icon
التغطية الحية

تهريبها والاتجار بها ازداد.. ناصبو الأفخاخ السوريين يتعقبون الصقور إلى مواطنها

2023.08.14 | 17:15 دمشق

صقر جرى إنقاذه في الأردن ويقيم اليوم في أحد مراكز تأهيل الطيور
صقر جرى إنقاذه في الأردن ويقيم اليوم في أحد مراكز تأهيل الطيور
Mongabay - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

وسط عتمة غرفة صغيرة خالية من النوافذ، قبعت ستة صقور على كرسي خشبي واطئ، بعدما غطى أحدهم عيونها بعصابات جلدية. افترش من يقدم الرعاية لتلك المخلوقات الأرضية الرملية للغرفة ثم أزال العصابة عن بعض تلك الطيور، فأخذت ترفرف بأجنحتها والحذر الشديد باد عليها، بعدما تحولت فكرة الطيران بحرية لدى معظمها إلى ذكرى قديمة.

أنقذت السلطات الأردنية معظم تلك الصقور من مهربين وبعدها وضعتها تحت رعاية الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، وهي أهم منظمة غير حكومية لحماية الطبيعة في الأردن، إذ تدير مركزاً لإعادة تأهيل الطيور الجارحة في البادية، وتراقب عن كثب كل ما يدخل إلى المركز من أحياء.

وحول ذلك يخبرنا نشأت حميدان وهو أحد دعاة الحفاظ على البيئة ممن يعمل في هذا المركز، ساهم بتأسيس مركز لإعادة تأهيل الطيور الجارحة، فيقول: "المركز بعيد جداً، ولهذا تعرضنا لحالات قام البعض فيه بإشهار أسلحتهم علينا في منتصف الليل، كما أن بعض من يمتلكون تلك الطيور يبذلون كل ما بوسعهم لاستعادتها"، بما أن تلك الصقور تباع بآلاف الدولارات.

بقي المركز يؤوي حتى آذار 2022 نحو ستة طيور جارحة، معظمها صودر على الحدود أو في المطارات من عشاق للصقور زاروا البلد وجلبوها معهم إلى الأردن بهدف الصيد، من دون أن يكون معهم ورقة تثبت التصريح لهم بذلك، أو من مهربين حاولوا إخراج تلك الطيور إلى دولة أخرى.

الصيد بالصقور

تُحوّل الصقور التي تصادرها الجمارك إلى مركز الرعاية هذا حتى تمضي هناك بضعة أشهر أو سنوات قبل أن تفصل المحكمة بأمرها لتعيدها لأصحابها أو تسلمها للمركز بشكل دائم، وهنا تبدأ عملية طويلة ومحفوفة بالمخاطر لإعادة تأهيل الصقر، إذ يقوم كادر المركز على مدار أسابيع بتعليم الصقر على نسيان يد الإنسان التي أطعمته مؤخراً، وبعد ذلك يطلق سراحه في البراري.

يصف حميدان العملية بقوله: "عندما نطلق سراح الصقر، تبدو العملية أشبه بعملية تنفذها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، لأننا نتوجه لمكان إطلاق سراح الصقر عند الفجر، لنتأكد من خلوه من أي شخص كان وعدم اطلاع أي أحد على العملية، حتى لو كان هذا الشخص أحد الموظفين لدينا. وإننا نقوم بكل ذلك حتى لا يعرف أحد المكان الذي نطلق سراح الصقر منه، وبذلك لن يحاول أي أحد اصطياده من جديد".

زاد الطلب على الصقور في دول الخليج الثرية مثل السعودية والإمارات وقطر، وذلك لأن الصيد بالاعتماد على الصقور رياضة مشهورة هناك، حيث يبحث الصيادون عن طيور القطامي والشاهين والصقور البرية بشكل خاص ويجزلون في العطاء مقابل الحصول عليها وذلك لما تتمتع به من مهارات في مجال الصيد.

غير أن أعداد الصقور البرية قد تراجعت إلى حد كبير في كثير من المناطق في العالم خلال القرن الماضي بسبب عوامل كثيرة، أهمها استخدام المبيدات، وتراجع المحميات وتدهورها، والصيد الجائر، ولهذا أصبحت الصقور من الأنواع المهددة بالانقراض كما تناقصت أعداد الصقر الأسخم والعويسق الأحمر في مختلف أنحاء حوض البحر المتوسط. وساهمت عملية صيد الصقور في نفوق تلك الأنواع بعدما غزت الثروة النفطية دول الخليج في ثمانينيات القرن الماضي. إذ في تقرير للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة تبين بأن صيد الطيور وإيقاعها في الأفخاخ قد هدد بالانقراض أكثر من 40 نوعاً من أنواع الطيور الجارحة والتي تتخذ موائل لها في منطقة حوض المتوسط، ما جعل تلك الأنواع أكثر أنواع الطيور الجارحة المهددة بالانقراض في تلك المنطقة.

