ترييف الثورة أم صراع الريف والمدينة؟

2020.07.08 | 00:01 دمشق

zzz_5.jpg
+A
حجم الخط
-A

جدل جديد فجرته منشورات حديثة لشخصيتين من المعارضة تتعلق بالعلاقة بين (فشل الثورة) وغلبة الطابع الريفي عليها، وعلى الرغم من التوضيحات التي عقب بها صاحبا المنشورين لتوضيح فكرتهما، فإن ردود الفعل المنتقدة والغاضبة كانت قوية.

والواقع فإن العلاقة بين الريف والمدينة، والفوارق بين المجتمعين ليست محل جدل سوري أو عربي فقط، بل كانت ومنذ عصور سحيقة قضية بحث ودراسة وتفكير، في كل أنحاء العالم.

كما أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها طرح هذه القضية في الأوساط الثورية والمعارضة، لكن معظم الطروحات كانت وما تزال مجرد انفعالات ومواقف شخصية، تم الرد عليها غالباً أيضاً بشكل انفعالي لا يفيد المسألة ولا أصحابها من الثوار والمعارضة، سواء أبناء الريف أو أبناء المدينة، ولا يخدم قضيتهم السياسية.

وإذا كان كثيرون يرون أن من الخطأ طرح هذا النوع من القضايا بالأصل، ولهم مبرراتهم المنطقية إلى حد كبير طبعاً، إلا أن الموضوعية تقتضي، كما أظن، تناول كل الأسباب التي نعتقد، مخطئين أم مصيبين، أنها أدت لفشل الثورة حتى الآن.

وترييف الثورة، مثلها مثل عسكرة الثورة وأسلمتها، ملفات لا يجب التعامل معها بحساسية مفرطة في كل مرة، مثلما لا يجب تناولها بهذا الاستسهال الذي يجري عليه الأمر، هذه الحساسية وهذا الاستسهال أديا في النهاية إلى مزيد من التعقيد لا أكثر!

فمن غير الموضوعي أن يقبل كثيرون، وبينهم عسكريون وأبناء ريف بطبيعة الحال، بتكرار طرح قضية أسلمة الثورة باعتبارها سبب من أسباب فشلها، لكنهم يرفضون في الوقت نفسه مناقشة مسألتي عسكرة الثورة وترييفها، وكذلك فإن من مجافاة الموضوعية أن يقبل البعض بمناقشة ترييف الثورة، لكنه يرفض الاقتراب من مسألة أسلمتها أو عسكرتها.

إن الأمر يتعلق بالنهاية في كيفية مقاربات هذه المسائل ودرجة العلمية التي يتم تناولها بها، فانتقاد عسكرة الثورة لا يعني بالطبع انتقاد كل من حمل السلاح من أجل الدفاع عن النفس ولحماية الحواضر التي كانت تتعرض للهجمات الدموية من قبل قوات الجيش والشبيحة والميليشيات الطائفية، بل يفترض أنه يتعلق بتغول دور العسكريين على حساب المدنيين من الثوار والمعارضيين، الذين فرض عليهم واقع العسكرة المتضخم الخروج من المشهد عملياً وانتزاع الفاعلية منهم، بعد أن أصبح القول والفعل بالنهاية لصالح من بيده السلاح.

وكذلك انتقاد أسلمة الثورة، فهو لا يعني بأي حال رفض أن يكون معظم الثوار، المدنيين والعسكريين من المسلمين السنة، أو حتى من المتدينين، بل يتعلق تحديداً بهيمنة جماعات الإسلام السياسي بمختلف توجهاتها ومدارسها على الفعل الثوري، العسكري والمدني، وإقصاء التيارات السياسية الأخرى بالقوة المادية والمعنوية، تحت ذرائع واهية، من بينها أن الغالبية العظمى من الثوار ومن الضحايا هم مسلمون، وهذا يفترض أن جميع المسلمين "إسلاميون" بالمعنى السياسي، وهذا غير صحيح بطبيعة الحال.

على ما تقدم، فإن انتقاد ترييف الثورة من منطلق عدم صوابية الهيمنة التي آلت لأبناء الريف على المواقع القيادية في مؤسسات الثورة والمعارضة، وتحديداً القوى الفاعلة منها، وهي إذن الفصائل العسكرية، وابتعاد أو إبعاد أبناء المدن عن قيادة هذه الفصائل حتى داخل الأجزاء الخاضعة لسيطرتها من المدن، بقصد أو كنتيجة، يصبح نقاشه أمراً مشروعاً، لكن وفق ضوابط ومقتضيات علمية، الهدف منها الفهم والاستفادة لا الجدل والسجال السلبي الذي يزيد الحساسيات ويعمق الانقسامات.

إن التهرب من مناقشة أسباب فشلنا يساوي تماماً طرح هذه الأسباب للنقاش غير العلمي، ولا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي عامل أساسي في إذكاء الحساسيات مع المجال الذي باتت توفره هذه الوسائل للجميع من أجل الإدلاء برأيهم في كل القضايا، وهو ما يعيدنا إلى مراحل الثورة الأولى عندما حدث انقسام خطير بين الريف والمدينة، نتيجة اتهام أبناء المدن الكبرى بالتخاذل والجبن وتأييد النظام بسبب عدم مشاركتها القوية في المظاهرات.

نحن إذن أمام قضية سياسية مزمنة، وليست طارئة على الثورة كما يدعي البعض، كما أننا إزاء مسألة اجتماعية قديمة وثابتة لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها بادعاء أن العالم تغير، وأن ثورة المعلومات والاتصالات هدمت كثيرا من الحواجز والفروق بين المجتمعات، ولا يمكن بالتالي إلا الإقرار بالاختلاف بين مجتمع المدينة والريف والبادية، سواء في طرق التفكير أو أساليب التعبير أو وسائل التعامل مع الظواهر والأحداث، وهي اختلافات طبيعية في النهاية ولا تتضمن بداخلها حكماً مسبقاً يقضي أياً منها الجيد وأياً منها السيئ، وهي اختلافات خفت حدتها أيضاً، لكنها لم تنته، بدليل هذا الجدل الذي يتفجر حولها في أوساط الثورة كل يوم.

إن الملاحظة التي لا يمكن إلا الاعتراف بها وتسجيلها بعد كل السجالات التي دارت فيما يتعلق بهذه القضية، هي أن المناقشين والمشاركين في الجدل حولها لا يناقشون مسألة ترييف الثورة، هل حصلت فعلاً ولأي حد وما هي الأسباب وما هي النتائج.. بل يعبرون غالباً عن الصراع بين الريف والمدينة للأسف.