حرب رمزيّة ضد عدوّ مُدلّل

2024.02.08 | 06:44 دمشق

حرب رمزيّة ضد عدوّ مُدلّل
+A
حجم الخط
-A

في الشهور الأخيرة ازداد وضوحاً، أن ما يريده الإيرانيون من كامل سياستهم الخارجية، هو الوصول إلى صفقة استراتيجية. صفقة ترسّخ نفوذهم في المنطقة، بمعنى حصولهم على اعتراف دولي بإيران كقوة إقليمية محورية. كان هذا سعياً دائماً، منذ أن خلقت إيران لنفسها ميليشيات عسكرية في عدد من بلدان الإقليم، تأتمر بأوامر طهران. ميليشيات لا تقوّض السلم الأهلي في مناطق وجودها فحسب، بل وتختطف من الدولة قرار الحرب والسلم كما هو حاصل في لبنان. وصولاً إلى سعيها الحثيث لحيازة السلاح النووي، ما يجعل نفوذها أمراً واقعاً. طبعاً تعتمد إيران في هذا، إلى حدٍّ كبير، على دعم وإسناد قوى دولية لها مصلحة في تقويض النفوذ الغربي، وعلى رأس تلك القوى روسيا والصين.

في الخامس من الشهر الحالي شباط/فبراير، مع التصعيد الخطير بين الولايات المتحدة وميليشيات إيران في المنطقة، أعلن "شهرام إيراني" قائد القوات البحرية الإيرانية عن نية بلاده إجراء مناورات بحرية بالاشتراك مع كل من روسيا والصين، ودول أخرى لم يفصح عنها. زاعماً أن المناورات التي ستجري خلال الشهر المقبل، تهدف إلى تأمين الأمن الإقليمي!

للعلم، هذه ليست المرة الأولى لشراكة المناورات البحرية بين الدول الثلاث، ففي ذات التوقيت من العام الماضي تم إجراء نسخة منها شمالي بحر الهند. الهدف المعلن للدول الثلاث هو تطوير التعاون لضمان الأمن البحري. سيبدو الأمر وكأنه من باب الفكاهة، أن إيران التي أصدرت أوامرها للحوثيين لتقويض أمن البحر الأحمر، بحجة دعم غزّة، هي نفسها من تتحدث عن الأمن البحري والإقليمي.

ولكن ماذا عن سياسة إدارة بايدن تجاه إيران؟ عقب الرد الأميركي الرمزي على مواقع ميليشيات تابعة لطهران في كل من العراق وسوريا وإيران، صرح مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأميركي بأن على الرئيس "أن يستيقظ، ويدرك أن سياسة استرضاء إيران قد فشلت" مضيفاً بأن مقتل ثلاثة جنود أميركيين على يد الميليشيات المدعومة من طهران تطلّب رداً واضحاً وقوياً "ولكن لسوء الحظ، انتظر بايدن لمدة أسبوع، أرسل خلاله (برقيّة) إلى العالم كلّه، بما في ذلك إيران، تنبههم إلى طبيعة الرد الأميركي وموعده". وهذا القول ينطوي فعلاً على حقيقة علاقة إدارة بايدن بإيران.

لم يتم الإبلاغ عن مقتل أي إيراني في البلدان الثلاثة خلال الضربات الأميركية، حيث انتقل القادة الإيرانيون إلى بلادهم، أو إلى منازل في أماكن مكتظة بالمدنيين

كثير من التقارير تحدثت عن تحركات لميليشيات إيران خلال الأسبوع الذي سبق الضربة الأميركية، لتفادي أو تقليل الخسائر، خصوصاً في صفوف "مستشاري" الحرس الثوري الإيرانيين. ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن عناصر الحرس الثوري وحزب الله الذين تمركزوا لفترات طويلة على السواحل اليمنية للمساهمة في الهجمات ضد السفن في البحر الأحمر، غادروا تلك المناطق إلى صنعاء واختبؤوا بين المدنيين. وهو ما حصل في العراق وسوريا ولبنان أيضاً. وكما بات معروفاً، لم يتم الإبلاغ عن مقتل أي إيراني في البلدان الثلاثة خلال الضربات الأميركية، حيث انتقل القادة الإيرانيون إلى بلادهم، أو إلى منازل في أماكن مكتظة بالمدنيين. في سوريا انتقل بعضهم إلى مواقع القوات العسكرية الروسية والسورية.