ولمواجهة هذا الوضع، وضعت قيود على التجارة بالصقور البرية على مستوى العالم لفترة طويلة وذلك بموجب الاتفاقية المعنية بالتجارة العالمية بالأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات البرية، ولذلك صار بوسع الصيادين الذين يستعينون بالصقور شراء طيور ربيت في أقفاص بدلاً من الأنواع البرية، إلا أن معظم الصيادين مايزالون يلهثون خلف الصقور البرية، بما أنها تتمتع بمهارات أفضل في مجال الصيد. وعلى الرغم من الجهود الدولية التي بذلت لحماية تلك الطيور، ماتزال عمليات تهريبها رائجة في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا، بعد 12 عاما من الحرب والأزمة الاقتصادية التي تلتها والتي جعلت من تجارة الصقور تجارة مربحة أكثر من أي وقت مضى.

الرحيبة في سوريا عاصمة الصقور

تطورت عملية صيد الصقور بالأفخاخ لدرجة كبيرة في سوريا خلال ثمانينيات القرن الماضي من جراء ارتفاع الطلب عليها في الخليج، وهكذا ظهر صيادو الصقور في شمال شرقي سوريا، بما أنها منطقة مستوية خالية من المرتفعات وشبه جافة وهذا ما جعلها مناسبة لصيد الصقور، وقد تعلم هؤلاء صيد الصقور عبر احتكاكهم بمربي الصقور في الخليج.

وسرعان ما انتشرت تلك المعارف، فأصبحت سوريا خلال عقود قليلة قبلة لتجارة الصقور في المنطقة، على الرغم من أنها دولة موقعة على معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض، وبحلول عام 2009، استقبلت مدينة الرحيبة السورية المعروفة محلياً بأنها عاصمة الصقور ما لا يقل عن 170 شخصاً يعملون في مجال تربية الصقور بهدف الصيد أو للاتجار بالصقور، وعلى الرغم من أن اصطياد الصقور البرية مخالف للقانون السوري ولقوانين دول المنطقة، بقيت العقوبات المفروضة على تلك الممارسة واهية ونادراً ما تطبق. وهكذا استغل تجار الصقور الثغرات القانونية ليتاجروا بالطيور علناً في السوق المحلية، على الرغم من أن تصديرها محظور رسمياً بحكم القانون.

يتذكر علماء الطيور الذين اشتغلوا في سوريا خلال فترة الألفينات كيف كان الصيد شائعاً خلال تلك الفترة، إذ يقول حميدان وهو يتذكر زيارته لمحمية سبخة الجبول الطبيعية التي تعتبر موطناً لتلك الطيور، فيقول: "كان كل أهل الريف منخرطين في تربية الصقور بهدف الصيد، سواء عبر نصب الأفخاخ لها أو تدريبها أو تهريبها. وفي إحدى القرى رأينا ثلة مكونة من 40 صياداً على دراجات نارية وهم يتعقبون صقراً! وفي إحدى المرات تحتم علينا منع مرشدنا من إخبار أصدقائه عن مشاهدته لأحد الصقور في المحمية".

ظهرت نوبة الصيد المحمومة هذه بسبب المبالغ الباهظة التي أصبح البعض على استعداد لدفعها مقابل الحصول على الصقر، وهكذا أصبحت تلك التجارة مربحة إلى أبعد الحدود، لدرجة دفعت بعض ناصبي الأفخاخ من السوريين للشروع بصيد الصقور خارج سوريا، إذ كانوا يتعقبون الطيور لتصل إلى مواطنها في وسط آسيا، وحتى اليوم ماتزال كنية "السوري" تلتصق بطائر السنقر بين صياديه في روسيا، في إشارة لانتشار ظاهرة ناصبي الأفخاخ من السوريين هناك بما أنهم أصبحوا رواداً في هذا المجال.

 

Falcons are hooded, sedated and wrapped before being smuggled out of Syria, as shown in this image from a falcon trapper.

صقور وقد عصبت عيونها وربطت أرياش ذيولها قبل تهريبها خارج سوريا كما عرضها سوري اصطادها

 

مبالغ باهظة

عند بدء الحرب السورية، تضررت تجارة الصقور محلياً كما تضرر المجتمع المشتغل بها بكامله، ففي بعض المناطق السورية، لم يعد بوسع الصيادين السفر إلى مرابع الصيد التي يفضلونها، كما أصبحت بعض المناطق خطرة بسبب وجود العديد من الميليشيات فيها، إلى جانب انتشار الألغام الأرضية شديدة الانفجار التي زرعت في مناطق مختلفة من البلد. 

