"جدار برلين" التاريخ المزيَّف 3

2022.12.29 | 07:16 دمشق

"جدار برلين" التاريخ المزيَّف 3
+A
حجم الخط
-A

"انهار جدار برلين. حقبةٌ كاملة من سيادة النظام الشيوعي قد انتهت الآن. فعلها القائد العظيم غورباتشيف. قائدٌ استشعر وتيرة التطوّر التاريخي، وساعد التاريخ على إيجاد القناة الطبيعية". لم يكن هذا الاقتباس لقائد غربي يعبِّر عن أعلى مستويات الفرح، ونشوة الانتصار بسقوط جدار برلين. للمفارقة، كان هذا ما كتبه أناتولي تشيرنيايف مساعد ومستشار الرئيس السوفييتي غورباتشيف بتاريخ 10 تشرين ثاني/نوفمبر 1989، بعد يوم واحد من سقوط الجدار.

في الجانب الآخر من العالم، لم يكن هناك أي مما يشبه تلك المشاعر لدى السياسيين الغربيين. على العكس تماماً، كان الجميع قلقاً ومتخوفاً من النتائج التي ستترتب على ما حدث. أدرك غورباتشوف وكبار مساعديه، بعد الكثير من المحادثات مع القادة الغربيين، معارضة أولئك القادة لهدم الجدار. قبل يوم واحد من سقوطه، خلال اجتماع المكتب السياسي السوفييتي، توصل الأعضاء إلى ضرورة أن يهدم السوفييت الجدار بأنفسهم. ردَّ غورباتشوف على زملائه بالإيجاب: "نعم، إنهم يريدون منا القيام بعملهم القذر، يريدون منع توحيد ألمانيا لكن بأيدينا نحن".

ستقول تاتشر للزعيم السوفييتي "سيد غورباتشيف، أنا أفهم موقفك من أوروبا الشرقية، ولكن أرجو أن تقبل أنت أيضاً موقفي بشأن ألمانيا. بريطانيا وأوروبا الغربية غير راغبين بتوحيد ألمانيا

في 7 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2009، بعد 20 عاماً من سقوطه، نشر الأرشيف القومي الأميركي وثائق اعتمدَت في جزء منها على مذكرات تشيرنيايف. وفقاً لتلك الوثائق كانت هناك معارضة صريحة لإمكانية توحيد ألمانيا في معظم العواصم، من وارسو إلى واشنطن. وبحسب إحدى تلك الوثائق، فإن مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية، خلال اجتماعها مع غورباتشيف يوم 23 أيلول/سبتمبر 1989، طلبت على نحوٍ غير مألوف، وقف تدوين الملاحظات في محضر الجلسة لحساسية ما ستقوله تالياً. كان ما ستتحدث عنه ينطوي على نوع من المقايضة المخزية التي لم ترغب بتوثيقها. مقايضة تعتبر الحالة النموذجية للتناقض بين نبالة الظاهر، ووضاعة الباطن في السياسة الغربية.

كان الناتو قد أصدر للتوّ بياناً يطالب السوفييت بهدم جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا. لكن في ذلك الاجتماع ستقول تاتشر للزعيم السوفييتي "سيد غورباتشيف، أنا أفهم موقفك من أوروبا الشرقية، ولكن أرجو أن تقبل أنت أيضاً موقفي بشأن ألمانيا. بريطانيا وأوروبا الغربية غير راغبين بتوحيد ألمانيا. قد تبدو لك الكلمات المكتوبة في بيان الناتو مختلفة عما سأقوله، ولكن عليك تجاهل البيان. نحن لا نريد توحيد ألمانيا، وبالطبع، نحن غير مهتمين بزعزعة استقرار أوروبا الشرقية أو حلّ حلف وارسو. يمكنني أن أؤكد لك أن هذا هو أيضاً موقف رئيس الولايات المتحدة".

