icon
التغطية الحية

حب وانتقام وقوى خارقة في الفيلم السعودي "الخطّابة"

2023.05.19 | 17:01 دمشق

لقطة من فيلم الخطّابة نتفليكس
لقطة من فيلم الخطّابة على نتفليكس
تلفزيون سوريا ـ وائل قيس
+A
حجم الخط
-A

نادراً ما نشاهد أعمالاً سينمائية أو تلفزيونية تكون قصتها مستوحاة من التراث الشفوي (غير المادي) للمنطقة العربية الغنية بالأساطير والقوى الخارقة للطبيعة، لكن مع فيلم الإثارة النفسية السعودي "الخطّابة" الذي عرض على نتفليكس مع نهاية الشهر الماضي، يمكن القول إن هذه القاعدة قد كُسرت بدخول الشرق الأوسط على خط السوق التنافسية بين خدمات البث المباشر.

تدور قصة "الخطّابة" للمخرج عبد المحسن الضبعان حول نص مشترك مع فهد الأسطاء، حول طارق (حسام الحارثي) الخبير في تكنولوجيا المعلومات الذي يقع في حب متدربته الجديدة سلمى (نور الخضراء)، حيث يقوده فضول ملاحقتها إلى منتجع في منطقة صحراوية تسيطر عليه قوى خارقة للطبيعة، ومغامرة غير عادية يكتشف فيها أسرار المنتجع الغامض الذي تديره صبا المدسوسة/الخطّابة (ريم حبيب).

يبني الضبعان قصة "الخطّابة" على حكاية تدور حول الحب والانتقام والقوى الخارقة للطبيعة يُقدم لها بمشهد افتتاحي لاحتراق رجل (عاصم العواد)، هو زوج الخطّابة التي أخبرتها أذن في الصحراء عن حل لمشكلة زواجه من امرأة ثانية بمنحها خاتما سحريا يعطيها القدرة على حرق الرجال وإعادتهم بنفس جديد بعد تصفية أخطائهم مع زوجاتهنّ. يعطينا المشهد الافتتاحي فرصة لفهم القصة التي نشاهدها برمزية النيران التي تلتهم جسد الزوج بإحالتها إلى مدلولاتها الأسطورية، فاختيار النار هنا يتقابل مع ورودها في الأساطير العربية بصور متعددة تتصل بالحياة والموت، والعقاب والتطهير.

تذكّرني الأسطورة التي اختار الضبعان سردها درامياً بقصة مسلسل "كابوس" المكوّن من خمس حلقات (إنتاج خدمة ستارزبلاي العربية) للكاتب والمنتج ياسر الياسري، بالرغم من اختلافهما في أسلوب المعالجة. يأتي التشابه بين العملين بإعادة سرد قصص من التراث الشفوي المتنوّع بمزيج بين الحاضر والماضي، ورؤية فنية معاصرة، لكنهما يختلفان في معالجتهما الدرامية للأحداث. إذ إنه، بينما يفضل الضبعان السير في قصة واحدة يكون فيها الحوار مكثفاً على حساب المشاهد الصامتة والموسيقا، فإن الياسري يُنهي كل حلقة من حلقاته الخمس بالتركيز على انتقال الأسطورة بين الأجيال، في شكل يقارب دورة حياة الإنسان.

يمهد "الخطّابة" لرواية قصته الأصلية بأسلوب درامي معاصر في أول 20 دقيقة، فهو يركّز على العائلة بتصويره للعلاقة الفاترة بين طارق وعائلته، نكتشف أن طارق لا يستطيع التواصل مع زوجته وطفلته، فهو بدلاً من العودة إلى المنزل يقضي وقته في المكتب بالاستماع إلى برنامج حواري يوضح فيه الضيف فكرة الفرق بين الرجل والذكر من منظور تقليدي، يسهب الضيف بالإيضاح بالوصول إلى أن "مكانك (الرجل) الصحيح ليس في المنزل منتظرًا عجزك". يمنحنا هذا المشهد فرصة لفهم أسباب انعزال طارق عن عائلته. قد يكون لزوجته دور في ذلك، لكن شخصية طارق تتجاوز غموضها بأنها فضولية أيضاً، وفي النهاية فضوله كان السبب الرئيسي الذي أوصله إلى المنتجع الصحراوي.

