حريق ساروجة بين الوقائع والمبالغات

2023.07.22 | 06:22 دمشق

آخر تحديث: 22.07.2023 | 06:22 دمشق

حريق ضخم يلتهم العديد من منازل حي العمارة (فيس بوك)
+A
حجم الخط
-A

صحونا قبل بضعة أيام على خبر احتراق مركز الوثائق التاريخية بدمشق، أصابني الهلع بشكل خاص لأنني عملت فيه سابقاً خبيراً لسنوات، وأعرف ما يحويه من كنوز تاريخية. كان الخبر كارثياً بكل معنى الكلمة، وزادت من وقعه التفاعلات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي.

أتى الحريق، الذي اندلع في محلة سوق ساروجة في حي العقيبة، على العديد من بيوت هذا الحي الأثري، وأهمها بيت اليوسف الذي يبدو أن النار قد أتت عليه كله بعد أن كان الإهمال قد أتى على أجزاء واسعة منه بسبب ما قيل عن صراع المتنفذين لوضع اليد عليه لاستثماره في سياق تحويل معالم دمشق القديمة إلى مطاعم وفنادق وبارات. فكان البيت إشكالياً كما كان صاحبه عبد الرحمن باشا اليوسف.

أما البيت الأثري الثاني الذي تضررت أجزاء منه بالحريق هو بيت خالد العظم رئيس وزراء سوريا السابق، ويشغل نصف هذا البيت الواسع "متحف دمشق التاريخي" الذي بقي سليماً، بينما أصاب الضرر جزءاً من القسم الثاني للبيت الذي يشغله "مركز الوثائق التاريخية" الذي يقابل، رغم صغره، الأرشيف الوطني أو دور المحفوظات في الدول الأخرى.

التهويل في "السوشيال ميديا"

خلال الأيام الماضية استمرت مبالغات وسائل التواصل الاجتماعي، وانضمت إليها بعض المواقع الإلكترونية والتلفزيونية التي استضافت باحثين وأكاديميين، نقلوا أخباراً متضاربة حول مدى الضرر الذي أصاب مركز الوثائق التاريخية كبناء ومحتوياته ونوعها وأهميتها وأثرها على أنساب السوريين وحقوق ملكياتهم.

رغم عدم ثقتنا بنظام الأسد ونواياه وحلفائه نحو دمشق وتاريخها، لكن الكثير من المعلومات المتداولة عن الحريق والمركز ومحتوياته فيه مبالغات وأخطاء، وبعضها لا أصل له، وبعض من أعطى هذه المعلومات لا يملك معرفة بمركز الوثائق ومحتوياته. ومنها، مثلاً، أن المركز قد احترق كله بمحتوياته البالغة خمسة ملايين وثيقة.

أولاً إن عدد الوثائق هذا غير دقيق رغم أنه متداول منذ زمن طويل، والأهم أن المركز لم يحترق كله، كما أن محتوياته من الوثائق الأصلية لم يصبها الأذى لأنها لم تكن موجودة أصلاً. فالمختصون في المديرية العامة للآثار والمتاحف، وخوفاً على الوثائق، قاموا بعد عام 2011 بنقلها إلى أماكن أكثر أمناً. مع ذلك كانت هناك أضرار، فقد احترقت مكتبة المركز. وعلى الرغم من أن غالبية كتبها توجد منه نسخ أخرى لأنها مطبوعة، إلا أن عدداً لا بأس به منها يعدّ كتباً نادرةً تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. كما وصلت أخبارٌ عن احتراق "السيرفر" المركزي في المركز المُخزن عليه صور الوثائق والسجلات التي كانت توضع بيد الباحثين للاطلاع بدل الوثائق الأصلية التي توقف المركز منذ حوالي 15 سنة تقريباً عن إتاحتها للباحثين بعد أن قام بتصويرها. أما بناء المركز، والذي يُعدّ تحفة معمارية، فقد تضرر قسم منه وليس أكثره.

كما تمَّ تداول معلومات عن نوعية محتويات المركز، فقيل إن الوثائق المحترقة "تتعلق بالسجلات العقارية وقيد النفوس المدني والمحاكم". وهذه معلومات غير صحيحة عدا وجود سجلات المحاكم، فالسجلات العقارية موجودة في "مديريات المصالح العقارية" في كل محافظة والدوائر العقارية التابعة لها، أما السجلات المدنية أو النفوس فهي الأخرى موجودة لدى المديرية العامة للأحوال المدنية وما يتبع لها.

نبذة عن مركز "الوثائق التاريخية" ومحتوياته

حتى لا نتناول كل ما جرى تداوله بالتفصيل نعرّف بمركز الوثائق التاريخية ومحتوياته. مهمة المركز الذي أُسس عام 1959 جمع الوثائق التي تتعلق بتاريخ سوريا وتنظيمها، وفهرستها، وحفظها، وترميمها، ثم إتاحتها للباحثين والمهتمين.

