icon
التغطية الحية

توظيف الأدب في التعبئة السياسية.. عن حقيقة "مزرعة الحيوان" وخلفية جورج أورويل

2021.10.21 | 17:46 دمشق

jwrj_awrwyl_mzrt_alhywan-_tlfzywn_swrya.png
عليوي الذرعي
+A
حجم الخط
-A

تبدأ رواية "مزرعة الحيوان" الشهيرة للروائي البريطاني جورج أورويل، باجتماع الحيوانات حول الخنزير الحكيم Old Major (الخنزير ​​المسن) حيث يروي لهم تفاصيل حلم رآه في نومه، فحواه أن جميع الحيوانات تعيش بنعيم ورفاهية من دون حكم البشر .

يموت الحكيم الخنزير المسن بعد أن قص رؤياه على الحيوانات لكن الخنازير بدأت تعمل على خلق رؤية فلسفية لذلك الحلم وبدأت الحيونات تردد الأغنية الثورية التي علمهم إياها .

أمعن السيد جونز (إنسان) صاحب المزرعة كعادته، باستغلال الحيوانات لتحقيق أعلى معدل من الفائدة له إلا أن الحيوانات المشبعة بروح الثورة والمُحصنة برؤية فلسفية ثارت عليه وطردته من المزرعة، وتحولت مزرعة مانور التي يحكمها السيد جونز إلى مزرعة حيوان، تُحكمها الحيوانات نفسها بنفسها .

ثلاثة خنازير بدأت تلعب أدواراً رئيسية في "مزرعة الحيوان": الخنزير نابليون الذي لا يملك مهارات قيادية، والخنزير سنوبول صاحب الخطط العبقرية الذي يمتلك كاريزما قيادية تجعل خططة مقبولة من قبل الحيونات، والخنزير سكويلر الذي يمتلك قدرة على الإقناع وبث الإشاعات ويتفنن بخلق مغالطات منظقية مقنعة للحيونات.

في هذه الأثناء ولدت جِرَاء صغيرة، أخذها الخنزير نابليون ليربيها بعيدا عن الأبوين والمزرعة.

وضعت الوصايا الخاصة بالمزرعة، وهي 7 وصايا تمثل الدستور، ومن بينها: "كل من يمشي على قدمين فهو عدو، لا يحق للحيوانات أن تلبس الثياب أو تنام على الأَسِرَّة أو تشرب الخمر ، لا يحق للحيوان استعباد أو قتل حيوان آخر، وجميع الحيوانات متساوية".

حاول السيد جونز استعادة مزرعته لكنه فشل بذلك حيث أظهر الخنزير سنوبول شجاعة كبيرة واستطاع قيادة الحيوانات لصّد الهجوم بنجاح كبير.

الخنزير نابليون والخنزير سنوبول كانت بينهما خلافات كثيرة لعل محورها الرئيسي هو التنافس على القيادة. وكان الخنزير سنوبول ينجح دائما باستمالة آراء الحيوانات كونه الأكثر قدرة على وضع الخطط وتنفيذها وتحقيق مصالح الحيوانات. 

تفاقم الخلاف حول بناء الطاحونة

عندما بدأ الخنزير سنوبول شرح خطتة لبناء طاحونة واستعراض فوائدها بالرفاة والراحة للحيوانات، بدا كلامه مقنعاً للغالبية.

لم يحاول الخنزير نابليون مناقشة خطة الخنزير سنوبول التي يرفضها، بل بدَأ خطابه بالصراخ لتقتحم الحديقة تسعة كلاب هاجمت الخنزير سنوبول الذي استطاع الفرار خارج المزرعة بأعجوبة.

أعلن الخنزير نابليون أنه سيأخذ على عاتقه إدارة أمور المزرعة حيث تعهد أن القرارات المصيرية سيتولاها بنفسه لرفع عبء المسؤولية عن كاهل الحيوانات للتفرغ لأعمالها اليومية .

من بواكير القرارات التي اتخذها نابليون هو بناء الطاحونة، مُعللاً هذا القرار أنه لم يكن معارضاً لخطة بناء الطاحونة، بل إنه كان يعارض الخنزير سنوبول الذي "ثبتت عمالتهُ للسيد جونز ومساعدته له لاستعادة المزرعة".

الخنازير بدأت تبتعد عن الحيوانات وتحصل على كميات أكبر من الطعام، وبدأ مستوى المعيشة بالانخفاض للطبقات التي لا تنتمي إلى الطبقة الحاكمة المتمثلة بالساسة والعسكر (خنازير وكلاب).

