"حظ وذاكرة مثقوبة وأحمر لم يكن نزيهاً"

2023.01.04 | 05:49 دمشق

"حظ وذاكرة مثقوبة وأحمر لم يكن نزيهاً"
+A
حجم الخط
-A

لعلّ أكثر قولٍ يعبّرُ عن حال وحظّ معظم السوريين، بيتٌ من الشعر قاله الشاعر السوريُّ اللبنانيُّ إلياس فرحات

أغربُ خلفَ الرزق وهو مشرّقٌ       وأقسمُ لو شرّقتُ راح يغرِّبُ

ولقد نسبتُ إلياس للقطرين معاً بسبب التباس موعد هجرته عن سوريا 1915، قبل إعلان دولة لبنان الكبير 1920، ليخسر الشاعرُ سوريته وتتغير حدود بلاده دون إذنه كحال بقية السوريين.

لم تهدأ انقلابات السوريين وخيباتهم، منذُ هجرة فرحات وبيته الرؤيوي، وصولاً لأعوام الثورة السورية الراهنة.

تعمّدتُ التأكيد على ذكر اللون الأحمر، المصاحب لتلك التصريحات، لما للأحمر من رمزية في الوعي الجمعي السوري، فهو دمهم المسفوك كل يوم، وهو الحب والحسم والخطر

في الحادي عشر من تموز عام 2011، تصدّر خبرٌ عاجل بإطار أحمر كل شاشات الإعلام الدولي، تؤكد فيه وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الحين، هيلاري كلينتون: "أن الرئيس السوري بشار الأسد فقد شرعيته من وجهة نظر الولايات المتحدة الأميركية وأنه ليس شخصاً لا يمكنُ الاستغناء عنه"، في اليوم التالي لتصريح كلينتون، 12 تموز 2011، جاء عاجل آخر مصدره فرنسا، وعلى لسان رئيس وزرائها، فرانسوا فيون، وبإطارٍ أحمر أيضاً:" الرئيس السوري بشار الأسد بات لا يحتمل فقد تجاوز كلّ الحدود".

تعمّدتُ التأكيد على ذكر اللون الأحمر، المصاحب لتلك التصريحات، لما للأحمر من رمزية في الوعي الجمعي السوري، فهو دمهم المسفوك كل يوم، وهو الحب والحسم والخطر، ربما لهذه الاعتبارات مجتمعة، اقترن الأحمر بالنزاهة في أذهان السوريين الذين عاصروا تلك العهود والآمال!! 

إنها أميركا والتصريح جاء عاجلاً أحمر على لسان وزيرة خارجيتها، إذاً فهو رسميٌّ، ويعبّرُ حتماً عن إرادة الإدارة الأميركية، سيدة العالم وصاحبة الأمر المطاع، الأسد راحلٌ خلال أيام، لم يجد الشكُّ سبيلاً يزعزع من خلاله قناعتهم إلا حين مرّت الأيام ثم الشهور والأسد باقٍ، ثم انقلبت حلاوة العشم مرارةً خلّفها كل ذلك الخذلان، على الجانب الآخر أَمِن النظام العاقبة فأصبح أكثر إجراماً، شرب السوريون كأس الغدر المرّة، لكنهم أدركوا حينها أن خلاصهم لن يأتي من خارج الحدود.

"الأسى ما بينتسى" مَثَلٌ شعبي يحفظه ويكرره السوريون، لكنهم لم ينصاعوا لفحواه، إذ سرعان ما نسي السوريون العواقب المرة لكل حدث أو قرار يأتي من الخارج.

في السابع عشر من كانون الأول 2019، تسمّرت أنظار غالبية السوريين أمام شاشات التلفاز والهواتف المحمولة، ليأتي الخبر عاجلاً ومؤكداً على أن "قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا أصبح جزءاً من قانون إقرار الدفاع الوطني للعام 2020".

يومها أصبح كثير من السوريين البسطاء خبراء في آليات صناعة القرار في دوائر القرار الأميركية، وباتت عبارات مثل "إقرار مجلس النواب" و"نسب تصويت الكونغرس" تُسمع داخل كل خيمة ومركز إيواء وزنزانة بلغها النبأ، كانوا متأكدين أن الحظّ سيحالفهم، فلا مكان للغدر والاتجار في قضية عمادها خمسة وخمسون ألف صورة لأحد عشر ألف جثة، تعود ملكية أجسادها لسوريين اعتقلهم نظام الأسد، ومارست عصابته بحقهم أبشع أنواع التعذيب حرقاً وخنقاً وتكسيراً وسلخاً واغتصاباً.

لم تمض سوى عدة أشهر، من بداية عام 2020، كانت كافيةً ليدرك على إثرها السوريون، أنهم تعرضوا للخداع مجدداً، تذكروا حينها ردة فعل المجتمع الدولي على مجازر الكيماوي، والتي اقتصرت على "ضربة محدودة" حسب توصيف الإدارة الأميركية نفسها!!

أدار الحظ للسوريين ظهر المجن، ولم يجلب لهم قانون قيصر إلا جوعاً وفقراً أكل كل السوريين، باستثناء نظام الأسد ودائرته الضيقة وقادة الميليشيات العاملة فوق التراب السوري.

هل تترك الأوجاع المزمنة آثاراً جانبيةً تتجلى ثقوباً في الذاكرة؟

لا يوجد مبرر آخر، يسوّغ إدمان انتظار الخير من بلاد لم تصدر لهم يوماً إلا السلاح وعملاء تعينهم حكّاماً مستبدين، في 24 شباط من العام 2022، دخلت القوات الروسية غازيةً إلى أوكرانيا، ولم يكن الخصم أوكرانيا وحدها، بل الغرب كله ممثلاً بحلف شمال الأطلسي "ناتو"، كانت الشهور الثلاثة الأولى لصالح بوتين نسبياً فقد توغل عميقاً وبلغ أطراف العاصمة كييف، لتبدأ بعد ذلك سلسلة هزائم جيشه، كاشفةً حقيقة سلاحه الذي طالما تباهى بقوته وقدرته في تحقيق الانتصار على السوريين المسلحين ببنادق صدئة من صناعته!

هم يعرفون مقدرته ومقدرة شبيحته دون غطاء روسي، ستؤخرهم إيران قليلاً فقط، لكنهم سيدخلون مدنهم كما دخلوها أول مرة ويتبروا ما علوا تتبيرا

أخبارُ هزائم بوتين في سهول أوكرانيا، أوقعت السوريين مجدداً في فخ الأحلام الوردية، مراهنين مجدداً على تغير رياح الحظ بما يؤاتي أشرعتهم، لمرة واحدة فقط، رسموا سيناريوهات كثيرة، انقلاب في روسيا، جلطة دماغية تأكل دماغ المجرم الروسي، انهيار في الاقتصاد سيعقبه انسحاب روسيا من جميع الجبهات، تاركاً حليفه وعميله في دمشق وحيداً.

هم يعرفون مقدرته ومقدرة شبيحته دون غطاء روسي، ستؤخرهم إيران قليلاً فقط، لكنهم سيدخلون مدنهم كما دخلوها أول مرة ويتبرون ما علوا تتبيرا.

لكن حليف النظام لم ينسحب ولم يضعف ولم يغير موقفه، جاءت الرياح على نقيض مرادهم، وتفاجؤوا بحلفائهم، يطلبون منهم العودة لبيت الطاعة و"تبويس شوارب" حكومة بلادهم، حليفٌ كان يوماً قد أخبرهم عن خط أحمر، ظنوه نزيهاً كعادتهم وطاهراً كدمائهم.