ثورة الهلال المعكوس والفرصة السورية

2019.11.20 | 15:39 دمشق

2019-11-19t082958z_799679155_rc28ed9ck0bq_rtrmadp_3_lebanon-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

تصف إيران وحلفاؤها، ما تشهده ساحات العراق، ولبنان والداخل الإيراني من انتفاضات وتظاهرات، بأنها مؤامرات أميركية للنيل من وحدة وسيادة هذه البلدان، التي أعلنت إيران نفسها قبل سنوات سقوطها تحت سيطرتها في "انتصاراتها" المتوالية على المحور الأميركي الإسرائيلي.

إيران نفسها هذه هي التي أعلنت اكتمال مقومات الهلال الشيعي أو الهلال الإيراني بعيد دخولها إلى سوريا وتمزيقها، وكتم أصوات المعارضين فيها وتهجير أهلها. ولم يكن للدخول الإيراني إلى سوريا وإحكام السيطرة بتمزيق المجتمع ليتحقق، من دون غطاء أميركي ودولي، كما لم يكن بإمكان طهران إحكام السيطرة على لبنان بدون غضّ نظر دولي وحسابات أميركية، منذ القرار 1559 وما بعده من انتفاضة للشعب اللبناني أخرجت الجيش السوري من لبنان.

كل حركات التحرر في العراق ولبنان وسوريا وحتى إيران، نواتها عنصر الشباب، وهي عبارة عن أمواج ستمتد طويلا لتلمس طريقاً للخروج من أوضاع هذه البلدان المهترئة

حسابات اللبنانيين في تلك الفترة كانت تطالب بالسيادة واستعادة القرار المستقل وإحياء الديمقراطية التي ينشدها الشباب، بينما حسابات الدول كانت مختلفة، فتسلّمت إيران بحكم الأمر الواقع السياسي زمام السلطة في لبنان إلى أن أحكمت عليها نهائياً في العام 2016، وهذا كله نتاج السياسة الأميركية، تماماً كما حصل في العراق بعيد اجتياحه فدخلت إيران وحلفاؤها على ظهور الدبابات الأميركية. سيطرت إيران على هذه الدولة ومقدراتها وقراراتها السياسية بغض نظر أميركي أصبح مشهوداً. وصدّرت ولاية الفقيه ثورتها، باستخدام الإيديولوجيا والدم بدلاً من تصدير الأفكار التحررية التي كانت تدّعيها.

لكن ما جرى مؤخراً في لبنان والعراق، وامتداده إلى إيران، هو معادلة بسيطة لانتفاض الناس على خانقيها وكابتي أنفاسها الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والسياسية. إنه انتقام أبناء الهلال من الهلال نفسه الذي أريد فرضه بالقوة. وبالتالي فإن الثورة اليوم معكوسة، وتضع اللبنات الأولى لمرحلة جديدة من التطور بلا شك ستحتاج إلى أمد طويل من النضال والكفاح.

كل حركات التحرر في العراق ولبنان وسوريا وحتى إيران، نواتها عنصر الشباب، وهي عبارة عن أمواج ستمتد طويلا لتلمس طريقاً للخروج من أوضاع هذه البلدان المهترئة والمشرذمة على أسس طائفية ومذهبية لا تغني ولا تسمن، وحوّلت الجماعات إلى أسرى عصابات. هذه العصابات التي ثار عليها الإيرانيون منذ العام 2009، ولا تزال ثوراتهم تتجدد وتتخذ أشكالاً وأطواراً جديدة. وأي رهان في التغيير الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط سيكون منبعه التغيير في الداخل الإيراني، خصوصاً أن منطق تصدير الثورة إلى دول الهلال، بدأ بعيد انتصار الثورة الإسلامية وهو الذي أسس للفرز المذهبي والعصبي والطائفي في هذه المنطقة، وهو الذي أنتج التطرف لإحراق الشبان وإغراقهم في بحور من الجهل والدماء.