بدأ الخنزير سكويلر بإدارة الأجهزة الإعلامية وبدأ يتلاعب بالتاريخ مستخدماً الخداع والإقناع وتشويه الحقائق. فعلى الرغم من شح الطعام لدى الحيوانات كانت أجهزته الإعلامية تروج أرقاماً مهولة لتضاعف كميات الإنتاج وتوفير كميات أكبر من الطعام.

كما أن معركة السيد جونز التي حاول من خلالها استعادة المزرعة وتصدت له المزرعة بقيادة الخنزير سنوبول؛ أخذت سردية مختلفة عن السردية الأولى. وفحوى السردية الجديدة أن سبب المعركة كان خيانة الخنزير سنوبول لمبادئ مزرعة الحيوان واتفاقة مع السيد جونز لاستعادة المزرعة.

الحيوانات كانت تلاحظ أن مبادئ مزرعة الحيوان بدأت تتغير كتطبيق عملي في المزرعة لكن عندما تراجع المبادئ على جدار الحضيرة تفاجأ أن الوصية التي تبحث عنها مطابقة للممارسة الفعلية، وأنها بالفعل تغيرت لكنها لا تتذكر الوصية الأصلية!

وعندما حاولت الحيوانات الثورة من جديد، طُرح السؤال: "هل تريدون للسيد جونز أن يعود للسيطرة على المزرعة؟". وبالطبع كان جواب أغلبية الحيونات: لا.

من هذا السؤال المفصلي بتاريخ مزرعة الحيوان حيث لا يمكن لأي حيوان أن يجيب بـ نعم لأنه بذلك يكون خائناً لمبادئ مزرعة الحيوان وعميلاً للسيد جونز، تبدأ الأجهزة الإعلامية بترويج فكرة أن الأمر بجوهره أفضل من السابق، فالحيوانات اليوم تحكم نفسها بنفسها ولا يحكمها البشر كما في السابق.

من خلال العمليات التجارية المرافقة لبناء الطاحونة مع المزارع المجاورة تحدث خلافات كثيرة وصلت إلى أن السيد فرِِدرِك مالك مزرعة بنشفيلد (Pinchfield) حاول الاستيلاء على مزرعة الحيوان لكنه لم ينجح.

تسوء الأوضاع أكثر فأكثر، وفي نهاية الرواية نلاحظ أن الخنازير بدأت تسير على قدمين وتلبس الثياب وتجتمع مع البشر على طاولة واحدة يشربون الكحول، حيث نجد صعوبة كبيرة للتمييز بين البشر والخنازير، وبذلك تكون الثورة انتهت بشكل كامل.

وبالعودة للوصايا، سنجد أنها تبدلت كلياً فالوصية التي تقول لا يجوز قتل حيوان لحيوان آخر أصبحت: لا يجوز قتل حيوان لحيوان آخر من دون سبب.

أما الوصية التي تنهى عن شرب الكحول، أصبحت تنهى عن "الإفراط في شرب الكحول"، بينما الوصية التي تقول إن الحيوانات متساوية تحورت إلى أن بعض تلك الحيوانات المتساوية "أكثر مساواة من بعضها الآخر".

بتحوير الوصايا -كناية عن تزوير الدستور والعقد الاجتماعي التي قامت علية "مزرعة الحيوان"- وجلوس الخنازير مع البشر على مائدة واحدة يحتسون الخمر، تكون الثورة انتهت نهائياً ولم يعد هناك شيء يذكر منها. حتى الاسم عاد إلى ما كان عليه، فمزرعة الحيوان عادت لتكون بذات المسمى القديم الذي كانت علية (مزرعة مانور).

مزرعة الحيوانات في القراءات الموجهة

أغلب القراءات تناولت الرواية على أنها نموذج تفصيلي وحتمي عن الخط الزمني لمسيرة الثورات. وبذلك، ووفقاً لهذه القراءات تعتبر الثورات حالة مؤقتة وغالباً ما تعود الأمور كما كانت عليه بمرور الزمن. كما ضيّقت قراءات أخرى معاني الرواية وحجّمتها بعد أن اعتبرتها سيرة ذاتية للثورة الروسية وصعود ستالين!

