تقاسيم على مقام الشرق الأوسط الجديد

2023.10.25 | 06:16 دمشق

آخر تحديث: 25.10.2023 | 06:16 دمشق

تقاسيم على مقام الشرق الأوسط الجديد
+A
حجم الخط
-A

كي لا يُكتب على أكفانهم حين دفنهم "مجهول الهوية"، يقوم الآباء الفلسطينيون بكتابة أسماء أبنائهم على أيديهم وأرجلهم، لكي يتم التعرف إليهم عندما تفتت أجسادَهم صواريخُ الاحتلال الإسرائيلي، إنه التكثيف الأشد تعبيراً عن الوجه الأصيل للحضارة الإنسانية في لحظتنا الراهنة!

البطولة الوحيدة التي يتشدّق بها معظم ساسة العالم اليوم، ويتباهون بها في كل جهات الأرض هي إدخال الطعام والشراب والمواد الطبية لسكان غزة المحاصرين بالقصف والموت من ست جهات الأرض..! لكأنما يريد هؤلاء الساسة القول إن منح الفلسطينيين موتاً أقل وحشية هو أعظم ما يمكن فعله، شكراً للقلوب الطيبة!!

للحقيقة ثمة بطولة أخرى، وإن كانت أقل أهمية بنظرهم عن إدخال الطعام والدواء للمحاصرين بالموت في غزة، إنها بطولة التشديد على عدم اتساع رقعة الحرب، أميركا ترفض اتساع رقعة الحرب، وكذلك إسرائيل، وأوروبا والحكومات العربية و..و.. لكأنّما حصر مساحة الحرب في غزة حتى إبادة الفلسطينيين فيها ليست مشكلة، وكأنّما يحق لإسرائيل أن تستفرد ومعها جيوش وأساطيل قوى كبرى بغزة حتى إنهائها، وهذا ما تسعى له أطراف كثيرة، حتى تحسبه قد أصبح مطلبا عالميا؟؟!!

بيان أميركي، كندي، فرنسي، ألماني إيطالي بريطاني يؤكد دعم إسرائيل و"حقها في الدفاع عن نفسها"، لكنه وللإنصاف فإنه يحثها على الالتزام "بالقانون الدولي وحماية المدنيين"، المفارقة المبكية والمضحكة في هذا البيان، أنه ينسف القانون الدولي من جذوره، ثم يحث إسرائيل على الالتزام به، إنها مزحة سمجة وتثير الغثيان، فعدد الأطفال الفلسطينيين الذين يقتلون من جراء القصف الإسرائيلي على غزة يقارب الـ 200 طفل يومياً، وإسرائيل هي وفق القانون الدولي إياه دولة محتلة، وهي تشن حربها على منظمة وليس على دولة أخرى… حسناً ربما يتطلب الأمر أن تعيد هذه الدول صياغة القانون الدولي، وتعريفاته حول "الدولة" وحول "الاحتلال" وحول "المنظمة"، كي نعرف نحن الذين نتلقى كل هذا الهراء، كيف سنرتب الكذبة في عقولنا، (ملاحظة برسم الدول المذكورة، وللعلم فقط، فإن مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة قام بتمزيق التقرير الذي أعدته الأمم المتحدة وفق القانون الدولي بانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي في حربها على غزة، وأين ..؟ على منصة الأمم المتحدة)!!.

ثمة رأي يبعث على الضحك حقاً، ويتم تداوله بسهولة فائقة، كما لو أنه قيمة إنسانية عليا، ويتنافس الزعماء والمحللون بترديده وهو أن التهجير خط أحمر.. حسناً هل نفهم منكم أيها السادة أن الإبادة ليست خطا أحمر؟؟!!

عدد مشاهدات حوار "باسم يوسف" مع "بيرس مورغان".. تجاوزت الخمسة عشر مليوناً على منصة واحدة، عدد مشاهدات تغريدة "محمد صلاح" أيضا تجاوزت الثلاثين مليوناً، حسناً نحن الأمة المنتصرة، فلا وجه للمقارنة أبداً بين عشرات الملايين من المشاهدات، وبين ألف طن فقط من الذخائر، والقنابل والصواريخ التي أرسلت إلى الجيش الإسرائيلي!!