يبدو المنتجع الصحراوي أشبه بمنظمة سرية لديها طقوسها الخاصة، فجميع الرجال الذين وقع عليهم القصاص ملثمون يرتدون زياً موحداً باللون الأحمر الناري، تحمل درجات هذا اللون رمزية تعكس مشاعر الحقد والحب معاً. يكتشف طارق أن النساء اللواتي يردن الانتقام من أزواجهنّ ينظمن أعراساً في المنتجع بالاتفاق مع الخطّابة، لكن هذا الاكتشاف يوقع طارق في مأزق يجعله حبيساً في المنتجع.

هذه الأعراس المنظمة لحرق الأزواج  وهذه الطقوس الخاصة تنتهي بزوال ألم النساء وعودة أزواجهن بنفس جديد. ولا تتوقف الأذية عند الزواج الثاني أو الأزواج فقط، بل تشمل أيضاً التحرش في أماكن العمل، وتعنيف الآباء لبناتهنّ، وهما السبب الرئيسي لوجود سلمى في هذا المنتجع الغامض، وهي لها دور محوري في القصة، فوجود طارق بدلاً عن مديرها المتحرش يقودها إلى اكتشاف حقيقة مختلفة ستنعكس نتائجها على منتجع الخطّابة، لأن طريقة معالجتها لقصة طارق مختلفة عن طريقة الخطّابة الراديكالية.

تأخذ سلمى دور الفتاة المتمردة على قوانين الخطّابة، هي مؤمنة بفكرة الخطّابة لعقاب الرجال لكنها تجد أيضا أن المنتجع مكان خال من الرحمة، بالرغم من الحديث الذي يدور بين الخطّابة وسلمى في نهاية الثلث الأخير من الفيلم، والذي يكشف عن تعرض سلمى للعنف الجسدي، بدلالة وجود آثار حرق قديم على ساعديها. يبلغ الصدام بين المعلمة وتلميذتها ذروته برفض الخطّابة منح الرجال فرصة أخرى، ما يفرض على سلمى الاستماع إلى أذن ثانية في وسط الصحراء أخبرتها بحل مختلف يؤدي إلى حرق المنتجع الذي شيدته الخطّابة قبل سنوات، حيثُ تعيد سلمى خلق المنتجع بعد أن دمرت أسطورة الخطّابة.

يحاول "الخطّابة" أن يقدم عملاً غامضاً من طرف، ومحايداً في طرح الأفكار المعاصرة من طرف آخر، وهو ينجح في كلا الأمرين بتقديمه نصاً معقداً ومباشراً في الطرح يمنح القصة عنصري الإثارة النفسية والغموض المطلوبين

يحاول "الخطّابة" أن يقدم عملاً غامضاً من طرف، ومحايداً في طرح الأفكار المعاصرة من طرف آخر، وهو ينجح في كلا الأمرين بتقديمه نصاً معقداً ومباشراً في الطرح يمنح القصة عنصري الإثارة النفسية والغموض المطلوبين لمثل هذه الأعمال، لكن ذلك لا يعني أن القصة تعاني أحياناً من البطء في طريقة السرد، ويرجع ذلك إلى الحوار المكثف على حساب المشاهد الصامتة، لكن هذا البطء سرعان ما يتداركه الضبعان بروايته لقصص فرعية متداخلة مع قصص الشخصيات الرئيسية مما جعله يضفي مزيدا من الأجواء السوداوية والمشوقة على الأحداث.

في هذا الجانب، يختلف الياسري في مسلسل "كابوس" عن طرح الضبعان في "الخطّابة"، فهو يقدم نصاً مكثفاً من ناحيتي السيناريو والحوار بطول حلقات لا تتجاوز 30 دقيقة، كما أنه بنى قصص حلقاته الخمس على أساطير مختلفة لها أكثر من رواية في تراثنا الشفوي، من بينها قصة الغول، أحد المستحيلات الثلاثة عند العرب المعروفة بـ"الغول، والعنقاء، والخل الوفي"، وكذلك قصة "السلعوة" التي يرد الجاحظ أصلها إلى نساء الجن، وهي مخلوقة جنية معروفة عند المصريين القدماء بأنها تهاجم الأشخاص الذين يريدون انتهاك حرمة المعابد والمقابر.

