حرب تشرين في ذكراها الخمسين.. ساعة الصفر والسؤال المحرج

2023.10.06 | 21:49 دمشق

حرب تشرين في ذكراها الخمسين..  ساعة الصفر والسؤال المحرج
+A
حجم الخط
-A

ما زال جزء، لعله أكبر وأهم، من وثائق حرب تشرين (أكتوبر) حبيس الأدراج السرية، وعند أطراف الصراع الأساسية. لكن ما تم الكشف عنه، سواء عبر وثائق رسمية أم عبر شهادات لكبار القادة العسكريين يملأ الكتب والبرامج المرئية، وكل تلك الوثائق والشهادات تؤكد على المستوى العالي للاستعداد والتخطيط وصولاً إلى تحديد ما يعرف في العلوم العسكرية بـ (ساعة الصفر) أي لحظة انطلاق المعركة فعلياً. ما تم الكشف عنه حتى اليوم، على الرغم مما لم يزل خبيئاً، يقود إلى استنتاج مفاده أن القيادات العسكرية العربية، ولأول مرة في التاريخ المعاصر، برعت وعلى نحو تكتيكي مبهر، ليس في التحضير للحرب فحسب، بل وفي اختيار موعدها وساعة صفرها.

يقول المشير أحمد إسماعيل القائد العام للجبهتين المصرية والسورية خلال الحرب في حواره مع هيكل:

(… حين نطرح وثائقنا كلها للدراسة التاريخية، فإن هذا العمل سوف يأخذ حقه من التقدير وسوف يدخل التاريخ العلمي للحروب كنموذج من نماذج الدقة المتناهية والبحث الأمين).

التحضيرات لحرب تشرين لا يمكن مقارنتها بما سبقها من حروب في المنطقة بين الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي، والتي أخذت سابقاً لدى الجيوش العربية طابع الارتجال الذي بلغ نتيجته الكارثية في الهزيمة المذلة عام (67)، ولعل ذلك ما دفع بالسلطات الحاكمة لمحاولة التخطيط لحرب تستطيع أن تبقيها أمام شعوبها المحكومة، وتقيها مخاطر الانقلاب عليها، ما لم تبادر إلى استرداد بعض من ماء وجهها المسفوح، والذي فشلت تخريجاتها الهزيلة في ستره. بالتأكيد فإن هذا الجانب من دوافع السلطات الحاكمة لا يمكن فصله عن جانب وطني وعقائدي لدى غير قليل من قيادات عسكرية وسياسية مخلصة. أما عالمياً فقد وصلت الأحوال في المنطقة، وضمن تجاذبات القوى العظمى، إلى طريق مسدود بات يؤثر في إعاقة كثير من مشاريع تلك الدول، لعل أبرز انعكاساته في تأثير استمرار إغلاق قناة السويس بكل ما يترتب عليه وينجم عنه من خسائر أولها اقتصادي وتاليها متعدد الأبعاد. كل ذلك وسواه من عوامل، كان يدفع إلى حرب لا بد منها لتكون طريقاً أولاً ووحيداً للبحث عن حلول جديدة. من هذه النقطة الرئيسة، وسواها من متفرعات، يمكن الولوج إلى فهم الاستعداد عالي المستوى والتخطيط الجاد والعلمي عبر سنوات من إعادة البناء، وبوجه أخص في صفوف الجيش المصري، الذي برعت خبراته في التخطيط لتنفيذ (العبور) الذي تم لاحقاً بطريقة مذهلة ما زال ينظر لها في العلوم العسكرية على أنها قهر للمستحيل.

كل تلك الاستعدادات الضخمة ومراحل البناء التي لم تكن في كثير من جوانبها خافية، خاصة في حرب استخبارية مستعرة عبر سنوات، كانت تقتضي في النهاية اختيار لحظة فاصلة تضمن بداية ناجحة لما تم الاستعداد له لتمضي الخطة صاعدة بعد (ساعة الصفر).