وحول ذلك يقول فايز الحسوني وهو تاجر طيور من أهالي الجزيرة السورية: "تضرر الجميع بسبب الأزمة بمن فيهم الصيادون، إذ لم يعد ناصبو الأفخاخ يذهبون إلى الأماكن التي تشهد قتالاً أو تظهر فيها مشكلات أمنية". كما انقطعت شبكات الاتجار بالطيور وتهريبها، ومايزال النظام السوري يسيطر على عاصمة الصقور: الرحيبة، في حين تخضع كثير من مرابع الصيد لسيطرة الجماعات المسلحة، وتعتبر أي عملية تجارة بين تلك المناطق بمنزلة حالة غدر وخيانة كما تتطلب رشى باهظة حتى يتم تمريرها.

وعلى الرغم من هذه التحديات، بقي صيد الصقور مستمراً طوال الحرب، بل إنه زاد، إذ يقول الحسوني: "ارتفع سعر الطيور كثيراً، ولهذا دخل كثير من الأشخاص الجدد لهذا المجال وشرعوا بنصب الأفخاخ"، بيد أن الحرب والعقوبات الأجنبية أدخلت البلد في أزمة اقتصادية حادة، بعدما أصبح الدولار الواحد الذي كان قبل الحرب يعادل خمسين ليرة سورية، يباع في السوق السوداء بـ12 ألف ليرة وذلك حتى مطلع شهر تموز من عام 2023.

وبما أن الصقور تباع بالدولار في الخليج، لذا ارتفعت قيمتها خلال السنوات الأخيرة، إذ بحسب ما ذكره أبو صدام وهو صياد من المنطقة الشرقية بسوريا يتمتع بخبرة عمرها عشرون عاماً في مجال صيد الصقور، فإن ذلك هو الذي أدى لارتفاع غير مسبوق بعمليات الصيد ونصب الأفخاخ، ولهذا يقول: "خلال السنوات الأربع الماضية، زاد عدد من أخذوا ينصبون الأفخاخ للصقور نظراً لارتفاع أسعارها، بل حتى الأشخاص الذين لا يعرفون أي شيء عن الصيد شرعوا بالعمل في هذا المجال ليجربوا حظهم في هذه التجارة".

 

Abu Saddam, right, with fellow hunters from al-Tash, Syria, in April 2023.

أبو صدام إلى اليمين وبجواره صيادان سوريان – تاريخ الصورة: نيسان 2023

 

في مقابلة مع أبي صدام، كشف هذا الرجل عن وجود شاهين صغير لديه اصطاده قبل بضعة أيام، وذكر بأنه يتوقع له أن يباع بنحو عشرة آلاف دولار، إذ في تلك القرية القصية التي يعيش معظم أهاليها في بيوت طينية متواضعة ويكسبون قوت يومهم القليل عبر الزراعة والرعي، أصبحت كل عملية صيد لشاهين أو صقر هبة من السماء تهبط على المجتمع برمته، إذ يخرج الصيادون وناصبو الأفخاخ للصيد عادة في مجموعات مؤلفة من خمسة إلى عشرة أشخاص أو يزيدون، ثم يتقاسمون أرباح الصيد فيما بينهم.

يختلف سعر الطير بحسب حجمه، وعمره، ونوعه، لكنه يعتبر ثروة لأهالي تلك المنطقة، إذ يخبرنا علي وهو صياد آخر يقيم في جنوبي البلاد بأنه تم اصطياد 14 صقراً في قريته خلال الخريف الماضي، وبيع كل منهما بسعر جيد، تراوح ما بين 1600 إلى 30 ألف دولار.

لكن الأمر لا يتعلق بالمال فحسب، إذ على مدار السنين، تحولت تلك التجارة المربحة إلى جزء لا يتجزأ من تراث المنطقة، وإلى شغف وهواية يتوارثها الأجيال كابراً عن كابر، إذ يعتبر صيادو الصقور تلك الممارسة بأنها صلة وصل تربطهم بالطبيعة، ويتصل هذا النشاط أيضاً بنظرة تخص الرجولة والمرونة والقدرة على العيش في البادية والصحراء، وهذا ما جعل أبا صدام يقول: "تحول الأمر إلى إدمان يجري في عروقنا، إذ إننا نصطاد الطيور حتى وإن لم تدر علينا ربحاً وفيراً".

 

Leather hoods are used to cover falcons’ eyes to keep the birds calm.

