حديث في السياسة مع سيدة من برلين

2024.04.07 | 05:32 دمشق

مظاهرة داعمة لغزة
+A
حجم الخط
-A

التقيت بالسيدة ميريام مع عشرة أشخاصٍ آخرين في أحد مقاهي برلين بمساعدة تطبيق Meet Up؛ وهو تطبيق يتيح لمجموعاتٍ صغيرة من الناس الالتقاء والتعارف على أساس الاهتمامات المشتركة.
كانت المجموعة التي انضممت إليها مهتمة بالتبادل الثقافي. كان الحديث بالإنجليزية وكانت خلفيات المشاركين متنوعة، إذ وجد بيننا الألماني، والإيطالي، والهندي، والفرنسي، والجزائري، والبريطاني، والسوري. والأصحّ أن أقول كان بيننا سوريان اثنان. فقد تعرفت في نفس الجلسة إلى "فادي" من حلب وهو مهندس مُبتعَث لإتمام دراسته في برلين أمضى الجلسة يأكل بنهم، ويحدّق ببلاهة، ويلقي بالنكات السمجة، دون أن يتفوه بجملةٍ واحدة ذات مغزى أو احترام.
عرّفتْ ميريام عن نفسها بأنها بريطانية تعيش في برلين منذ أيام الطفولة، وقالت إنها تعمل موظفة في جامعة بوتسدام. لكن لكنَتَها لم تكن بريطانية. ولاحظتُ أنها أخطأت باستخدام بعض الكلمات، فأدركتُ أنها كاذبة. غير أن ميريام كانت مثقفة جداً ومهذارة في الكلام، وهذا بالضبط ما جئت أبحث عنه في تلك الجلسة.
في الأيام التي تلت استمريت بالتواصل مع ميريام عن طريق الواتساب، ثم دعتني لتناول العشاء في مطعم فيتنامي في مركز برلين الغربية، وسرعان ما أسرّت لي أنها ألمانية وليست بريطانية، مضيفةً أنها تخفي هويتها في جلساتٍ كتلك التي جمعتنا أول مرة لأنها يهودية.
كانت تلك مفاجأة بالنسبة إليّ، فلم أكن أعلم قبل مجيئي لبرلين أن اليهود في ألمانيا يفضّلون إخفاء هوياتهم حتى بعد هلاك ستة ملايين يهودي، وانقضاء سبعين عاماً على مذابح الهولوكوست. وما فاجأني أكثر هو ما باحت به ميريام من كلامٍ لا نقرؤه فيما ينمّقه الناس في الكتب والجرائد، فهي تشعر أنها مواطنة من الدرجة الثانية في ألمانيا. في إحدى المناسبات حُرمت من وظيفة بسبب اسمها اليهودي. فالاسم وحده - كما تقول – قد يحرم اليهودي من فرصٍ يفوز بها الألماني بكلّ سهولة لو امتلك نفس المؤهلات.

جعلتني ميريام أستنتج أن الإٍنسان، حتى لو كان يعيش في واحدةٍ من أعظم العواصم الغربية، متنعّماً بتدفق المعلومات، وكثرة الأموال، وسعة الحرّيات فليس من الضرورة أن يعصمه ذلك من موت الوجدان، وعطالة العقل.