يصح وصف ما يجري في إيران، العراق، ولبنان، بثورة الهلال المعكوس، على الرغم من أن مسارات كل بلد تختلف عن الآخر، ولكل دولة لها أوضاعها الخاصة. فالجيل العراقي الثائر تصح هو جيل ما بعد صدام حسين الذي لا يعرف المعاناة مع الديكتاتوريات، بل هؤلاء الشبان نشؤوا على النموذج الذي يثورون عليه، وهو جيل منفتح على العالم بأسره. واللافت في العراق هو أن الثورة تحصل في المناطق الشيعية، هذا الجيل "الشيعي" الذي تكون وعيه ما بعد صدام والذي عاش على استلام الشيعة لمقاليد الحكم، لديه طموحات أبعد مما تقدّم له، فوجد نفسه في حالة متناقضة مع ما تربى عليه من شعارات مناهضة لممارسات صدام، بينما من كانوا يعبّئونه يمارسون الأسوأ وهذا ما دفعه إلى الانفجار. في المقابل، فإن السنّة يبدون خارجين عن مروحة التحركات، يعيشون في دمار وتهميش، وقد حرموا من الاستفادة من الريوع النفطية وغيرها، فمنهم من سحق ومنهم من التحق بداعش والتطرف. لا ينبه  العراقيون السلطات فقط للالتفات إلى مطالبهم، بل إلى الحذر لمنعها من الاستمرار في عمليات الاحتيال على الناس.

أما في لبنان، فإن موجة الانتفاضة كانت ضخمة وجديدة، تمكنت من فكفكة دوغمائية السلطة مع جمهورها، وتحقيق فصل ولو بسيط بين الجماهير وزعاماتها. طبعاً ذلك غير كافٍ حالياً، لأن الزعامات تتمتع بأرصدة غير بسيطة، نظراً لتركيبة السلطة في لبنان التي لا تخرج من منطق الانتظام في ولاءات وزعامات مناطقية وطائفية. إلا أن هذه الزعامات غير قادرة على تقديم متطلبات الجمهور لا لجهة فرص العمل أو الآمال المستقبلية، ولا استخدام الدولة لتحقيق ذلك لأنها استنزفت. وحتى الآن لم يطلب المنتفضون الحقيقيون أي مشاركة بالسلطة، لأنه بمجرد الإعلان عن ذلك حالياً، باتخاذ التجربة السودانية نموذجاً، فسيحصل الفرز الطائفي والمذهبي مجدداً وتدخل الحسابات والولاءات والانتماءات إلى عوامل الصراع، وستؤدي إلى خسارة المنتفضين لوحدتهم. حتى الآن من الأفضل أن تبقى كل هذه الحسابات مؤجلة ومتروكة جانباً.

بلا شك إن حدود الانتفاضات لن تقف عند الحدود الجغرافية لهذه البلدان، وهي بالتأكيد ستعود لتجد بذورها تنمو في سوريا، وإن تأخر ذلك

 تحصل هذه الموجات من التحركات والانتفاضات في ظلال ضعف دولي عن التأثير اجتماعياً وبشرياً بها، أو التماهي معها، لأن الأوروبيين ينشغلون بحساباتهم الداخلية، ولدى الأميركيين حسابات مناقضة تماماً لخيارات الشعوب وفقاً للبراغماتية المعروفة وللحسابات السياسية بين الدول. وهذا يعود إلى حجم الانحدار في المنظومة السياسية الدولية، بعد استنفاد قدراتهم وتأثيراتهم على الناس والتدخل وفق ما يتلاءم مع حساباتها. وحتى لو اقتضت الحسابات الدولية دعم هذه التحركات في بعض الدول، فإن المنتفضين هم من يرفضون هذا الدعم، انتقاماً لأنفسهم أولاً، وثانياً لأنه يتسمّر أمام عيونهم وأنظارهم التجربة السورية التي سحق شبابها بسبب حسابات الدول، وهو الأساس في مبدأ انتقام المجتمعات لما شهده المجتمع السوري والإنسان السوري.

بلا شك إن حدود الانتفاضات لن تقف عند الحدود الجغرافية لهذه البلدان، وهي بالتأكيد ستعود لتجد بذورها تنمو في سوريا، وإن تأخر ذلك، لكن بالتأكيد انعدام دورة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والذي يمنع من تشكيل أي قوى اجتماعية وسياسية لإعادة صوغ مطالبها، بعد الدمار الذي أصابها، لكن الزمن لا يتوقف، وهذا ما يعرفه السوريون وسيبلورونه. خاصة أن الجيل السوري الذي انتفض سيستفيق بعد محاولات تدميره.

مجمل هذه الحركات المنتفضة التي يشهدها العراق ولبنان وحتى إيران، تمثّل انتقاماً للشعب السوري الذي تم تهجيره وسحقه وتدميره، والذي يقف حالياً عاجزاً عن إنتاج احتجاج جديد، خاصة أن نفس وجهة احتجاجات هذه البلدان تشبه إلى حدّ بعيد وجهة احتجاج الشباب السوري الذي دُمر على طاولة حسابات الدول. الخلاصة، إن الاجتماع البشري قادر بالرهان على الوعي والوقت، الثورة لنفسه ضد المنظومات التي تستحكم به أو تستثمره في حسابات بعيدة عن اهتماماته وتطلعاته.

كلمات مفتاحية