إذا أردنا محاكمة طرفي تلك القراءات عن طريق الإسقاط على أمثلة من تاريخ الثورات، سنجد أنها صحيحة بغالبية الحالات خصوصاً في الفترات الأولى من عمر الثورات، قراءات صحيحة لكنها جزئية ولا تقدم رؤية متكاملة للرواية. ويمكننا أن نقول إنها قراءات موجهة تركز على أحداث معينة في الرواية وتهمل أحداث رئيسية أخرى.

وإذا أردنا الدمج بين طرفي القراءات، فستكون النتيجة المشتركة بينهما تتمثّل في أن: الرواية صالحة لكل زمان ومكان ويمكن إسقاطها على جميع الثورات. وهذا ما جعل الرواية تحتل مكانة مرموقة في الأدب، فقد اختيرت من قبل مجلة (تايم) الأميركية كواحدة من أفضل مئة رواية بالإنجليزية (منذ 1923 حتى سنة إصدارها، 2005)؛ و جاء ترتيبها 31 في قائمة أفضل روايات القرن العشرين التي أعدتها دار نشر: Moden Library؛ كما فازت عام 1996 بجائزة (هوغو) بأثر رجعي.

هذه القراءات تركز على أحداث محددة وتغفل أحداثاً أخرى فهي تركز على تحوير الوصايا، وعلى الأسس التي انطلقت منها المزرعة وكيفية تشكل الطبقات الحاكمة المتمثلة بالساسة والعسكر (خنازير وكلاب)، وكذلك تركز على دور أنظمة الحكم في تشويه التاريخ وخلق سرديات أخرى منافية للحقيقة وتحتل مكانتها بذاكرة الشعوب، وذلك تجلى بوضوح عندما أصبح سنوبول خائنا يساعد السيد جونز لغزو المزرعة. كما ركزت تلك القراءات على رسم السياسات وتنفيذها عبر تبني سرديات تخدمها وفرضها بالترغيب والترهيب.

لكن هناك أحداث تغفلها هذه القراءات مثل الأحداث التي تناقش النظم السياسية التي تتشكل بعد انطلاق شرارة الثورة الأولى وكيفية نشوئها وتعقيدات الظواهر المرافقة لها وأحداث تتعلق بعلاقات هذه الأنظمة الحديثة مع الأنظمة المجاورة والعديد من الأحداث الأخرى.

جوانب جديدة في الرواية.. "مزرعة الحيوان" بنظرة أوسع

سنسلّط الضوء الآن على جوانب أخرى من الرواية تتكامل مع القراءات السالفة ولا تتناقض معها، لكنها ترسم صورة أكثر شمولية. وسنتطرق أيضاً إلى الظروف السياسية التي ساهمت بالانتشار الكبير للرواية. ولن ننسى الإسهاب في الحديث عن شخصية المؤلف وتداخلاتها السياسية التي سنرى بأنها لعبت دوراً كبيراً في انتشار الرواية من جهة ومحدودية القراءات من جهة أخرى.

مشكلة القراءات الجزئية التي مررنا عليها، تكمن في تركيزها على أحداث محددة وتهمل بقية الأحداث. وسنحاول هنا أن نستعرض حدثين رئيسين نظنّ أن تلك القراءات تجاهلتها:

الحدث الأول: أن المزرعة تعرضت لمحاولتين بهدف إسقاط نظام الحكم، الأولى كانت عبر محاولة السيد جونز استرداد مزرعته، وهو حدث مهم يهمل عادة على الرغم من علاقته المباشرة بسردية نظام السيد نابليون بعد استيلائه على السلطة والتخلص من الخنزير سنوبول.

الحدث الثاني: محاولة السيد فرِدرك مالك مزرعة بنشفيلد (Pinchfield) الاستيلاء على مزرعة الحيوان أثناء حكم نابليون، حيث حصل خلاف تجاري حول بيع كمية من الأخشاب مقابل نقود تبين أنها مزورة.

كلا الحدثين يعبران عن تهديد حقيقي لنظام مزرعة الحيوان، الأول كان بأوج الثورة وفي ظل نظام ديمقراطي والثاني كان في ظل نظام الخنزير نابليون الشمولي.

من خلال هذين الحدثين؛ هل يمكننا أن نفهم نظام الحكم في مزرعة الحيوان خلال الحقب المختلفة؟

في الحقيقة لا يمكننا فهم طبيعة نظام مزرعة الحيوان بمعزل عن معرفة طبيعة نظام مزرعة مانور (تحت سلطة السيد جونز) وفهم طبيعة العلاقة المتشابكة بين نظام مزرعة الحيوان (باختلاف أنظمة الحكم) وبين المزارع المجاورة والتي يحكمها بشر ولم تتجرأ الحيونات فيها بالثورة على هؤلاء البشر.