يحوي عدة أقسام أهمها: القسم العثماني، الذي يضم أقدم مجموعة وثائقية ورقية معروفة في سوريا وتتمثل بسجلات المحاكم الشرعية التي يبلغ عددها حوالي 2900 سجل يعود أقدمها إلى النصف الأول من القرن السادس عشر وصولاً إلى العقد الثاني من القرن العشرين، وهي لمحاكم مدن دمشق وحلب وحمص وحماة وسجل واحد للاذقية وآخر لمدينة غزة الفلسطينية. كما يحوي القسم سجلات للأوامر السلطانية وحججاً شرعية متنوعة وأشجار أنساب ومطبوعات تعود لفترات عثمانية مختلفة.

وهناك قسم وثائق الدولة الذي يحوي مجموعات متفرقة من وثائق الدولة السورية الحديثة ابتداء من حكومة الملك فيصل مروراً بالانتداب الفرنسي وصولاً إلى انقلاب 8 آذار 1963، وتضم وثائق لمختلف الوزارات. وهناك القسم الخاص، الذي يحوي مجموعات وثائقية لحوالي ثلاثين شخصية سورية عامة كفخري البارودي وعبد الرحمن الشهبندر. كما يحوي المركز القسم الصحفي، وقسماً لترميم الوثائق أنشئ بمساعدة اليابانيين، وهناك قسم التصوير والميكروفيلم الذي يحوي عدة آلاف من الصور القديمة والنادرة. وهناك مكتبة تاريخية صغيرة هي التي احترقت كما أسلفت.

رغم صغرها تعدّ مجموعات مركز الوثائق التاريخية شديدة الأهمية ونادرة لأنها المصدر الأرشيفي المحلي الوحيد لفترات زمنية طويلة من تاريخ سوريا، وهي مادة لعمل الباحثين والمؤرخين بالدرجة الأولى، مع أنه في حالات قليلة كانت تستخدم لإثبات حقوق ملكية ضائعة عن طريق البحث في سجلات المحاكم الشرعية مع أنه لا توجد آلية محددة للبحث أو الفهرسة. لذا لا تستخدم هذه السجلات ومنذ سنوات طويلة مرجعاً لإثبات الملكية العقارية بعد أن تولت هذه المهمة مؤسسة "الطابو" التي بدأت عملها منذ القرن التاسع عشر.

إهمال النظام للأرشيف السوري

لكن أهمية هذه الوثائق وفرادتها لم تشفع لها لإنقاذها من الإهمال في زمن حكم حزب البعث الذي جعل التاريخ من أهم مقومات نظريته القومية، ولا خلال حكم حافظ الأسد الذي لم يترك مناسبة إلا وتحدث فيها عن التاريخ. وقد أصاب هذه المؤسسة الصغيرة ما أصاب غيرها من مؤسسات الدولة السورية من جمود وعدم تطور بسبب انشغال من استولوا على السلطة بتثبيت سلطتهم، وإهمال تطوير البلاد، فوضعوا في أعلى المناصب الإدارية من هم ليس أهلاً لا مهنياً ولا أخلاقياً، وصارت البيئة العامة طاردة للكفاءات والمختصين.

أما ما يتعلق ببناء المركز، فمنذ سنوات طويلة، وفي كل سنة تقريباً، كنا نؤكد بالمراسلات والتقارير الرسمية على ضرورة انتقال المركز من مكانه، لأن البناء بحد ذاته غير مناسب لحفظ الوثائق، كما أن موقعه يعرضه للخطر بسبب ووجود بيوت عربية قديمة تشغل بعضها ورش صناعية صغيرة من دون أدنى مقومات السلامة، بالإضافة إلى وجود خرائب مهملة حوله، ومنها بيت اليوسف الذي كان يتساقط شيئاً فشيئاً أمام أعين وزارة الثقافة. لكن رغم تشكيل عدة لجان لبحث هذا الموضوع لم نصل إلى نتيجة. وكانت مقترحات الحلول مثيرة للسخرية والتندر وتدل على عدم الاهتمام بتاريخ البلاد وأهمية أرشيفها رغم الشرح المستفيض عنه.

قد يكون الحريق بسبب الإهمال كما يمكن أن يكون مفتعلاً، فشهية المتنفذين في النظام وشركائه مفتوحة على التهام دمشق القديمة ومنها بيت اليوسف المجاور لمركز الوثائق. لكن الأكيد، ومن خلال تجربة ثلاثين عاماً كطالب دارسٍ للتاريخ وعاملٍ في مديرية الآثار وأستاذ له في الجامعة وباحث فيه، أن ما يصيب التاريخ والآثار السوريين سببه خلطة وجدت عهد حكم آل الأسد البيئة المناسبة لنموها، خلطة من الإهمال والفوضى وعدم الكفاءة والفساد والخوف وأخيراً الطائفية في التعامل حتى مع الآثار والتاريخ، وكأن هناك من يريد محو تاريخ البلد. ومع ذلك كان هناك وما يزال، وإن بنسبة أقل، مختصون ومثقفون وموظفون يعملون على حفظ هذا التاريخ.

كلمات مفتاحية