حنظلة

2021.05.25 | 06:01 دمشق

hanzalah-naji-alaali.jpg
+A
حجم الخط
-A

 

«ماذا يضيرك أن تُفارقَ أمّةً

ليست سوى خطأ من الأخطاءِ»

أحمد مطر، شاعر عراقي

 

التغريب في اللغة هو النفي عن الوطن. وعندما يخرج المرء من وطنه يدير ظهره للمكان، فالتغريب يجسد الهجرة عن الأرض ليبدو أن الإنسان قد انفصل عن ذاته وعن العالم، لكن ليس عن ذاكرته. ومن بين ذلك، أي بين الانفصال وتحريضات الذاكرة يطل علينا الفنّ، ليعبر عن تلك القضية، وذلك الارتباط الروحي بالمكان كما يرتبط الملح بالبحر.

ورغم الملوحة، فإن الفنّ يحتمل السخرية لا سيّما إن كان من فنان مجروح في ذاته، يفضل أن يظّل حارساً للذاكرة. وهذا الوقوف على الحدث ليس تلصُّصاً، بل مجاهرةً، وإن كان يدير ظهره لنا مثلما فعل حنظلة بشعره الواقف من هول ما رآه، وبيديه المربوطتين إلى الخلف يتفرج على وطنه، يسجّل ويدوّن دون أن نرى عينيه، لأن صاحبه ناجي العلي أراد أن يجعله كذلك، وهذا ليس جزافاً، إنّه الحسّ الفنّي والحدث الذين تعانقا في وجدان الرسام، فأنتج حالة يصعب نسيانها حيث البصر مشدوداً إلى حنظلة رغم صغر سنه.

إن ذلك الطفل لم يكن غريباً أو شخصية متخيلة. بل هو ناجي الصغير الذي خرج من بيته إلى المخيم والمنفى، يراقب كل حدث طوال الوقت ويخزنه في ذاكرته. ورغم الصمت الذي يسوده القلق والحزن على الطريق المعتم والطفولة الكئيبة والشباب القاسي، مع ذلك استدعى السخرية والهُزء منه بما يحتمله فن الكاريكاتير من تضخيم وتهويل قادم من الأصل الإيطالي Caricare التي تعني «يحمَّل مالا يطيق». فكانت السخرية لدى ناجي كأبلغ تصوير للحدث الضخم في أصله، مكتفياً بالسهل من المتطلب الفنّي، وبأسلوبه البسيط دلّ إلى فلسطين وما وصلت إليه، كأن الكل يعرفها فلا حاجة ليشرح عنها، وإن تطلب الأمر، علّق باللهجة الفلسطينية التي وصلت إلى كل بقاع العالم.

إن الخطاب والرسالة من غايات الفنّ. وقد تبلور الكاريكاتير كفن مستقل بذاته منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر كما يقول ممدوح حمادة (فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة، ١٩٩٩) وكان هذا الفن مركباً من عنصري التشكيل والكوميديا أو السخرية. وقد انتشرت السخرية مع أزمات العصر وما فيها من فساد أنظمة وويلات الاستعمار.

لم يتكلم حنظلة كشاعر. لأنه وجه الحقيقة بلا وجه، فلا تحتاج للبلاغة. فكان يضع حنظلة حارساً على الموقف ليشهد على المسوخ التي كان ينظر إليها

اشتهر في العالم العربي بعد خمسينات القرن الماضي كنقد لاذع، ليس هدفه إثارة الدعابة لما فيه من قتامة الوضع الراهن من قهر وتسلط، بل لمواجهة ذلك المصير الأسود بأسلوب تهكمي، كنوع من الهجاء الشعري، لكنه هجاء تصريح يتناول الواقع بشكل مباشر.

لم يتكلم حنظلة كشاعر. لأنه وجه الحقيقة بلا وجه، فلا تحتاج للبلاغة. فكان يضع حنظلة حارساً على الموقف ليشهد على المسوخ التي كان ينظر إليها، وما أكثرها من حوله، تلك التي اختطفت وجه حنظلة ليغدو طفلاً مبحراً في التيه، ومن يكن في التيه لا تُعرف ملامح وجهه، كوجه فلسطين عندما رسمها تخرج من البحر وتطفو على سطح الماء، وبكتفيها العريضتين صارت حورية تستر ملامحها بالخمار، إحالة إلى الهوية التي نمت لها جذوراً في البحر، فأصبحت عائمة كالقضية الفلسطينية.