نظام الحكم بمزرعة الحيوان بعد الثورة على السيد جونز وقبل سيطرة الخنزير نابليون على السلطة المطلقة كان نظام حكم ديمقراطي بينما نظام حكم السيد جونز ونظام حكم الخنزير نابليون وأنظمة الحكم في المزارع المجاورة هي أنظمة حكم شمولية.

لذلك من الطبيعي أن تحاول الأنظمة الشمولية مساندة بعضها البعض لأن لها مصالح مشتركة وأي خطر يهدد أحداها يمكن أن يطيح بالبقية.

حصول الحيوانات في إحدى المزارع على مقاليد الحكم وتحقيقها مصلحة الحيوانات بالرفاهية والراحة سيجعل من حيونات بقية المزارع تثور هي الأخرى، ومن هنا جاءت فكرة تصدير الثورة التي نادت بها الحيونات.

فكرة تصدير الثورة جعل الأنظمة المجاورة تحاول القضاء على نظام الحكم الديمقراطي في المزرعة الثائرة، وعندما فشل السيد جونز باستعادة مزرعته، كان لا بد من تفشيل نظام الحكم الجديد بحيث لا يحقق للحيوانات أي فائدة مرجوة.

من الطبيعي أن يحاول السيد جونز استعادة مزرعته ومن الطبيعي أيضا أن تساعده المزارع المجاورة المشابهة لنظام حكمه الشمولي، فليس من مصلحته أن تثور الحيوانات في مزرعة مجاورة وتستولي على الحكم.

لكن، وبعد فشل محاولة السيد جونز، كان لا بد من التعامل مع الأمر الواقع وهو تحقيق أقل مستوى ممكن من المصالح المشتركة. وهذا ما حصل بعد سيطرة الخنزير نابليون على السلطة و البدء ببناء الطاحونة.

إلا أن نظام حكم نابليون لم يكن يملك الخبرة الكافية للتعامل مع الأنظمة الأخرى، كما أن الحيوانات لا تزال متأججة بروح الثورة ومبادئها. وشيئاً فشيئاً بدأت تجربة نابليون -الشمولية- بالنضوج، لذلك كان على الأنظمة الشمولية المجاورة اتباع سياسة تقليم الأضافر بين الفينة والأخرى نتيجة لتعارض المصالح هنا وهناك، وهذا ما جعل محاولة الاستيلاء على المزرعة من قبل السيد فرِدرك مالك مزرعة بنشفيلد (Pinchfield) أن تتم.

يركز جورج أورويل على أن تعاملات نابليون التجارية مع المزارع المجاورة يتناقض مع الأسس التي قامت عليها ثورة الحيوان (كل البشر أعداء)، لكن بالوقت نفسه يشير إلى أن هذه التعاملات تحقق مصالح مشتركة بينهم، وهو بذلك ينتقد بشكل مبطن بعض مبادئ ثورة الحيوان التي اكتسبت زخماً كبيراً في أذهان الشعوب الثائرة، لكنها لا تمتلك قابلية للتطبيق العملي خلال الفترات اللاحقة.

في المشهد الأخير يقول السيد (بِلكِنغتُن) وهو يحتفل مع خنازير مزرعة الحيوان أنه سعيد بانتهاء حقبة انْعِدام الثقة وسوء الفهم بينهم وبين مزرعة الحيوان، وأنه مع البشر الآخرين كانوا متخوفين من وجود مزرعة يحكمها الحيوان، ولكنهم في النهاية اكتشفوا عدم وجود خلاف حقيقي بينهم، وأن المشكلات نفسها التي يعاني منها نظام نابليون هم يعانون منها أيضاً.

بدوره، عبَّر نابليون عن وجود أمنية وحيدة له، هي العيش بسلام مع المزارع المجاورة وأن تتم المعاملات التجارية بيسر وسهولة لتحقيق المصالح المشتركة. أي أن جوهر نظام نابليون والأنظمة المحيطة به هو تحقيق المصالح المشتركة، وهذه المصالح هي من تعيد صياغة الحياة الداخلية والخارجية لجميع المزارع بما فيها مزرعة الحيوان.