كان زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، قد أبلغ ألكسندر ياكوفليف عضو المكتب السياسي السوفييتي، ما يتوافق تماماً مع رسالة تاتشر عن موقف الولايات المتحدة: "بصراحة إنني أؤيد بقاء بولندا والمجر في حلف وارسو. لا ينبغي حل الكتلتين الآن. لا أعرف ما الذي سيحدث إذا لم تعد جمهورية ألمانيا الديمقراطية موجودة. ستكون هناك ألمانيا واحدة موحدة وقوية. وهذا لا يتوافق مع مصالحكم أو مصالحنا". في مذكراته يتذكّر تشيرنيايف معترضين آخرين، من بينهم جوقة الأصوات الرسمية الفرنسية، بحسب تعبيره، التي تحدثت طويلاً ضد "ألمانيا واحدة".

يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، زار المستشار الألماني الغربي هيلموت كول القادة الديمقراطيين الجدد في العاصمة البولندية وارسو، حيث سقط الحكم الشيوعي قبل شهور قليلة. للمفاجأة، كما هو وارد في الوثائق، فإن البولنديين بزعامة ليش فاليسا "بطل حركة التضامن" والحائز على جائزة نوبل، لم يكونوا هم أيضاً توّاقين لرؤية المزيد من التغيير في ألمانيا الشرقية. لكن للأمانة، يحسب لفاليسا أنه توقّع ببصيرة ثاقبة سقوط الجدار سريعاً. تساءل الرجل أمام المستشار الألماني "لا أعلم إن كان الجدار سيبقى قائماً خلال الأسبوع أو الأسبوعين القادمين" معرباً عن قلقه من أن "الأحداث في جمهورية ألمانيا الديمقراطية تتطور بسرعة كبيرة جداً". بل إنه اقترح على كول أنه "يجب على المرء أن يحاول إبطاءها".

حاول فاليسا، بقليل من الخبرة، إثارة مخاوف زميله الألماني: "ماذا سيحدث إذا فتحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية حدودها بالكامل وهدمت الجدار؟ هل سيرتِّب ذلك على ألمانيا الاتحادية إعادة بناء ألمانيا الشرقية؟". سيبدي فاليسا مخاوفه من أن ذلك لو حدث، فإن ألمانيا الغربية "ستضطر إلى توجيه اهتمامها نحو جمهورية ألمانيا الديمقراطية كأولوية قصوى"، ولن تعود لمساعدة بولندا الفقيرة على استكمال إصلاحاتها. يعترض كول ويطمئن فاليسا أنه مهما حدث، فإن الإصلاحات في بولندا ستبقى أولوية، مضيفاً بأن "الأحداث في جمهورية ألمانيا الديمقراطية ستظل تحت السيطرة". في غضون ساعات، وصلت أخبار سقوط الجدار إلى المستشار الذي تحدّث بثقة عن السيطرة على التطورات، فغادر سريعاً، عائداً إلى برلين، بعد أن تحققت نبوءة فاليسا، أسرع حتى مما توقع.

نعم، مساء ذاك اليوم هدم البرلينيون الشرقيون الجدار، وأنهوا حالة شاذة تاريخياً لمدينتهم المقسّمة. جدار يبلغ طوله أكثر من 40 كم، بُني من ألواح خرسانية تعلوها الأسلاك الشائكة، وتحرسه القوات الألمانية الشرقية ليل نهار. جدارٌ شطر المدينة لأكثر من ربع قرن. مع ذلك، خلال 28 سنة تلت بناءه، هرب أكثر من 185 ألف ألماني شرقي إلى الغرب، من بينهم 2746 جندياً من حرّاسه.

