ترمب والكرد وسوريا

2019.11.12 | 15:55 دمشق

ترمب وأردوغان
+A
حجم الخط
-A

لم تخفت بعد حدة الانتقادات التي تعرض لها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد قراره المفاجئ سحب قواته من سوريا خاصة من مدينتي تل أبيض ورأس العين تاركا الباب لسيطرة القوات التركية عليهما ضمن عملية تركية عسكرية أوسع تستهدف إنشاء "منطقة آمنة" على الحدود السورية التركية، فهذا القرار كشف الكثير عن طبيعة القرارات التي يتخذها الرئيس ترمب وتتعلق بالأمن القومي الأميركي وبطريقة تعامله مع السياسة الخارجية وخاصة في قضايا حساسة مثل الملف السوري الذي تتداخل فيه كثير من المصالح الدولية والإقليمية، حيث اتخذ ترمب قراره بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومن ثم أعلن سحب القوات الأميركية هناك، وبعدها بدأت ردود الفعل الغاضبة من قبل قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي ضد هذا القرار.

بالرغم من أن الرئيس ترمب كان قد أعلن نهاية العام الماضي سحب قواته من سوريا وتحديدا في ديسمبر من عام 2018، فإن مجلس الأمن القومي اجتمع وقرر بقاء القوات الأميركية هناك لفترة غير محددة، وخرج وزير الدفاع الأميركي حينها ومستشار الأمن القومي ووزير الخارجية لتبرير عدم سحب القوات وربطها بثلاثة ملفات أخرى وهي القضاء كلياً على داعش حيث ما يزال يحتفظ بالكثير من الجيوب في شرق سوريا، وثانيا انسحاب الميليشيات الإيرانية من سوريا، وثالثاً ضمان الاستقرار في سوريا، فقرار ترمب الأخير الذي أعلن عنه بشكل مفاجئ هذا الشهر مرة أخرى ناقض كل ما قاله مستشاروه للأمن القومي وما ردده المبعوث الأميركي للقضاء على داعش جيمس جيفري وغيرهم من المستشارين الذين يعملون ضمن دائرة الأمن القومي التي وظيفتها تقديم المشورة للرئيس ترمب في مثل هذه القضايا.

يكشف القرار مجدداً أن الرئيس الأميركي هو أقرب إلى الرؤساء الانعزاليين منه إلى رؤساء الولايات المتحدة التدخليين

يكشف القرار مجدداً أن الرئيس الأميركي هو أقرب إلى الرؤساء الانعزاليين منه إلى رؤساء الولايات المتحدة التدخليين فهو بالرغم من أنه ضاعف من ميزانية وزارة الدفاع الأميركية إلى مستويات قياسية لم يسبق لها مثيل إلا أنه يرغب دوماً بسحب هذه القوات حتى من القواعد العسكرية التي تمثل أهمية حيوية للولايات المتحدة في مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وقد قرر ترمب أنه بسحبه قواته من سوريا فإنه ينفذ وعوده الانتخابية بسحب كل القوات الأميركية من الخارج والتخلص مما يسميه التحرريون وعلى رأسهم السيناتور راند بول "الحروب التي لا تنتهي".

وهو ما جعل ترمب يردد هذه العبارة باستمرار في كل مؤتمراته الصحفية الذي يعرف أنها تجد أذنا لدى كثير من الأميركيين الذي لا يجدون معنى لبقاء القوات الأميركية في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها، دون أن يكترث أو يبالي بالتداعيات الخطيرة للقرار، وخاصة السؤال الذي يدعو نفسه لماذا قرر ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا التي ما يزال فيها جيوب لداعش بما يعني أن المهمة التي أرسلت من أجلها لهذه القوات لم تنجز تماماً، كما أن الصراع مع روسيا فيها على أشده، كما ولم يقم بالشيء نفسه في العراق التي فيها حكومة مستقرة نسبياً وصديقة للولايات المتحدة كما أنه لا وجود لداعش أو بقاياه هناك، كما أن الجيش العراقي يحتفظ بوجود قوي وشرعية نسبية في أعين العراقيين، حيث يوجد فيها ما يفوق عن 5200 جندي أميركي بعد خفض عديدها عما كانت عليه قبل عام 2016.

كما أنه مع انسحاب القوات الأميركية من سوريا سيصبح السؤال من سيملأ الفراغ الذي سوف تتركه هذه القوات، وهي مناطق غنية بالنفط والغاز وذات موقع استراتيجي في حدودها مع العراق.