موت جورج أورويل في جميع قراءات الرواية

في مدارس النقد الأدبي غالباً ما يُعتمد على سيرة المؤلف لمعرفة المعنى المراد من النص لذلك نجد أن سيرة المؤلف ترفق بإنتاجه.

إلا أن هناك رأياً آخر للناقد الفرنسي (رولان بارت) صاحب فكرة موت المؤلف ذائعة الصيت، حيث يعتقد رولان أن النص مستقل بحد ذاته عن المؤلف.

لا نجد حديثاً عن أن جورج أورويل كان يعمل بشكل فاعل في وكالة المعلومات الأميركية وقسم البحث المعلوماتي البريطاني، أي أنه كان يكتب التقارير الأمنية!

فكرة موت المؤلف فكرة حديثة مقارنة بمزرعة الحيوان حيث نشر مقال رولان بارت 1967 بينما نشرت مزرعة الحيوان عام 1945، رغم ذلك يبدو أن فكرة موت المؤلف حاضرة في قراءات الرواية لكن بطريقة مشوهة، فغالباً ما تتطرق الدراسات النقدية أو قراءات الرواية لسيرة المؤلف بطريقة انتقائية، فنجد مثلاً عند تناول السيرة الذاتية لجورج أورويل حديثاً عن الانعطافات الإيديولوجية والاجتماعية في حياته وعن ميلاده في الهند بسبب عمل والده هناك، ونجد أيضا أن اسمه الحقيقي "إيريك آرثر بلير" (Eric Arthur Blair) والعديد من محطات حياته المهمة، ولكن لا نجد حديثاً عن أن جورج أورويل كان يعمل بشكل فاعل في وكالة المعلومات الأميركية وقسم البحث المعلوماتي البريطاني.. أي أنه كان يكتب التقارير الأمنية! (بالمصطلح السوري المتعارف عليه).

وكان لأورويل دفتر أزرق (لا يزال موجوداً في أرشيفه) يدون فيه أسماء من يعتقد أنهم متعاطفون مع الشيوعية ويشكلون خطرا ًعلى تجانس الثقافة الغربية!

دوّن أورويل أسماء أولئك الذين اشتبه في أنهم منتمون إلى الحزب الشيوعي، أو تعاطفوا مع فكرة الشيوعية. فمثلاً كتب عن الشاعر ستيفن سبيندر Stephen Spenderبإنه "متعاطف مع الشيوعية ويمكن التأثير عليه بسهولة لذلك لا يعتمد عليه".

وكتب عن المؤرخ A. J. P. Taylor بأنه مناهض لأميركا, وعن المؤرخ إسحاق دويتشIsaac Deutcher  بأنه "يهودي بولندي"، وعن الكاتب المسرحي جورج برنارد شو George Bernard Shaw "مفرط في روسيته".

والقائمة تطول، حيث ضمت 135 من الشخصيات المتهمة بالتعاطف مع الشيوعية أو الانتماء إلى أحزابها إلى غير ذلك من الادعائات. كما تعددت الأوصاف الشوفينية لدى أورويل، من بينها: زنجي أميركي مناهض للبيض ويهودي سخيف معاد لأميركا، والعديد من الأوصاف التي لا يمكن أن يطلقها أديب رفيع بحجم أورويل على زملائه، لكنه أطلقها ودونها في دفتره الأزرق الذي غالباً ما يتم تجاهل وجوده عند كتاب السيرة الذاتية لأورويل.

يمكننا أن نجد تلميحات بسيطة عن القائمة وذلك الدفتر، فمثلاً كتب برنارد كريك Bernard Crick: "أورويل كان قلقاً من تسلل الشيوعيين واحتفظ بأسماء المشتبه بهم بدفتر".

بينما كتب Michael Shelden: "أورويل كان يدون في دفتر ملاحظاته من هو الصادق ومن هو غير الصادق لإرضاء فضوله بالمقام الأول.

 لكن الأسماء كانت ترفع للجهات المختصة (وكالة المعلومات الأميركية وقسم البحث المعلوماتي البريطاتي) لمراقبتهم واتخاذ الإجراءات الرادعة لهم".

وقائمة أسماء الأدباء والساسة الذين رفع أسماءهم أورويل طويلة وذكرنا بعضها للاستدلال وتوضيح الفكرة، وبالإمكان مراجعة ورقة بحثية للكاتب أندرو روبين بعنوان (أورويل والإمبراطورية: مناهضة الشيوعية وعولمة الأدب)[i] للاطلاع على بقية الأسماء والتفاصيل.