في مؤتمر صحفي عقده جونتر شابوسكي عضو المكتب السياسي في ألمانيا الشرقية، وعندما سُئل متى ستفتح الحدود بين شرق وغرب البلاد. تحت ضغط الأسئلة أجاب الرجل بطريقة متسرّعة "على الفور". تصريح شابوسكي لمراسلي التلفزيونات الغربية بدا بمثابة إعلان زوال جدار برلين، رغم أن الأمر لم يكن كذلك. لكن الجماهير التي شقت طريقها نحو الجدار، حولّت ذاك الخطأ في التصريح إلى حقيقة، بعد أن تداولته وسائل الإعلام العالمية.

رداً على المطالبات الملحة من الرفاق الشيوعيين في تشيكوسلوفاكيا، لفتح حدود ألمانيا الشرقية، حيث تحوّلت بلدهم في الأيام القليلة الماضية إلى معبر استخدمه عشرات آلاف الألمان الشرقيين للهرب، بعد إزالة الأسلاك الشائكة مع الغرب. اضطر قادة ألمانيا الشرقية لإعداد لوائح جديدة لشروط السفر. لوائح كانت تهدف إلى حدٍّ كبير لامتصاص التوتر. بموجبها، يتعين على المواطنين التقدم بطلبات السفر وانتظار الموافقة لفترات طويلة. الإعلان جاء خلال ذاك المؤتمر الصحفي (الفاشل من وجهة نظر ألمانيا الشرقية). شابوسكي الذي لم يكن يعلم القصة الخلفية للوائح، ولا للتحوطات والقيود التي قصدها واضعوا الوثائق، عندما سئل عن توقيت التغييرات التي ستسمح بالسفر أجاب "على الفور، دون أي تأخير".

البرلينيون الشرقيون باندفاعهم الفوري نحو الجدار، جعلوا المعلومة الخاطئة، والتقارير الإعلامية الخاطئة، تبدو صحيحةً وأمراً واقعاً. بدا الأمر وكأنها نبوءة حقّقت ذاتها حسب وصف وثائق الأرشيف القومي الأميركي. خلال ساعات قليلة كان الناس يقطعون شظايا تذكارية من الجدار الذي هدموه، وكانت العدسات تنقل الحدث للعالم أجمع. آلاف الرجال والنساء يعبرون من الفتحات التي صنعوها، نحو غرب المدينة.

تبدو الحقيقة البسيطة هي أن سقوط جدار برلين، الحدث الذي كان واحداً من أهم روائع التاريخ في نهايات القرن العشرين، هو من صُنع الناس، لكن السياسيين، كعادتهم، حاولوا سرقته

في واشنطن استقبل البيت الأبيض، والرئيس جورج بوش شخصياً، سقوط الجدار بالقلق وحتى بالخوف من عدم الاستقرار، وليس بالفرح أو الشعور بالانتصار لسقوط رمز الحرب الباردة. عندما لاحظ الصحفيون في البيت الأبيض الأمر، سأل أحدهم الرئيس عن سبب عدم إظهاره الابتهاج. لم يجد بوش المرتبك سوى جواباً غائماً: "أنا لست رجلاً عاطفياً".

الاعتزاز الأميركي بهدم الجدار وتوحيد ألمانيا سيأتي بعد حوالي ثلاث سنوات. عام 1992 سيستثمر بوش في ذلك اليوم التاريخي، وكأنّه كان شخصياً واحداً من صُنَّاعه. حدث ذلك خلال الحملة لإعادة انتخابه رئيساً. نجح بوش الأب نسبياً في هذا التسويق، لكنه خسر الانتخابات. قدّم بوش نفسه حينها أباً مزيّفاً لنصرٍ لم يُرِده ولم يدفع ثمنه. من دفع الثمن هم المواطنون البرلينيون العاديون. ختاماً ووسط كل ذاك النفاق السياسي، تبدو الحقيقة البسيطة هي أن سقوط جدار برلين، الحدث الذي كان واحداً من أهم روائع التاريخ في نهايات القرن العشرين، هو من صُنع الناس، لكن السياسيين، كعادتهم، حاولوا سرقته.