمة من أشباهه من العصابات والمافيات العربية التي تسعى لإعادة تدويره والتطبيع مع فكرة العصابة/ الدولة، الأمر الذي ينسجم تماماً مع سياسات تلك الدول.

هل اهتم النظام لإجلاء رعاياه من تركيا وقت الزلزال أو الوقوف إلى جانبهم ولو على المستوى المعنوي أو الإعلامي؟

هل اهتم النظام لإجلاء رعاياه في المخيمات وهم يعانون أخطاراً لا تقل عن الأخطار المحدقة بالرعايا السوريين الموجودين في السودان؟

هل اهتم النظام لملايين الأطفال الذين يعيشون في المخيمات دون تعليم أو أدنى حق من حقوق الطفولة؟ وهل يهتم لرعاياه من السوريين اللاجئين في لبنان ويعانون أقصى درجات العنصرية من الحكومة اللبنانية ومن بعض اللبنانيين المتشددين أيضاً ومن المستأسدين على البسطاء من السوريين الذين لا حول لهم ولا قوة رغم كل ما يمتلكه النظام من سلطة في لبنان؟

ولكن السؤال الأهم: هل يهتم النظام لرعاياه الموجودين أصلاً في سوريا بمن فيهم أتباعه ومؤيدوه؟

لقد انتهت حرب النظام العسكرية على الشعب السوري، ولكن معركته الأمنية والاستخبارية، وكذلك حربه الاقتصادية ما تزال في ذروتها، وما يزال خطر الشبيحة والمخبرين وأتباع السلطة على السوريين في الداخل أقسى بما لا يقارن من قذيفة طائشة في السودان، وما يزال وقع الإحساس بالعبودية لدى السوريين أقوى من المدافع والصواريخ، وما تزال سرقة المواطنين واضطهادهم جهاراً تجعل من فكرة الهروب إلى السودان حلماً للكثيرين رغم الحرب الدائرة هناك.

يريد النظام استثمار الحرب في السودان للتأكيد على أنه دولة، وعلى أن لدى تلك الدولة شعوراً بالمسؤولية تجاه مواطنيها، كما أن لديها إحساساً إنسانياً عالياً يدفعها إلى التدخل السريع لإبعاد مواطنيها عن مكمن الخطر، وفي هذا السياق تعود الصورة الكاريكاتورية للنظام إلى الواجهة، فهل سمح النظام بإجلاء السوريين عندما كان يقصفهم بنفسه، ولماذا اعتقل كل من ساعد في تقديم الطعام أو الدواء لمن قام هو بنفسه بحصارهم وترويعهم وتدمير مدنهم وقراهم واعتبره إرهابياً؟ أين كانت إنسانية النظام حينما قتل عشرات الآلاف تحت التعذيب؟ وأين كانت تلك الإنسانية حينما روّع النظام وأجهزته الأمنية كل من أسهم بالتوقيع على بيان الحليب أثناء حصار درعا في بداية الثورة، واعتقل الكثيرين منهم؟

ربما يفضل العالقون هناك البقاء في جحيم السودان على العودة إلى جحيم الأسد، أما الطائرة التي ستحمل رعايا النظام، فلن يكون على متنها سوى حفنة من المخبرين

إن من يقصف شعبه ويحاصره ويقتل مئات الآلاف ويهجر الملايين لن يستطيع إقناع الناس بأنه حريص على بضعة آلاف سوري في السودان، وكل ما يفعله النظام في هذا الإطار لا يعدو عن كونه أكذوبة مفضوحة لا تختلف عن أكذوبة إنكار المظاهرات واعتبارها تجمعاً من السوريين يشكر الله على نعمة المطر، وهي دفعة أخرى من التلفيق والادعاء تزيد من رصيد النظام في الكذب رغم ضخامة ذلك الرصيد، بل نستطيع القول إن الكذب هو الثروة الوحيدة في رصيد النظام إن استثنينا ثروة الكبتاجون.

لن يتردد النظام في الانتقام من السوريين الموجودين في السودان، ولن يتردد في إذلالهم رغم ظروف الحرب هناك، ولربما يفضل العالقون هناك البقاء في جحيم السودان على العودة إلى جحيم الأسد، أما الطائرة التي ستحمل رعايا النظام، فلن يكون على متنها سوى حفنة من المخبرين.

إن صفقة إجلاء الرعايا السوريين من السودان تم توقيعها بين النظام ونفسه، هي صفقة كلام معسول لا أصل لها حتى على الورق، حيث لا يوفر النظام حدثاً إلا ويحاول الاستثمار فيه، وهو في الوقت الحالي بحاجة ماسة إلى الاستثمار في الشأن الإنساني، وهذا كل ما يهم نظام الأسد من الحرب الدائرة في السودان.