سيكون الخاسر الأكبر بالتأكيد هي قوات سورية الديمقراطية والتي هي عبارة عن قوات حزب العمال الكردستاني التي دربتها ومولتها الولايات المتحدة في حربها ضد داعش وهي لا تحتفظ بأية شعبية أو شرعية داخلية سوى حماية القوات الأميركية لها وأعادت تسميتها بقوات سورية الديمقراطية، ومع انسحاب هذه القوات بشكل سريع من المناطق الحدودية في تل أبيض ورأس العين ظهر أنه ليس لديها أي دعم شعبي في هذه المناطق كما كان يردد كثير من المسؤولين الأميركيين، ومع تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على تركيا وهي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الناتو يجعل السؤال هو أن كما لو ان الولايات المتحدة تدفع تركيا دفعا للارتماء في أحضان روسيا التي ربما تملأ فراغ القوات الأميركية.

لكن هل ستستطيع تركيا أن ترث كل مساحات الأرض التي ستتركها القوات الأميركية، هذا سؤال من الصعب الإجابة عليه وما يزال الموقف التركي في هذا الإطار غامضاً، فالقيادة التركية تدرك أن هذه المساحات تعتبر مساحات ضخمة للغاية وإبقاؤها تحت السيطرة التركية يحتاج إلى العديد من القوات والأسلحة والموارد المالية من أجل إدارة المجتمعات المحلية داخلها وخاصة في الرقة التي دمرتها القوات الأميركية بالكامل بهدف القضاء على داعش ولم تساهم أبداً في تمويل إعادة إعمارها أو إعادتها إلى الحياة بما يتطلبه ذلك من بنى تحتية وعودة للمدنيين هناك.

والآن انتهى دور هذه القوات على الأرض وقررت الولايات المتحدة رفع الدعم عنها لتلقى مصيرها وتعود إلى الجبال حيث مكانها الوحيد

لكن الطريف في الأمر حقا هو كيف تخلى ترمب عن قوات الحماية الكردية بشكل سريع ووصفهم بأنهم أشد إرهابا من داعش وأنهم ليسوا حلفاء للولايات المتحدة، لقد كان الخطأ الأكبر هو اعتماد إدارة الرئيس أوباما على هذه القوات في حربها ضد داعش خاصة في معركة عين العرب "كوباني" في أيلول 2014 ، فمدينة عين العرب أو كوباني كما يطلق عليها الكرد وهم أكثرية سكان المدينة خضعت لسيطرة وحدات حماية الشعب في يوليو 2012 وهي الميليشيا العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي أو بلغة أصح النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني PKK  الكردي-التركي وأعلنها الحزب حينها كانتوناً تابعاً لما يسمى الإدارة الذاتية الديمقراطية كجزء مما يسميه "غرب كردستان" أو "كردستان سوريا"، تعرضت المدينة لهجوم كبير من قبل تنظيم داعش في بداية سبتمبر 2014 ثم خضعت لحصار خانق من قبل التنظيم الذي حاول الدخول إلى المدينة واستباحتها، لكنه قوبل بصمود كبير من قبل ميليشيا وحدات الحماية الكردية التي تمكنت في النهاية من فك الحصار عن المدينة وتحريرها بشكل كامل من داعش بعد مساعدة قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، هنا بدأت الثقة الأولى بين الولايات المتحدة وقوات الحماية الكردية، فقد وجدت الولايات المتحدة في هذه القوات تدريباً عسكرياً جيداً بحكم كونهم مقاتلين ذوي خبرة من حزب العمال الكردستاني في حربه ضد الحكومة التركية على مدى عقود، وبنفس الوقت تنسجم هذه الميليشا مع سياسة الولايات المتحدة سياسياً وأيديولوجياً في عدم الاصطدام عسكريا مع قوات النظام السوري والتركيز فقط على قتال داعش، وهنا وجدت قوات الحماية الكردية أيضا هدفاً استراتيجياً لها في توسيع نطاق النفوذ الكردي أبعد من الكانتونات الثلاث التي سيطرت عليها بالتعاون مع النظام في الحسكة وعفرين وعين العرب (كوباني)، وهنا ركزت الولايات المتحدة على تحالفها مع قوات الحماية الكردية التي طلبت منها تغيير اسمها إلى ما يطلق عليه اليوم "قوات سورية الديمقراطية" لإعطاء انطباع أنها تضم قوات عربية عشائرية في حربها ضد داعش.

والآن انتهى دور هذه القوات على الأرض وقررت الولايات المتحدة رفع الدعم عنها لتلقى مصيرها وتعود إلى الجبال حيث مكانها الوحيد.