جديد الوقائع السورية: ثورة الجياع وأشياء أخرى

2020.01.19 | 17:34 دمشق

bdna_nysh.jpg
+A
حجم الخط
-A

انطلقت الاحتجاجات من السويداء وشهبا، وظهرت صفحات فيسبوك تشجع على التظاهر والاحتجاج ضد أوضاع لم تعد قابلة للاحتمال. غلب على الشعارات المرفوعة والدوافع المعلنة الوجع المعيشي الحارق، مع حرص على "عدم التسييس" وعلى التمايز عن ثورة 2011. في هذا الحرص المزدوج تعبير صريح عن الاصطفاف ضد الثورة الأولى الموصوفة بالإرهاب والأسلمة والطائفية والعمالة للخارج، ومع "الدولة" أو "الوطن".

لا نملك معلومات وافية عن دوافع كل شخص أو مجموعة أشخاص شاركوا أو يشاركون في هذه الموجة من الاحتجاجات، فلا يمكننا وصفها بأنها "ثورة الموالين". لكن نوع الشعارات المرفوعة والهتافات التي نسمعها تشير إلى الإطار العام لهذه الاحتجاجات و"برنامجها" المتمثل بـ"تغيير الحكومة" الفاسدة – سبب مآسي الناس. قد يكون بعض المشاركين يمارسون التقية، فهم يعرفون أصل البلاء لكن الخوف يمنعهم من الإشارة إليه، فيستبدلون به أهدافاً يظنون أنها "مقبولة" من النظام، كالحكومة والوزارات وغيرها من مراتب الإدارة البيروقراطية أو طبقة التجار التي تثرى على حساب بؤس الناس وجوعهم.

لكن النظام له رأي آخر. ليس لديه نقد مقبول أو احتجاج مشروع. فالزمن زمن حرب بصرف النظر عن طولها وصعوبة شروطها وعدم ظهور ضوء في نهاية النفق. على "المواطنين" أن يتحملوا، فالوطن، وطنهم، في خطر، وعليهم دعم "القيادة" التي تخوض أشرس حرب وطنية شهدها تاريخ العالم القريب والبعيد، ضد كل شياطين الأرض والسماء من دول امبريالية وصهيونية وتركية وخليجية ومن عملائهم من الإرهابيين المخربين الذين دمروا "الوطن" وقتلوا "المواطنين" بلا أي وازع أخلاقي أو إنساني أو وطني. لا مكان للتذمر أو الشكوى من جوع أو برد أو مرض. فأي تذمر أو احتجاج، حتى لو كان بدوافع بريئة، إنما يخدم – بصورة مباشرة أو مداورة – المؤامرة الكونية على الوطن. فهل ترضى أيها المواطن الوطني أن تخدم، بلا وعي منك، الكيان الصهيوني أو بقية جوقة الأعداء الطامعين بوطنك الغالي؟

طبعاً لن تقبلها على نفسك. لذلك، وفقط لذلك: هدد وزير الداخلية اللواء محمد الرحمون، في لقاء عبر "الفضائية السورية"، بشن حملة مكثفة على الصفحات التي تتحدث عن سعر صرف الليرة في مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف الوزير قائلاً إن بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي "تدار من الخارج" ونحن نقوم برصدها، وسوف تطال العقوبة من يزود تلك الصفحات بمعلومات من الداخل!

نعم، يواصل "الخارج" الشرير التلاعب بمصير الوطن. ولكن لماذا يحتاج هذا الخارج إلى "معلومات" من الداخل؟ وهل هي معلومات صحيحة؟ لماذا هذا الحرص على عدم تسريب معلومات من الداخل إذا كان "الاقتصاد السوري أقوى، الآن، بخمسين مرة عنه في العام 2011" على ما قررت المستشارة بثينة شعبان؟ لأنه لا يجوز لخصوصياتنا "العائلية" أن تسرب إلى خارج البيت، فيشمت بنا الجيران والخصوم والأعداء، ويستخدموننا لغماً ينفجر في وجه "القيادة" فينهار علينا البيت الذي بذلنا الدم الغالي للحفاظ عليه.

ثار جدال على صفحات فيسبوك المعارضة، بين من تحمسوا – بدرجات متفاوتة – لموجة الاحتجاجات الموصوفة بثورة الجياع أو "بدنا نعيش"، باعتبارها عاملاً قد يساعد على التعجيل في انهيار النظام الكيماوي من جهة أولى، وبين مزدرين لهزال مطالب المحتجين وشعاراتهم، وصولاً إلى الشماتة بهم وبأوضاعهم باعتبارهم موالين لم تحركهم المجازر بحق سكان المناطق الثائرة، ثم تحركوا حين دق الجوع أبوابهم، من جهة ثانية.

السنوات التسع المنقضية علمتنا حقائق أخرى هي أن السوريين ليسوا جماعة واحدة

قد لا تفضي موجة الاحتجاجات الراهنة في مناطق سيطرة النظام إلى أي تغيير في موازين القوى. والأرجح أن يقمعها النظام قبل انتشارها أفقياً أو تجذرها برنامجياً. لكنها تبقى مؤشراً مهماً إلى عدم قابلية النظام للتأهيل أو التطبيع. ومن جهة ثانية، من المجحف وصف كل السكان في مناطق سيطرة النظام بالموالين، ومجحف أكثر الشماتة بأوضاعهم الجحيمية التي لم يختاروها. حتى الموالون بصورة صريحة لا تصح الشماتة بهم إذا كانت الأوضاع المعيشية الصعبة تدفعهم قسراً إلى موقع "معارض" في إطار عام موالٍ إذا جاز التعبير. إنه أمر جيد أن يفقد النظام شيئاً من قاعدته الاجتماعية. هذا ولم نشر إلى أولئك الذين يعتبرون الثورة "ثورتهم" يملكون حقاً حصرياً في توزيع شهادات الثورية على الناس. فالسنوات التسع المنقضية علمتنا حقائق أخرى هي أن السوريين ليسوا جماعة واحدة، وأن ثورة كل جماعة فرعية تختلف، بأهدافها وأدواتها، عن ثورات الجماعات الأخرى. مثلاً: هل هناك ما يجمع ثورة الديموقراطيين العلمانيين مع ثورة الإسلاميين؟ وهل هناك ما يجمع ثورتي الإسلاميين والعلمانيين مع "ثورة روجافا"؟ ما المانع، والحال هذه، أن تكون هناك، أيضاً، ثورة للموالين؟

ثمة ثورة جعلت جماعة قسد بيادق في يد الأميركيين، وثورة أخرى جعلت "الجيش الوطني" جيش مرتزقة في يد تركيا، وثورة ثالثة جعلت "الائتلاف الوطني" يدخل تحت المظلة التركية – الروسية.

ليس المقصود من السطور السابقة تمييع مفهوم الثورة وإضاعة معناها ودلالتها، بل وصف لمآلات ثورة تم الإجهاز عليها. من هذا المنظور لا بأس بثورة موالين أيضاً أو ثورة مناطق تحت سيطرة النظام، لا تقل مشروعية عن الثورات الموصوفة فوق، وهي جميعاً، بما في ذلك ثورة "بدنا نعيش" وجوه للثورة المهزومة التي لا يمكن التكهن باحتمال انبعاثها من جديد من عدمه.