وفيما يخص روايتنا "مزرعة الحيوان"، يورد روبين نقطتين هامتين: 

النقطة الأولى: كان جورج أورويل يقوم بتصفية حسابات شخصية عن طريق كتابة التقارير بزملائه، وكمثال على هؤلاء: بيتر صموئيل Peter Smollet السياسي البريطاني الذي مارس ضغطاً على دور النشر لرفض نشر الرواية (كان يعمل في وزارة المعلومات) بحكم أن العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وبريطانيا كانت جيدة آنذاك, نجد أن أورويل وصفه بإنه عميل للاتحاد السوفياتي.

ومارتن كنغسلي Martin Kingsley رئيس تحرير مجلة The New Statesman وصفه أورويل بإنه "ليبرالي متعفن"، وكان في وقت سابق قد رفض نشر مقال له.

من الطبيعي أن تترافق التقارير الكيدية مع مزاعم كبيرة كالحرص على تجانس الثقافة البريطانية أو الأميركية أو الألمانية حسب وجه التقرير وجنسية الأديب.

النقطة الثانية التي أوردها روبين: الحكومات الغربية سهلت أعمال النشر والترجمة والتوزيع للأعمال الأدبية واستخدمتها كسلاح لمحاربة الخطر الشيوعي الذي أصبح يهدد الحكومات الغربية بعد تنامي المخاوف من نشوء حركات مقاومة ضد المصالح الغربية.

لم يتوقف الأمر على ذلك بل إن وكالة المخابرات المركزية الأميركية أطلقت مناطيد من ألمانيا الغربية تحمل نسخاً من الرواية لتسقطها في بولندا وتشيكوسلوفاكيا, كما مَوّلت أفلام للرسوم المتحركة تحاكي شخصيات الرواية. (ومن الأخبار المتداولة مؤخراً أن شبكة Netflix بصدد إعادة إنتاج مزرعة الحيوان كفيلم).

من خلال هاتين النقطتين يتبين لنا أن "مزرعة الحيوان" إحدى أدوات التعبئة ضد الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. ويذكر روبين أن ترجمة الرواية إلى العربية (ترجمة عباس حافظ) كانت بتسهيل من وكالة المعلومات الأميركية وقسم البحث المعلوماتي البريطاني!.

   خلاصة 

هناك مقولات رئيسة قالتها الرواية وهناك مقولات قالتها وتقولها سيرة المؤلف، وبين مقولات الرواية وسيرة المؤلف نستطيع تفسير هذا الانتشار الكبير للرواية وهذه القراءات الجزئية الموجهة:

  • فالرواية تقول بأن شكل النظام مرتبط بشكل الأنظمة المجاورة له، وكذلك تركز الرواية أن نقدها للنظام الشمولي الذي أنشأهُ الخنزير نابليون لا ينفصل عن نقدها للنظام راسمالي الذي تحول إليه نظام نابليون في نهاية الرواية.
  • تتجاهل معظم القراءات خلفية أورويل السياسية.
  • وظفت مزرعة الحيوان لتنميط الثورات ووضعها في قوالب ثابتة وهذا ما نلاحظه بوضوح من خلال التعاطي الدولي مع الثورات المضادة لثورات "الربيع العربي".
  •  مزرعة الحيوان أداة من أدوات التعبئة السياسية ضد الشيوعية وأورويل نفسه يعمل مع وكالة المعلومات الأميركية وقسم البحث المعلوماتي البريطاني لتحقيق هذا الغرض.
  • تعاون أورويل وتوظيفه للسلطة غير مبني على قيم حضارية إنما هناك تصفية حسابات شخصية لمنافسين له وصلت لمرحلة التسبب بالضرر بشكل مباشر.
  • يدرك أورويل توظيفات مزرعة الحيوان السياسية ويتابع الترجمات ويعلق على قراءات الرواية أحياناً, وكأنه يحاول ضبط القراءات وفق رؤية محددة تخدم أهداف معينة.
  • يرجَّح أن تكون قراءات مزرعة الحيوان باللغات المختلفة، تتم بشكل موجه. وهذا الترجيح يحتاج إلى دراسة موسعة.

 


i Rubin, A. N., & روبين, أ. (2008). Orwell and Empire: Anti-Communism and the Globalization of Literature / أورويل والٳمبراطورية: مناهضة الشيوعية وعولمة الأدب. Alif: Journal of Comparative Poetics, 28, 75–101. http://www.jstor.org/stable/27929796