عصابات جلدية تستخدم لتغطية عيون الصقور بهدف تهدئتها

مشكلة في المنطقة

مع ازدياد عمليات نصب الأفخاخ، بات على شبكات تجارة الطيور إعادة ترتيب صفوفها لتتكيف مع الوضع الجديد، إذ ذكر الصيادون وناصبو الأفخاخ بأن معظم الصقور ماتزال ترسل إلى الرحيبة، على الرغم من أن ذلك يعني مرورها على كثير من الحواجز الأمنية لتدخل إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، ومن الرحيبة، تنقل جواً إلى الخليج عبر لبنان، أو تهرب عبر الجارتين: العراق أو الأردن. كما ظهرت طرق بديلة لمسار رحلة الصقور، إذ إن بعض التجار المقيمين في المنطقة الشرقية بسوريا يرسلون طيورهم مباشرة إلى العراق ومنها إلى الخليج.

ولعمليات تهريب الطيور التي تفشت في سوريا تداعياتها الإقليمية أيضاً، بما أن الأردن والعراق تحولا إلى ممر بري أمام الصقور التي يجري اصطيادها في سوريا، ولهذا صار كل منهما يمثل محوراً لاصطياد تلك الطيور، ما جعلهما يشرعان بفرض قيود على الصيد الجائر ضمن حدودهما.

 

An Egyptian vulture

نسر مصري مهدد بالانقراض معروض للبيع بسوق الغزال في بغداد

 

غالباً ما يمارس ناصبو الأفخاخ الأردنيين عمليات الصيد في منطقة بادية الجفر بما أن سيطرة السلطات الأردنية عليها محدودة، وهذا ما دفع فارس خوري مؤسس ورئيس منظمة جوردان بيردووتش للقول: "لا توجد شرطة ولا حراس في تلك المناطق، ولهذا من المعروف عن المنطقة انتشار كثير من الأفخاخ فيها، إلا أن أحداً لا يبلغ عن هؤلاء الأشخاص".

أمضى خوري بضعة أسابيع في بادية الأردن برفقة ناصبي الأفخاخ ليدرس عمليات الصيد التي يتبعونها، فذكر بأن الصيد الجائر ارتفع بنسبة ملحوظة مع الصقور وغيرها من الطيور الجارحة، وفي ورقته البحثية التي نشرها عام 2020 تحدث عن الفترة التي أمضاها برفقة ناصبي الأفخاخ، وعن ذلك يقول: "إن العملية غير منضبطة البتة، ولا توجد بين أيدينا أرقام دقيقة حول عدد الطيور التي تم اصطيادها بوساطة الأفخاخ في الأردن وفي المنطقة عموماً، وهذا ما يشجع الناس على نصب الأفخاخ لمزيد من الطيور، بيد أن ذلك جعل الصقور الوكرية والشواهين البربرية نادرة بل مهددة بالانقراض في الأردن".

أما في العراق، فإن تجارة الصقور المزدهرة تتم علناً في معظم الأحوال، إذ في مدن مثل بغداد والمحافظات الشرقية مثل دهوك والسليمانية، أصبحت الأحياء البرية المحمية تباع في أسواق مفتوحة، ويعرض فيها صغار الطيور الجارحة والنسور المصرية المهددة بالانقراض التي يخلط الصيادون غير المتمرسين بينها وبين الصقور في بعض الأحيان.

كما هي الحال في سوريا التي تقسمت إثر مرور 12 عاما على النزاع، يعاني العراق من عدم استقرار على المستوى السياسي بعد عقود من الحرب، ولهذا من الصعب أن تكون عملية حماية الحياة البرية أولوية بالنسبة لهذا البلد، إلى جانب وجود مصاعب لوجستية تتمثل بعدم القدرة على فرض رقابة على المناطق القصية حيث تمارس النخب المحلية سلطتها التي تفوق سلطة الدولة والحكومة المركزية.

ولكن مع استعداد ناصبي الأفخاخ في العراق وسوريا للتوغل في حقول الألغام بغية اصطياد الصقور، لن تنفع أي قوانين جديدة لفرض النظام ومراقبة كل من يقوم بالصيد الجائر، ومع معاناة شرائح كبيرة من سكان هذه المناطق بسبب الفقر، أضحى السبيل الواقعي الوحيد لمعالجة مشكلة الاتجار بالصقور خلال السنوات المقبلة هو التعامل مع الجانب الذي يطلب هذه البضاعة، ويتمثل ذلك بالتضييق على مربي الصقور الأثرياء المستعدين للمخاطرة بأرواح الطيور التي يعشقونها وتهديدها بالانقراض.

 المصدر: Mongabay