اليوم، وبعد أيام قليلة من رد الولايات المتحدة، بدا من الواضح أن النظام في إيران قد تغلّب على مخاوفه من الغضب الأميركي. مخاوف شعر بها الإيرانيون وأثّرت على أسواق المال في إيران، كما شعر بها العالم خلال الأسبوع الذي سبق الضربة، عندما وصل الأمر بالمسؤولين الإيرانيين إلى التبرؤ الصريح من نشاطات عملائهم. علي فدوي نائب قائد الحرس الثوري الإيراني سيصرح بعد الرد الأميركي بأنه "لم تُطلق رصاصة واحدة على إيران" مؤكداً أن الجهود الأميركية لردع إيران قد فشلت. ثم ليصدر الجيش الإيراني تحذيراً من استهداف سفينتي الشحن بهشد وسافيز، حيث يسود الاعتقاد بأنهما تساعدان الحوثيين على استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر.

إذاً جاء الرد، حتى الآن على الأقل، لرفع الحرج عن إدارة بايدن أمام الرأي العام الأميركي، مع تجنب توسيع الأزمة، عبر إعطاء فرصة للميليشيات التابعة لإيران لاتخاذ تدابير احتياطية بهدف تخفيف الإصابات. بكل الأحوال لم يبدُ الأمر مستغرباً، فمن المعروف أن سياسة بايدن خلال السنوات الثلاث الأخيرة كانت تميل إلى تخفيف العقوبات والحصار على إيران، سعياً منها لإعادة إحياء اتفاق جديد حول النشاط الإيراني النووي. الأمر الذي أدى إلى زيادة عائدات النفط الإيراني، وهو ما يرجع إلى نهج إدارة بايدن الأكثر تساهلاً إذا ما قورنت بما دُعيَ "سياسة الضغط الأقصى" التي انتهجتها إدارة سلفه دونالد ترامب.

بالمناسبة، وحول زيادة عائدات النفط رغم العقوبات، وهو حق مشروع للشعب الإيراني دون شك، فإن الإيرانيين لم يلمسوا أثراً لتلك العائدات التي بلغت 30 مليار دولار عام 2023، فتلك الأموال بحسب الخبير الاقتصادي الإيراني إحسان سلطاني، لا تُنفَق في المجالات التي تهم المواطنين كالتعليم والصحة، وإنما تخصص لأطراف بعينها. استشهد سلطاني على سبيل المثال بزيادة ميزانيّة الإذاعة والتلفزيون ثلاثة أضعاف، وأضاف مخاطباً الجمهور الإيراني "إذا سمعتم أن ميزانية الحكومة قد زادت فلا تفرحوا". بطبيعة الحال، سلطاني لم يأتِ على ذكر المليارات التي تُصرف لتمويل الميليشيات التابعة.

المشروع الإيراني حين لا يمس أميركا وحلفاءها، إنما هو مشروع مقبول إلى حدٍّ ما، ولا يتناقض مع المصالح الغربية عموماً

قبل الرد الأميركي بيومين طلب أكثر من 60 مشرّعاً أميركياً من كلا الحزبين، تطبيقاً أكثر صرامة للعقوبات على إيران، خصوصاً النفطية منها. جاء ذلك على أرضية معرفتهم بتساهل الإدارة مع النظام الإيراني. داعين لمنعه من الحصول على موارد مالية إضافية عبر تجارة النفط التي تتحدى العقوبات. ولكن هل هذا موقف أخلاقي يُحسب لأولئك النوّاب؟ طبعاً لا.

لم يتحرك هؤلاء النواب بدوافع سياسية تمنع التغوّل الإيراني في المنطقة، وهو بدأ منذ عقود، إنما جاء تحركّهم إثر مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة، وعموماً بدأ هذا النوع من الانتقادات بعد هجوم السابع من أكتوبر في غزّة. ما شجّع الجمهوريين والديمقراطيين للضغط من أجل تغيير السياسة المتساهلة تجاه النظام الإيراني. وهذا بالتأكيد لن يعني تغييراً جذرياً، فالمشروع الإيراني حين لا يمس أميركا وحلفاءها، إنما هو مشروع مقبول إلى حدٍّ ما، ولا يتناقض مع المصالح الغربية عموماً. فمن يناله الأذى من مشروع السيطرة الإيرانية هي دول المنطقة، وبخاصة شعوبها، وهو أمر لا يعني الكثير لا للأميركيين، ولا للغرب عموماً.