وبالحديث عن العلاقة بين اليهود ومجتمعاتهم الأوروبية قالت ميريام إنها ترتاب من البروتستانت، فمارتن لوثر نفسه كان معاديا للسامية. أما الكاثوليك فهم برأيها مصدر الإحباط الأكبر لأي يهودي. فقد أيّدت الكنيسة الكاثوليكية هتلر، وكان موقفها ملتبساً من الهولوكوست. والكنيسة الكاثوليكية هي التي تشيع أن اليهود يتحكمون بالعالم عن طريق المال، مع أن الفاتيكان – قلب الإيمان الكاثوليكي - هو أغنى دولة في العالم.
وهكذا جعلتني ميريام أستوعب من أول نصف ساعة من الحديث معها أن تشدد السياسيين في أوروبا في التأكيد على حظر الخطابات المعادية للسامية هو تشددٌ موجهٌ بالأساس للأوروبيين المسيحيين البيض قبل اللاجئين والمسلمين والملونين، فكراهية اليهود نقيصة قديمة ومترسخة في السيكولوجيا الأوروبية لا تردعها إلا القوانين المتشددة والرقابة المستمرة. وبالإضافة إلى هذا السياق العام، فإن ميريام - مثلها مثل اللاجئين - قلقة من الصعود الأخير لحزب البديل اليميني المتطرف في ألمانيا، وتخشى من أن يؤدي هذا المدّ اليميني إلى نموّ النزعات الكارهة لليهود.
بقيتُ متأثراً جداً بما تسرده عليّ ميريام إلى أن دلف الحديث فجأةً نحو إسرائيل. فوالداها مواطنان إسرائيليان يعيشان في مدينة حيفا. هنا توجّست منها وخشيت أن تكون إسرائيلية، لكنها أكدت لي أنها لا تحمل جنسية أخرى غير الألمانية سوى البريطانية، فهي بالفعل ولدت في بريطانيا، ولم تكن تكذب تماماً عندما قالت إنها بريطانية. أما أن تكون إسرائيلية، فالأمر قطعاً ليس كذلك.
قالت ميريام إنها حزينة جداً للأعمال الوحشية التي حدثت في مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر الماضي. لم أشأ أن أجادلها، لكني سألتها عن رأيها بمقتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني بالمقابل غالبيتهم الساحقة مدنيون. توقعت من ميريام أن تقول إنها تتألم لذلك أيضاً، فحديثها السابق عن وضع اليهود في أوروبا أوحى إليّ أن هذا سيكون ردّها الطبيعي، لكنها أجابتني بالقول إن القتلى الفلسطينيين كلهم إرهابيون يريدون قتل اليهود للذهاب إلى الجنة. هنا سارعت بالتوضيح أنها مخطئة، فمعظم القتلى أطفال! قالت ميريام إنها تدرك ذلك، لكن "ما العمل إذا كان ثمانون بالمئة من سكان غزة أطفال ومراهقون؟" وهؤلاء هم في النهاية "إرهابيو المستقبل future terrorists" بالنسبة للشعب اليهودي.
رنّت عبارة "إرهابيو المستقبل" في رأسي كجرس، وصار قلبي ينخسني من أجل النهوض، وعقلي يشدّني إلى كرسيّ المطعم الفيتنامي كي أستمرّ في سبر أغوار سيكولوجيا ميريام؛ فهي لا شكّ عينة ممتازة عن شريحةٍ معيّنة من يهود ألمانيا وأوروبا.
أضافت ميريام أن سكان جنوب إسرائيل من العرب هم بالأصل نازحون طردهم المصريون، كما أن سكان شمال إسرائيل من العرب هم لاجئون طردهم السوريون. وبالمحصلة فسكان إسرائيل من العرب هم شذاذ آفاق لا ينتمون للأرض التي يسكنون عليها. لقد طردهم المصريون والسوريون وابتُلي بهم الشعب اليهودي المسكين.
وهكذا فالصورة عند ميريام هي (بالمقلوب) فاليهود هم السكان الأصليون المساكين المهددون بالاقتلاع من بيوتهم من قِبَل شذاذ الآفاق من العرب المطرودين من مصر وسوريا، الهائمين على وجوههم، والذين لا يلوون على شيءٍ إلا قتل اليهود وإزاحتهم عن ديارهم.
كان الطعام في المطعم الفيتنامي لذيذاً جداً، لكن كلام ميريام جعلني أعاني من آلام في المعدة والقولون طوال الليل. لقد جعلتني ميريام أستنتج أن الإٍنسان، حتى لو كان يعيش في واحدةٍ من أعظم العواصم الغربية، متنعّماً بتدفق المعلومات، وكثرة الأموال، وسعة الحرّيات فليس من الضرورة أن يعصمه ذلك من موت الوجدان، وعطالة العقل.