ثمة رأي يبعث على الضحك حقاً، ويتم تداوله بسهولة فائقة، كما لو أنه قيمة إنسانية عليا، ويتنافس الزعماء والمحللون بترديده وهو أن التهجير خط أحمر.. حسناً هل نفهم منكم أيها السادة أن الإبادة ليست خطا أحمر؟؟!!

في مواجهة المعادلة الوحيدة التي طرحها "نتنياهو" على فلسطينيي غزة (الموت أو التهجير)، والتي تُناقش في أروقة السياسة العالمية، كما لو أنها اقتراح في السياسة، اقترح رئيس أقوى دولة عربية تهجير أهالي غزة إلى النقب!! هذه هي السياسة في صيغتها الشرق أوسطية الجديدة، يبدو أن التهجير أصبح فعلاً سياسياً وليس جريمة فاضحة، والصمود العربي لم يعد بوارد تقييم التهجير كفعل إجرامي، مجلل بالعار، بل أصبح التقييم الأهم في المكان الذي سيهجر الفلسطينيون إليه، السخرية المرّة هي أن إسرائيل تستشهد على شرعية تهجيرها للفلسطينيين، بتهجير بشار الأسد لملايين السوريين!.

هل سيتم اتهامنا بالخيانة إن لم نصدق الرئيس الروسي "بوتين"، عندما يدافع عن المدنيين الفلسطينيين في غزة، وكذلك حسن نصر الله وإيران، وهل حقاً يريدون منّا نحن السوريين أن نصدق ذلك..؟؟!!

حسناً سامحونا إن لم نصدق ما تقولون، فنحن السوريين اعتدنا منذ أكثر من عقد أن نقرأ السياسية بلغة أخرى.. ولم نعد نسمع أو نقرأ ما يقال في الخطب والإعلام وفضاءات الميديا، نحن فقط تعلمنا أن نتهجى السياسة بعيون أطفالنا المطفأة، وفي أجسادهم التي نجمع بقاياها من تحت أنقاض بيوتنا المدمرة.

في الشرق الأوسط الجديد يحضر الوجه الأقبح للتاريخ، عندما يصبح القتلة هم من يرسمون مصير هذا الشرق، من نتنياهو إلى كل "خصومه" الذين ينتشرون على مساحة الجغرافيا المحيطة بفلسطين المحتلة

في الشرق الأوسط الجديد الذي يبشرنا به كثير من القادة والمنظرين والساسة ثمة حقيقة لا يزال أقطاب السياسة في العالم كله يُجمعون عليها، وهي أنه لا أهمية لشعوب هذه المنطقة، إنها باختصار أرض غنية، تحتل موقعاً جغرافياً ممتازاً، وتمتلك ثروات طبيعية مهمة وخاصة "النفط"، وعلى الأقوياء تقاسمها، الغريب أن ما يحدث في غزة، وما ينتج عنه من اتساع رأي عام عالمي معارض، لم يعلم هؤلاء الساسة أي درس!!

في الشرق أوسط الجديد يحضر الوجه الأقبح للتاريخ، عندما يصبح القتلة هم من يرسمون مصير هذا الشرق، من نتنياهو إلى كل "خصومه" الذين ينتشرون على مساحة الجغرافيا المحيطة بفلسطين المحتلة، لا معنى للحديث عن حقوق الشعوب، ولا معنى لحرية الشعوب، ولا معنى لأي من حقائق التاريخ، فقط القوة التي تستبيح حياة هذه الشعوب، فتقتلهم، وتهجرهم وتسجنهم و..و..

في مطلع القرن السابق، بني الشرق الأوسط على أكبر كذبة في التاريخ، كذبة أرض "التوراة" التي "وعد" الله بها شعب إسرائيل، أو أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فهل تكون الكذبة الأكثر عهراً اليوم، والتي سيبنى الشرق الأوسط الجديد عليها، هي أن العمامات التي استماتت في تحطيم شعوب هذه المنطقة طوال نصف قرن، سوف تصحح مسار الكذبة الأولى؟؟!!