الباحث في وثائق المرحلة، على الرغم من مخبوئها، سيجد ما يستطيع البناء عليه من أن نذر الحرب كانت أكثر من مجرد ما يلوح في أفق، بل هي أقرب إلى حتمية رصدت أكثر من جهة استخبارية عديداً من تحركات واستعدادات وتعبئة تشير لها على مدى أشهر وأسابيع سابقة، لكنها لم تفض إلى وقوع الحرب. لعل ذلك كان من ضمن خطط التمويه المسبق، ومن أسس ارتكز عليه الفريق المختص في فرع تخطيط العمليات ضمن القوات المصرية لتحديد ساعة الصفر بقيادة اللواء أركان حرب (صلاح فهمي نحلة) الذي تشهد الوثائق بنجاح مبهر له في كل ما ارتكز عليه من علوم ومن تمويه. تمت دراسة جميع الظروف الجوية من سرعة الرياح وحركة الموج والمد والجزر وتأثيراته على الماء في قناة السويس، وتأثيرات الحالة الجوية برياحها وشمسها وكل أحوال الجو من حرارة وبرودة وعبر ساعات اليوم بكامله، وعلى الجبهتين المصرية والسورية، وما تستغرقه عمليات الاقتحام الأولى وتثبيت ركائز التقدم اللاحق. على سبيل المثال لا الحصر فإن الأجواء المناخية في مصر وخط القناة ثم عبر سيناء ستكون على الرغم من حرارتها نهاراً تبقى أقل من شهور الصيف اللاهبة، والجندي المصري متكيف معها، فيما على الجبهة السورية سيكون الجو مثالياً قبل أن يبدأ الشتاء المبكر بثلوجه وأمطاره في مرتفعات الجولان. اختيار اليوم بالتحديد كان مدروساً بعناية فهو في شهر رمضان الذي ستكون احتمالات الحرب فيه، نتيجة قدسيته عند أغلب المقاتلين من الجانب العربي، ستكون أقل من سواه، وسيضيف إلى عنصر المفاجأة، خاصة أنه في الجانب الإسرائيلي سيكون في يوم عيد الغفران والذي تستمر فيه الإجازات لأسبوع. أما اختيار الساعة في الظهيرة فجديد كل الجدة في العلوم العسكرية، إذ غالباً ما تبدأ المعارك والحروب منذ لحظات الفجر للاستفادة من كامل النهار، وأحياناً يبدأ ليلاً ليكون مباغتاً، ونادراً ما يكون ساعة الظهيرة كما كان اختيار اللواء نخلة وبارتكاز على عوامل مهمة، غير ما سبق ذكره، أهمها:

1. الشمس في ساعة الصفر ستكون عمودية ثم تبدأ بالميل نحو الغرب بحيث تكون خلف المقاتلين المصرين لا في وجوههم وهم يعبرون نحو الشرق، في حين ستكون عامل إعاقة للتحركات الإسرائيلية المضادة مع تقدم الوقت.

2.  وحدات التفقد والرصد الإسرائيلية ستكون قد أنهت مهامها اليومية صباحاً، وما ستستغرقه القيادة السياسية والعسكرية لاتخاذ قرار الحرب سيستغرق 6 ساعات بعد ظهيرة يوم عطلة وعيد ديني، وهو وقت تكون فيه خطة عبور القناة، وخطة التقدم الأولي على الجبهة السورية قد شارفت على نهاية مرحلتها الأولى.

3. سيكون القمر في العاشر من رمضان في مراحل صعوده نحو الاكتمال منتصف الشهر عاملاً مساعداً بإضاءته أول الليل وغيابه في الأواخر، وما دام التوقيت مدروساً تكتيكياً سيشكل جانب تفوق إضافي أمام عدو لم يضع هذه المسألة في تكتيكه وسيحتاج أياماً لإضافتها لبرنامجه.

عرضت الخطة على  قائد العمليات الفريق (عبد الغني الجمسي) ورئيس الأركان الفريق (سعد الدين الشاذلي) ومن ثم على وزير الدفاع فرئيس الجمهورية، ومن ثم في يوم الثاني من تشرين وفي زيارة سرية إلى دمشق تم الاتفاق النهائي على ساعة الصفر، بعدما اقتنع الجانب السوري بجميع ميزاتها التي كانت أنسب له أيضاً من جميع النواحي، باستثناء وضع الشمس الذي سيكون في وجه مقاتليه المتجهين غرباً، لكنه عامل ستخفف الميزات المتبقية منه، خاصة أن العدو غالباً ما سيتأخر لساعات في دخول معركة حقيقية، ليتم الاعتماد النهائي بتحديد السادس من تشرين الأول (أكتوبر) يوماً لبدء الحرب بساعة صفر تكون قبيل الساعة الثانية ظهراً، وبكلمة سر هي (بدر) يعلنها القائد العام للجبهتين المشير أحمد إسماعيل. وذلك ما تم لاحقاً بكل انضباط وسرية، وبتمويهات كثيرة تضمنت برامج زيارات داخلية وخارجية معلنة حتى على مستوى الرئاسة بقصد الإيهام، فمن كانت لديهم معلومة اليوم وساعة صفره، باستثناء الرئيسين، معدودون على الأصابع.

حققت حرب تشرين بعض ما أراد صانعوها، وعلى وجه الخصوص القيادة المحصورة بالرئاسة في دول مثل (مصر وسوريا) يمتلك فيها الرئيس كل الصلاحيات مطلقة، ويكون وحده من له سره الخاص!.  شهدت الحرب بكل تأكيد بطولات فذة تروى، لسنا في مجال عرضها، لكن ثمة سؤال محرج، ما زالت إجاباته على كثرتها غير مقنعة، والسؤال هو:

هل كانت الاستخبارات الإسرائيلية والعالمية غافلة، وفوجئت حقاً بساعة الصفر!؟.