وبالعودة إلى "الخطّابة" كان علينا انتظار بعض الوقت حتى ندخل في قصة الفيلم المعقّدة وأجواء الإثارة النفسية نظراً للصراعات الداخلية التي تعيشها الشخصيتان الرئيستان للقصة. فشخصية طارق (الحارثي) الغامضة احتاجت نحو نصف ساعة لإدخال الجمهور في أجواء الفيلم، الأمر الذي يجعل أداءه غير مقنع في كثير من الأحيان، على عكس شخصيتي سلمى (الخضراء) التي كان أداؤها جيداً، وشخصية الخطّابة (حبيب) المقّنعة بانتقامها لأجل الحب، وأرى أنه كان يمكن للضبعان أن يعطيها مساحة أكبر لرواية قصتها، ومثلها سلمى. لكن ما لفتني أكثر أن زوج الخطّابة (العواد) قدّم دوراً مميزاً، فهو يظهر في المشاهد كرجل آلي مبرمج على مجموعة من الأفعال وندرة الكلام، نلاحظ ذلك من طريقة سيره إلى حركات جسده مع اليدين، وإعادة تكرار الجمل ذاتها على زوار المنتجع.

كما أن أكثر ما يميز "الخطّابة" أنه استفاد من الطبيعة الجغرافية لمحافظة العلا، فهو يلتقط لوحات فنية للصخور وأشجار النخيل ترسم سريالية اللحظة التي تغطيها صورة للقمر باكتماله بدراً كعنصر أساسي يستمد منه المنتجع الصحراوي تصاميم إضاءته لنقل الأجواء الغامضة. ومع ذلك، فإن "الخطّابة" يعاني من مشكلة مع المؤثرات البصرية، خاصة المشهد الافتتاحي الذي يظهر حرق الخطّابة لزوجها، لم تكن المؤثرات البصرية للمشهد مقنعة إطلاقاً، على عكس مشاهد شبيهة لإنتاجات مختلفة عُرضت على نتفليكس. والواضح أن مشكلة المؤثرات البصرية هي مشكلة عامة تواجهها جميع الأعمال الدرامية، بما في ذلك "كابوس".

أيضاً هناك عامل إيجابي آخر يضاف للفيلم برسم الضبعان نهايتين لـ"الخطّابة"، في الأولى ينتهي الفيلم مثل بداية المشهد الأول – ما بعد الافتتاحي – بعودة طارق إلى المنزل، لكنه في هذه العودة يحاول كسر الحاجز الذي يفصل بينه وبين زوجته وابنته، وبالطبع هي نهاية متوقّعة. أما النهاية الثانية فإنها مرتبطة بقصة سلمى، حيثُ يتركها الضبعان مفتوحة أمام احتمالات العودة بجزء ثان تروي فيه سلمى قصتها، أو بترك تأويل نهايتها للجمهور. تبدو النهاية الأولى كلاسيكية عند مقارنتها مع تأويلنا للنهاية الثانية التي تنتهي بتدمير ما بنته الخطّابة، وهي أيضاً شبيهة بنهاية "كابوس" بانتقال الأسطورة بين الأجيال.

في النهاية، أرى أن تجربة عبد المحسن الضبعان في فيلم "الخطّابة"، وبالمناسبة هو أول فيلم إثارة نفسية من إنتاج شركة تلفاز 11 المشهورة بأعمال الكوميديا؛ إذن، أرى أن تجربة "الخطّابة" تستحق المشاهدة بالرغم من انقسام الجمهور في الرأي على منصات التواصل الاجتماعي، فالعمل يقدم قصة ونمطاً جديداً لم نعتد عليهما في السينما السعودية خصوصاً، والعربية عموماً، فإذا كانت نتفليكس قدمت لنا أعمال إثارة نفسية عربية، فإن القصة اختلفت من ناحية سرد تراثنا الشفوي برؤية معاصرة يتداخل فيها الأسطوري مع مشكلات الحياة الاجتماعية في عالمنا المعاصر، بتقديمه تفسيرات مختلفة لمفهوم الرجولة في منطقتنا العربية وإعادة التفكير في المصطلح.