لكن حنظلة كان يحمل بيده قلماً ساخراً له منفعة. فالسخرية وحسب التعريف الديكارتي تأخذ العيوب بطريقة نافعة وتجعلها كأمور مضحكة، فيها من الاستهزاء والفرح الممزوجين بالكراهية للواقع الذي يتكرر بطريقة ساذجة. وإذا كانت محاولة ألفرد أدلر الطبيب النمساوي، إرجاع السخرية إلى انفعال مركب للغرائز البسيطة، وتتركب كخليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز، فإن هذا ما يفسره حنظلة بظهره الذي يديره لنا ليقول: إن الواقع يتكرر بسخرية تدعو إلى الاشمئزاز. ما يجعلنا بدورنا نشعر بالغضب، إننا مثله واقفين نتفرج معه، فلا نكاد نضحك على أنفسنا، ولا على الرسم الساخر، لأنه ثمة إبادة خلف تلك السخرية، فالفلسطينيون الناجون ومنهم حنظلة قادمون من الإبادة (جيل دولوز، المزعجون) وهذه الإبادة لا تستدعي الضحك في النفس، بل الوجوم، وكأننا غير موجودين على الإطلاق وبعيدين كل البعد عن مصائرنا. ذلك ما يبعث في حنظلة صوتا حزينا قادما من أرض البرتقال، جاء على لسان بطل غسان كنفاني قائلاً «كنتم مكومين هناك ... بعيدين عن طفولتكم كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال».

إن تلك الحمّة لم تكتفِ بالحنين إلى الأرض. بل كان لها وعي سياسي خالص، حدس ثوري نما في حس ناجي العلي مع الوقت وهو يتحدث مع حنظلة «مقالك اليوم عن الديمقراطية عجبني كثير... شو عمتكتب لبكرة؟ عمبكتب وصيّتي!» وقد تغذت تلك الحمة بالحرية والديمقراطية التي سبقته إلى القبر، كالحالة العربية، حيث الموت هناك ينتظره صامتاً مثل رسوماته التي اكتنزت بالإنكار أكثر من مجرد السخرية السياسية والاجتماعية، إنه النقد اللاذع المصوب بشدة على التسلط، الصفة التي عرف بها ناجي العلي كإنسان عادي وفي قوله «لا» لكل شيء. لذا إن حنظلة شخصية روائية، لا تقل مكانة عن شخصيات غسان كنفاني، لكنها كانت أكثر شاعرية. صحيح أن ناجي العلي لم يكن شاعراً بالمعنى الحرفي للشاعرية، لكنه كان يرسم لشعراء فلسطين، وكان يلحن لهم الموال الكاريكاتيري على شكل قصيدة بكماء.

كان بوده لو رسم بالأسود على جدران البيت الأبيض، كي يشير إلى تلك العلاقة بين المصالح الأميركية وإسرائيل والحكومات العربية

إنه صديق الشعراء والأدباء من مريد البرغوثي إلى محمود درويش، وأحمد مطر، وتقاسم معهم كل هذه الرحلة الطويلة على جدران المخيمات والعواصم العربية والأجنبية وكذلك الصحف والجرائد التي اشتغلوا بها، وتشارك معهم على صفحاتها «حنظلة» الذي ظهر حاداً لا يقبل الجدال، ليس لأنه لاجئ فقط، بل لأنه كان معجباً بالمسيح مثل البرغوثي ودرويش، فالمسيح رمزاً للتضحية والجد، لكن واقع المسيح كان يدعو للاستهزاء على طريقة أحمد مطر، فاستوقف حنظلة بجدية فوق الخراب وأمام الكاريكاتير الذي يهزأ من كل شيء، حتى على تمثال الحرية في منهاتن بعدما نزع وجهه الأنثوي في أحد رسوماته، ووضع مكانه ساحرة شيطانية كريهة، إنذاراً بالخراب الأميركي. وقد قال ذات مرة: كان بوده لو رسم بالأسود على جدران البيت الأبيض، كي يشير إلى تلك العلاقة بين المصالح الأميركية وإسرائيل والحكومات العربية، وهذا الخراب منذ أن حولوا بلاده إلى خيمة فأحال ظهره للعالم، ووجه حنظلة إلى سرّ، لا نعرف متى يعود من متاهته.